تبدو العلاقات الدولية بكل أبعادها ومالاتها ودوافعها السياسية والاقتصادية والاستراتيجية والجيوبولتيكية في حالة ارتباك غير مسبوق وفي ذروة انهيار الثقة المحورية بين الأقطاب المتصارعة من جهة وأتباعهم الإقليميين والقاريين ؛ بصورة تبدو أطيافها الكلية وكأننا نشاهد ( لوحة سريالية ) عبثت بها ريشة ( سلفادور دالي ) المعروفة بأطيافها العبثية ..؟!!
فالصراع المحوري القائم هو صراع خارج عن المألوف تماما كما هو الحال في بؤر التوتر الوطنية والإقليمية الذي تداخلت فيه كل النوازع والنزعات وفيها تحول الصراع من صراع على ( السلطة ) في التوصيف _ المجازي _ إلى أخر متعدد الدوافع والأسباب والأهداف لتدخل فيه ( المذهبية _ والطائفية _ والقبلية _ والمناطقية _ والحزبية ) هذا على مستوى النطاقات الداخلية ؛ إضافة إلى العوامل الخارجية المؤثرة الإقليمية والدولية ؛ وفيما غدا من الصعوبة تحديد محاور التنافسات والتناقضات الدولية وخيارات أقطابها ورغباتهم أو أهدافهم المحورية التي تشكل دافع وغاية صراعهم ؛ فأن ذات الصعوبات تواجه أطراف الصراعات المحلية التي دمرت كل الروابط الاجتماعية ومزقت كل انسجة الترابط والتلاحم المجتمعي ..؟!
بيد أن صراع المكونات الوطنية يتماهى فيما يبدو مع الحسابات الإقليمية المتناقضة وبالتالي ترتقي كل الأطياف مع أطياف التناقضات _ القطبية _ بحيث لم يعد المراقب قادر على استنتاج جدلية العلاقة الصينية _ الأمريكية _ مثلا _ ومدى انسجام الرغبات الروسية مع المسارات الصينية من ناحية ؛ وانسجام الرغبات البريطانية الأوروبية مع الخيارات الأمريكية من ناحية أخرى ..!
وفيما تبدو الإشكالية محصورة بتوافق _ قطبي _ يصعب التنبؤ بحدوثة على المدى المنظور ؛ فأن ثمة معاناة فاجرة القسوة والمعاناة تعيشها بعض النطاقات الجغرافية الوطنية التي تبدأ ب ( اليمن ) مرورا ب ( سوريا ) و ( ليبيا ) دون أن نغفل تداعيات أخرى تبحث عن هوية ومرسى في السودان والصومال والعراق ولبنان وتونس وصولا للعلاقات الجزائرية _ المغربية وأزمة الصحراء التي تمثل للدولتين ولكل دول المغرب العربي ( برميل بارود ) ..!!
ومع كل هذا هناك _ مثلا _ تداعيات القارة السمراء وما يعتمل في مكوناتها من نزاعات ستلقي بظلالها على مختلف النطاقات بصورة أو بأخرى ؛ كل بؤر التوتر هذه مرهونة بدورها بمدى الانسجام _ الإيراني _ الخليجي _ المرهون بدوره لرغبة _ واشنطن _ لندن وخلفهما بقية الترويكا الأوروبية ولكن الأهم في هذا المحور الاستبدادي بقيمه وتراثه الإمبريالي الاستعماري هو دور ورغبة ( الكيان الصهيوني ) الذي يتحكم في هذا المحور ومصلحته تحكم شكل ونوعية العلاقة فيما بين أطرافه ..وإذا كانت ( طهران ) استطاعت خلال العقد الأخير فرض معادلات جيوسياسية مستغلة ما يمكن تسميته بالفراغ الاستراتيجي في المنطقة وتراجع المؤثرات ( الصهيو إمبريالية ) والحضور الرجعي العربي الذي اقتصر دوره على تمويل تداعيات ما أسماه خبراء ومخططي ( البنتاجون الامريكي ) بحقبة ( الفوضى الخلاقة ) ورديفها ( استراتيجية الصدمة والرعب ) فأن أبرز ما مكن ( طهران ) من فرض خياراتها والدخول كلاعب أساسي في المعادلة هو احتضانها للمكونات العربية المقاومة في سورية ولبنان واليمن وفلسطين بل وتعد ورقة فلسطين هي أكثر الأوراق التي اعطت ( طهران ) حضورا على المشهد مكنها من أن تغدو ندا ليس ل( الكيان الصهيوني ) بل لمن يقف خلف هذا الكيان ويسهر على رعايته ؛ في ظل واقع عربي فقد بصورة رسميا كل أوراق الصراع بما في ذلك الورقة الهلامية والدعائية التي كان النظام العربي الرسمي يظلل بها جماهيره وخاصة ما يتصل بعلاقة هذا النظام بالقضية المركزية الاولى للامة وهي قضية ( فلسطين ) ..!!
