Visit Us On TwitterVisit Us On FacebookCheck Our Feed

لغة الذاكرة

يوسف أبو لوز

ليس جديداً على القارئ طرح موضوع التراث والثقافة الشعبية في أكثر من زاوية في الصحافة الثقافية وفي الدراسات المتخصصة، لا بل هناك ثنائيات أو ما يشبه الثنائيات التقليدية التي تثار من وقت إلى آخر تتصل بموضوع التراث بشكل خاص، مثل التراث والحداثة، التراث والهوية، التراث والذاكرة، التراث والتجديد في الأدب، وإلى جانب ذلك جَرَتْ سجالات ثقافية فكرية أدبية عديدة بين كتّاب حداثيين أو يطلق عليهم هذا التوصيف التعميمي عادة لهم وجهات نظر عديدة في مفهوم التراث، ونقده ومراجعته في أكثر من رؤية وأكثر من قراءة، وبين كتّاب «تراثيين» إن أمكن القول يدافعون عن التراث إلى حدّ تقديسه واعتبار نقده الثقافي نوعاً من المؤامرة على مفردات الماضي التي يكوّنها التراث نفسه.

تلك السجالات والمواجهات الثقافية قديمة ومعروفة ومكررة ومع ذلك، فكل ما يتعلق بالتراث الشعبي والثقافة الشعبية هو مادة متجددة دائماً بأسئلتها الماضية وأسئلتها الجديدة،  والتراث موضوع تاريخي لا يمكن إغلاق تداعياته الثقافية والفكرية بدءاً من تعريف التراث في حدّ ذاته وليس انتهاءً بقراءة المكان أو الفضاء المادي الذي ينتج هذا التراث.

من أسئلة التراث أيضاً، تلك التي تتعلّق بحضور هذا الإرث العظيم من الثقافة الشعبية في الإعلام والمناهج المدرسية والمساقات الجامعية وبرامج المؤسسات الثقافية وغيرها من قنوات الكتابة والصحافة والإبداع الأدبي بشكل خاص.

منظومة

عملياً، يجري التعامل، في الكثير من البلدان العربية، مع منظومة التراث والثقافة الشعبية في هذه القنوات بوصف هذه المنظومة التراثية برمتّها مجرد فولكلور وطني يُستعاد في مناسبات بعينها، وفي الغالب هو «فولكلور» للعرض إن جازت العبارة.

خذ على سبيل المثال لا الحصر الكيفية الإعلامية التي يجري فيها عرض الثياب الشعبية القديمة الخاصّة بالنساء والرجال والأطفال وما تحمله هذه الثياب من رموز وتطريزات وحياكات وهنا تتحول هذه المفردة التراثية (أي الثوب الشعبي) إلى مجرد مادّة جمالية معروضة، من دون تقديم قراءة فكرية، أنثروبولوجية مثلاً للرموز التي تحملها هذه الشباب.

الأغاني الشعبية هي الأخرى تصبح في بعض المناسبات مجرّد مادة للعرض أو تصبح مجرد مادّة صوتية مستعادة في مناسبة ما، أي يجري عرضها «صوتياً» وبطريقة احتفالية تماماً من دون معرفة الجوهر الثقافي للغناء الشعبي وما يحمله من أشواق إنسانية، وأحزان، وتراجيديات وراءها الكثير من القصص والحكايات الشعبية.

أدوات الزراعة الشعبية، أدوات الحرث، أدوات الغوص، أدوات السقاية، أدوات المنزل والعمل والحرفة والمهنة، وغير ذلك الكثير من المواد الشعبية التراثية، تطرح للأسف في الإعلام بشكل خاص وفي المهرجانات على أنها مادة «فرجوية»، كأنما هنا يجري «مَسْرَحة» المادة التراثية من خلال عرضها والتفرّج عليها، ومع أن هذا العرض وتلك «المُسْرَحَة» هما ضروريان ومهمّان بالنسبة للمشاهد الذي يرى رموزاً ماضية معروضة أمامه بهذه الفولكلورية المهرجانية، إلاّ أن العرض الإعلامي أو المهرجاني أو الفولكلوري يتطلب قراءة موازية دائماً لكينونة هذه الأشياء المعروضة، والتي تستعيد في خلال عرضها روحاً وطنية شعبية قديمة.

التراث الشعبي والثقافة الشعبية ليسا فولكلوراً معروضاً بالمعنى الفرجوي المهرجاني فقط، بل هما أيضاً الأصول الأولى للأدب الذي يتوسّل ما يُسّمى «المحلية».. وهذه «المحلية» تقود بالضرورة إلى العالمية.

