صباح كل يوم ينطلق جمال (15 عاماً)، ليقف أمام مدرسة الفرسان بصنعاء حاملا صندوقا كرتونيا معلقا على رقبته، يبيع فيه بيض ومناديل وأقلام، وحين تغلق المدرسة أبوابها معلنة بدء اليوم الدراسي، يغادر جمال إلى وجهة أخرى.
هذه المرة اقتربت منه وخاطبته: “يا ولد، لماذا لا تدرس، ما دمت تبيع بضاعتك كل يوم أمام المدرسة ؟”، فرد علي: “اسمي جمال، وأنا هنا أطلب الله وبس، أما الدراسة فقد توقفت عنها منذ توفي أبي – قبل سنتين – حيث وجدت نفسي مسئولا عن إعالة أمي وإخوتي”.
واصل جمال حديثه “أقف كل يوم من الصباح أمام المدرسة، أبيع للطلاب عند حضورهم صباحا وأثناء فترة الراحة الساعة 10، إذا سمح لي الحارس بالدخول”، ثم تابع بصوت مخنوق “تصدق يا أستاذ أني مع كل حاجة أبيعها للطلاب من بضاعتي أشعر أني أتخلى عن جزء من روحي وأحلامي، المشترون معظمهم في نفس عمري، هم يشترون مني ثم يعودون إلى فصولهم، وأنا أعاود رحلتي اليومية في الشوارع والحدائق”.
“تصدق يا أستاذ أني مع كل حاجة أبيعها للطلاب من بضاعتي أشعر أني أتخلى عن جزء من روحي وأحلامي، المشترون معظمهم في نفس عمري، هم يشترون مني ثم يعودون إلى فصولهم، وأنا أعاود رحلتي اليومية في الشوارع والحدائق”
يسكن جمال في دكان صغير بحي الصافية بصنعاء مع أسرته المكونة من أمه وأخته سمية (14عاما)، توقفت عن الدراسة العام الماضي بعد أن تعرضت لمحاولة اختطاف وهي في طريقها إلى المدرسة وأنقذها المارة- ويوسف 6 سنوات لم يلتحق بالمدرسة بعد.
ولأن عائد بيع البيض والمستلزمات الأخرى بالكاد يمكنه من شراء طعام لأسرته، يقوم جمال بالعمل عصرا وحتى العاشرة ليلا في ورشة لتأمين إيجار الدكان الذي يسكنون فيه، ويوضح: “البيع في الصباح لتوفير وتأمين الحاجات اليومية، أما شغلي في الورشة فأجري بالكاد يسدد لنا إيجار الدكان الذي نسكنه، بعد أن أخرجنا صاحب العمارة من شقتنا لعجزنا عن دفع الإيجار”.
كان لدى والد جمال مكتبة يبيع فيها الكتب والمجلات والجرائد، وتدر عليهم دخلا جيدا “حين كان أبي عايش كنا مرتاحين، مدارس خاصة، ونروح الحديقة كل أسبوع، وأي حاجة نطلبها نجدها كنا فرحين وآمنين”، قال جمال.
ويضيف: “بعد سنتين من الحرب، توقف العمل وتأخر أبي في دفع الإيجارات فخسرنا العمل ومصدر العيش، بعدها حول أبي سيارته الخصوصي إلى سيارة أجرة، لنستيقظ أحد الأيام وقد سرقت، ثم مرض أبي بعدها وتدهورت حالته وأصيب بجلطة وتوفي”.
مليونا طفل خارج المدرسة
جمال ليس الوحيد الذي ترك مقعد الدراسة لعدم قدرة أهله على تعليمه، حيث أظهر تقرير لمنظمة “اليونيسف” أن مليونا طفل في اليمن خارج المدرسة، منهم ما يقارب من نصف المليون طفل تسربوا من المدارس منذ بداية الصراع في العام 2015.
التقرير الذي صدر في مارس الماضي، ويحمل عنوان “ما لم يكونوا في المدارس: أطفال اليمن ودروب الضياع” أشار إلى عدد من الأسباب وراء زيادة تسرب الأطفال من التعليم، منها التجنيد، حيث تم تجنيد 2419 طفلا على الأقل من بداية الحرب.
وذكر التقرير تأثر المنظومة التعليمية بعدد من العوامل منها عدم صرف رواتب الكوادر التعليمية العاملة في ثلاثة أرباع المدارس الحكومية منذ أكثر من عام مما جعل تعليم قرابة 4.5 مليون طفل على المحك.
وبين التقرير أن هناك أكثر من 2500 مدرسة باتت خارج الخدمة، 66 في المائة منها تضررت جراء الاقتتال في البلاد، كما تم إغلاق 27% و7% من هذه المدارس تستخدم لأغراض عسكرية أو كمأوى للنازحين.
ولفت تقرير المنظمة الأممية أن الذهاب إلى المدارس بات يمثل خطراً على الأطفال، حيث يمكن أن يتعرض الطفل لاحتمال الموت على الطريق، وخوفاً على سلامة أطفالهم يختار الكثير من الآباء إبقاء أطفالهم في المنازل.
وحذر التقرير من خطورة مواجهة جيل كامل من الأطفال في اليمن مستقبلاً غامضاً بسبب محدودية أو عدم إمكانية حصولهم على التعليم، فيما أولئك الذين ينتظمون في المدارس لا يحصلون على التعليم الجيد.
وتطرق التقرير إلى ارتفاع مستويات الفقر بين اليمنيين والذي بلغ 78 %، مبيناً أن 80% يحتاجون إلى أحد أشكال الدعم في مجال الحماية الاجتماعية، وقدر وجود 1.8 مليون طفل دون سن الخامسة يعانون من سوء التغذية الحاد، وهناك 16 مليون يمنى منهم قرابة 8.2 مليون طفل بحاجة إلى مساعدة إنسانية للحصول على مياه شرب مأمونة وخدمات صرف صحي ملائمة.
لافتاً إلى أن هذا الوضع جعل عمالة الأطفال في شوارع المدن اليمنية خاصة الذكور أمراً عادياً ومألوفاً سعياً وراء لقمة العيش.
ربما كانت عمالة الأطفال شيئا مألوفا في اليمن، لكنها تضاعفت خلال سنوات الحرب لتصل إلى أرقام مخيفة جدا، بعد أن أجبرت الأوضاع التي تعيشها اليمن آلاف الأطفال – من الجنسين- على الانخراط في سوق العمل والقيام بمهام أغلبها شاقة ولا تتناسب مع أعمارهم وبنيتهم الجسدية، فضلا عن مخاطر عديدة لا تجعلهم في مأمن، لكنهم وجدوا أنفسهم مجبرون على تحمل المسئولية العكسية لمساعدة أسرهم.
أوضاع الطفولة في اليمن تتنافى مع مضامين اتفاقية حقوق الطفل التي تحل علينا ذكراها الـ30، والتي وافقت عليها اليمن في العام 1991.