في بداية عقد الفوضى الخلاقة هرولت ( أنقرة) بكثير من الحماس في محاولة منها لإملاء الفراغ الاستراتيجي في سماء الوطن العربي والأمة العربية مستندا في هذا على أرث حضاري وتاريخي كانت ترى فيه بؤرة استقطاب يمكن ان يعيدها للمنطقة بزخم حضاري يتناسب مع تطلعات حكام ( أنقرة) الجدد ؛ الذين قدموا أنفسهم بصورة حديثة تخفي في أطيافها قديم النوايا والأهداف ؛ واستندوا في ذلك على ما لديهم من حضور وحظوة في الوسط العربي من الحالمين براية ( الخلافة ) وتجاهل هؤلاء أن ( الخلافة ) وفق المفهوم التركي الحديث ربما تكون أكثر قسوة من مفهومها عند السلطان عبد الحميد أخر سلاطين الدولة العثمانية ؛ بل أن خلافة أردوجان تمثل في حقيقتها وتوجهاتها رد اعتبار لأحلام الجنرال مصطفى اتاتورك الذي خدعته أوروبا وكان آمل اردوجان أن يرد الصفعة لأوروبا ولكن من الفضاءات العربية على غرار ما حدث في فلسطين التي اتخذها الغرب ملاذا ( للصهاينة ووطن ) والذريعة أن اليهود اضطهدوا في العهد النازي بألمانيا فتم تعويضهم بمنحهم وطن في فلسطين ؟!
تركيا أردوجان وحزب العدالة والتنمية وببعد مائة عام من وعد أوروبي لم ينفذ بضم تركيا لمنظومة الترويكا الأوروبية وبعد أن قال بابا الفاتيكان يوحنا بولس الثاني عن انضمام تركيا لأوروبا ( أن علي تركيا أن تبحث لها ملاذات جغرافية تنسجم مع عقيدتها وأن انضمامها للغرب أمر مستحيل وأن الافضل لها أن تتكامل مع محيطها العربي الإسلامي ) لذا حاول اردوجان أن يوسع نفوذه بالفضاء العربي ولم يتحقق هذا الحلم التركي لأن ثمة محاور كانت تدرك نوايا تركيا من ناحية ومن الاخرى فشل من راهنت عليهم ( أنقرة ) ميدانيا وفي كل الميادين فكانت ليبيا هي الحلقة الاضعف التي يحاول اردوجان المساومة عليها بحثا عن خسائره في سورية والعراق وبقية النطاقات التي حاول الاستناد عليها واخفق بما في ذلك ( فلسطين ) ؟
عربيا _ اليوم _ تبدو الصورة أكثر قتامة وأكثر سريالية وعبثية في ظل انهيار منظومة النظام العربي وفقدانه ( للبوصلة ) وفيما ترى إيران ومحور المقاومة أن ( بوصلتهم هي القدس ) يرى بقايا النظام العربي نفس الرؤية ولكن بطريقة ثانية ؟!
والطريقة الثانية هذه هي على طريقة الإمارات والبحرين وانظمة الخليج والسودان والمغرب وهي الهرولة نحو القدس والاعتراف بهويتها ( العبرية ) مقابل حمايتهم وحماية أنظمتهم السائرة في طريق المخاطر فهم يرون أن العلاقة مع ( الكيان ) ستكون لهم مصدر قوة وديمومة فيما الكيان يرى عكسهم تماما ؛ فهوا يرى أنه يستمد قوته وديمومته من هذه العلاقة وعلى طريقة الغريق يتمسك بقشة لذا يرى الكيان أن علاقته مثلا مع دويلة مثل الإمارات أو البحرين تمثل له مصدر قوة هلامية ووهمية وهو وخبرائه يدركون هذه الحقيقة لكن سياسة الاختراق الجيوسياسية لها وسائلها ..؟!
الخلاصة واهم النظام العربي أن ثمة مكان محجوزا له بقطار المستقبل القريب خاصة إذا ما تمادى الصراع القطبي إلا أبعد من خطابات وتصريحات النزق وتعارضت مصالحهما ساعتها ستكون الجغرافية وكما هي الان مسارح لحروب بالوكالة ستكون في القادم القريب مسرحا أو حلبة لمنازلة الكبار وعندها سيرى العرب أي منقلب ينقلبون ..؟!