كل أدب محلي عظيم له أصول تراثية، ولا يستطيع الأدب المحلي أن يعيش في الزمن وفي المكان وفي الذاكرة إن لم يكن مشدوداً إلى أصوله التراثية، وإلى ثقافته الشعبية الفطرية، هذه الفطرية الشعبية التي ستحوّله إلى أدب إنساني عالمي، وهنا يبرز السؤال التالي:.. هل استطاع النقد الأدبي، بوصفها «إعلاماً ثقافياً» أن يحفر في الأصل الشعبي التراثي للأدب المحلي؟.

هل انشغل الناقد الأدبي بالثقافة الشعبية التي تشدّ الكاتب وجدانياً إلى جوهرها، وبالتالي، يظهر لمعناها الفطري الجميل في النص الأدبي ويمكن معاينته بسهولة، والاحتفال به بسهولة أيضاً؟، أم أن الناقد الأدبي، راح يبحث بمشرطه «التفكيكي» و«اللساني» و«الإيديولوجي» عن مفاهيم أخرى بعيدة تماماً عن فضاء الثقافة الشعبية «الفلّاحية»  البسيطة.. مثل: «الواقعية» و«الالتزام»، و«الصراع الطبقي» وغيرها من مصطلحات تفسد طفولة التراث الفطري الذي يجعل من النص الأدبي محلياً أولاً، ثم عالمياً، ثانياً يُنظر إلى التراث أيضاً بوصفه مُكوناً أوّلياً وأصيلاً في مفهوم «الهوية» تماماً في أهمية المكوّنات الأخرى: اللغة، الثقافة، التاريخ، وكل ارتداد على الهوية هو ارتداد على الأصول والجذور، بل هو ارتداد على الذات الفردية والجماعية، «الإنسان الفرد، والمجتمع».

في الأدب عموماً، وفي الفن، وفي الفكر والفلسفة، تدور مثل هذه الحقول الكبرى حول مفهوم الهوية، وما من حضارة كبرى عاشت وسادت وتركت أثرها في الحضارات الأخرى إلاّ وقامت على هوية شعب في حدّ ذاته من دون أية استعارات من هوية أخرى وسيكون التراث والثقافة الشعبية هو الأصل المعنوي والمادي لهذه الحضارات.

شواهد وآثاريات

التراث أيضاً ذاكرة، وما أصعب فقدان الذاكرة عند الشعوب التي لا تتمسك بالمطلق بتراثها الشعبي وثقافتها الشعبية، والتراث أيضاً قائم في مكان وفي زمان، وله شواهد وآثاريات وعند الشعوب التي تتعرض إلى أوبئة استعمارية، يعمد الاستعماري دائماً إلى نهب هذه الشواهد وهذه الآثاريات. السرقة الواضحة للتراث، وإن تتم سرقته، يجري تشويهه أو تزييفه.

يُعبّر الرقص الشعبي مثلاً عن لغة جسد الإنسان، وسوف نلاحظ أن هذه «اللغة الجسدية» تختلف من شعب إلى آخر، هناك إشارة جسدية تطلقها الأصابع أو اليدان، مثل الرقص الهندي، وهناك إشارة جسدية تطلقها القدمان مثل الدبكات الشعبية في بلاد الشام، وهناك إشارة جسدية يطلقها حوض الإنسان أو جذعه أو رقبته.. نلاحظ مثل هذه الإشارات الجسدية في الرقص الشعبي الخليجي وبخاصة عند النهّامين البحَّارة.

كل هذا التراث يحتاج إلى منظومة كبيرة من القراءات الإيحائية، والنفسية، والأنثروبولوجية تتجاوز التعاطي الإعلامي أو الاستهلاكي اليومي المناسباتي مع مفهوم التراث والثقافة الشعبية، بحيث يصبح مفهوم «الفولكلور» مفهوماً ثقافياً وحقلاً دلالياً واسعاً ومادة للتفكير والقراءة والتأمل.

سرديات وحكايات

بقيت الإشارة إلى نقطة أراها مهمّة وهي «إنسانية» التراثيات والثقافات الشعبية العالمية، وقبل ذلك تجاوزها، وقبل ذلك تشابهها أيضاً، ونحن نجد تشابهاً يصل أحياناً حدّ التطابق بين أنواع من الموسيقى الشرقية المتجاورة ، ونجد التشابهات أيضاً في الرقص، وأحياناً في المطبخ، وأحياناً في السرديات والحكايات والقصص والأساطير، وأحياناً في أغاني الأعراس، وفي الأغاني التي تُسمى أغاني المهد، وفي الإنشاديات الجنائزية المأتمية في طقوس الموت، وفي الإنشاديات الحماسية في الحروب.. الكثير الكثير من التراثيات والثقافات الشعبية تتجاور، وبالتالي بحكم التجاور فإنها تتشابه، وبحكم التشابه فيها تتلاقح أو تتصاهر أو تتناسب.
Share

التصنيفات: ثقافــة,عاجل

Share