خلال حديث ودي مع أحد الوطنيين من أقطاب العمل السياسي اليمني تساءل بحسرة “اين هي الوحدة” (وكأنما ينعيها) وتساءلت بدوري “وأين هو الانفصال”، ثم توافقت بعد حوار مع صديقي على أن الوحدة والانفصال كلا منهما قد وضع حبيس صندوق مفخخ ويزداد تفخيخاً يوما بعد يوم بأفتك وسائل التدمير الجماعي لليمن كله ولليمنيين جميعاً، وأن الخيار الإستراتيجي الأهم والملح الذي نواجه ليس هو الاختيار بين الوحدة و الانفصال، بل الاختيار بين الدمار بأي منهما أوكليهما، وذلك مقابل خيار الحكمة والمسؤولية والفوز بالعيش الآمن الكريم في ظل أي منهما تقودنا إليه خطى الحكمة والمصلحة العامة والمسئولية الوطنية والعدل.
وعلى نهج الحكمة والمسؤولية الوطنية أوجه رسالتي هذه للجميع وعلى وجه الخصوص إلى الداعين للانفصال من اليمنيين الشرفاء الذين ينطلقون في دعوتهم هذه من قناعاتهم الذاتية المستقلة عن كل تأثير خارجي، الذين يرون في الانفصال مصلحة مشروعة لهم، ولكن الحريصين على السلام والوئام وعلى المصالح العليا للوطن والشعب، التي نختلف ثم نلتقي جميعاً تحت سقفها الواسع.
وهنا يكون السؤال الأول المهم لفهم حقيقة المآلات الفعلية المرتبطة بتبني خيار الانفصال بفرصها وأخطارها هو حول ماهية الأسس التي يمكن أن تبرر لدعاة الانفصال تبني هذه الدعوة والتي تعزز إمكانية تحققه، وعقلانياً فان الإجابة على هذا السؤال لابد ان تتضمن كحد أدنى ما يلي من الأسس:
1- أن يكون قرار الانفصال استجابة لإرادة جامعة ومصلحة مشتركة لدى المعنيين به مستقلا عن تأثيرات الانتهازية السياسية ومراكز القوى ذات الأجندات الخاصة، (ودون ذلك فهو عدوان).
2- توفر حد ملائم من التجانس في المواقف العامة إزاء مبدأ الإنفصال وشكله عبر مختلف المكونات الجغرافية (محافظات مثلا) والفئوية المشمولة بالدعوة الإنفصالية، (ودون ذلك فهو فتنة).
3- أن يكون نابعا من الإرادة الحرة للناس المرشدة بالمعرفة الصحيحة للمعطيات والخيارات التي تؤسس لقرارهم منزهة عن التزييف والتهييج التعبوي المبرمج أين كان مصدره، (ودون ذلك فهو خديعة).
4- أن تكون كافة جذور وفروع هذا الخيار يمنية حصراً وبلا إستثناء وأن تكون منزهة عن أدنى شبهات الإرتباطات الأجنبية وخدمة المصالح الخارجية أين كانت، (ودون ذلك فهو خيانة).
5- أن تتم في إطار وتحت سقف الوطنية اليمنية ورمزية اليمن الكبير والأمة اليمنية الواحدة، (ودون ذلك فهو جحود وقطيعة).
6- أن لا يترتب على هذه الخطوة الإضرار بالمصالح العليا المشتركة أو السلم الإجتماعي للوطن اليمني أو أي كيان من كياناته، وأن لا يشكل الكيان المنفصل أو أي جزء منه أي إرتباطات أو تحالفات لا تنسجم مع المصلحة المشتركة للوطن اليمني كله، (ودون ذلك فهو إضرار وضرار).
أما شروط الحد الأدنى التي ينبغي ضمان تحققها غير منقوصة قبل الإقدام على إطلاق الدعوات السياسية والتحريضية للإنفصال، ناهيك عن الخطوات العملية لفرضه، وحتى مع توفر كافة مبرراته السابقة، وذلك لمنع تحوله إلى كارثة وطنية عظمى، فلابد وأن تتضمن ما يلي:
1- أن تتوفر كافة شروط وأسس تحقيق الإنفصال بطريقة سلمية منظمة وآمنة، (ودون ذلك فهو مشروع دمار وإنتحار وطني شامل بوسائل التعذيب الظالم والمهين حرباً ومرضاً وجوعاً).
2- أن لا يترتب على الإنفصال حدوث اختلالات كبيرة في بنية التوازنات ومرتكزات الإستقرار السياسية والاجتماعية يمكن أن تؤدي عاجلا أو آجلا إلى تداعي بنية الكيان المنفصل أو الكيان الوطني عموماً، أو نشوب حرب أو حروب أهلية على أي بقعة من الوطن اليمني، (ودون ذلك فهو مشروع دمار وإنتحار وطني شامل بوسائل التعذيب الظالم والمهين حرباً ومرضاً وجوعاً).
3- أن لا يترتب على الإنفصال إختفاء ما تبقى من الدولة ولو حتى مجرد ما تمثله كإطار للمشروعية السياسية والرمزية الوطنية، (ودون ذلك فهو مشروع دمار وانتحار وطني شامل بوسائل التعذيب الظالم والمهين حرباً ومرضاً وجوعاً).
4- أن لا يتم فرضة على الشعب اليمني وعلى الدولة اليمنية كأمر واقع في ظل أزمة وطنية كبرى وغياب فعلي للشرعية الدستورية والسياسية والسيادة الفاعلة، وغياب منصة التحاور والتفاوض الشرعي المتمثلة بالبرلمان، وغياب البيئة السياسية والنفسية المواتية لمثل هذا الحوار، (ودون هذا فهو في ذات الوقت مشروع تمرد ومشروع دمار وإنتحار وطني شامل بوسائل التعذيب الظالم والمهين حرباً ومرضاً وجوعاً).
ومن الواضح أنه لا مبررات ولا شروط حدوث الإنفصال السلمي الناجح متوفرة ضمن معطيات الواقع الراهن لا جزئيا ولا كليا، بل يمكن إثبات انه في ضوء حقائق ومعطيات الواقع الراهنة فإن استمرار نهج التناول المنفلت والمتهور والغير منظم لهذه المسألة الخطيرة ينذر بأفدح الأخطار (يوجد ورقة أكثر تفصيلا لمن أراد التوسع في هذه النقطة)، بما في ذلك أسواء أنواع الحروب الأهلية وهي الحرب السائبة المنفلتة التي تتبدل أهدافها واطرافها ومعالمها بإستمرار وبلا حدود. وبما في ذلك تفتت الجنوب على نحو لا يقبل التحكم أو السيطرة، ووقوع المراكز الاقتصادية والسياحية اليمنية المهمة وموارد البلاد النفطية تحت السيطرة الأجنبية، وعزل هذه الموارد والمراكز عن بقية الكيانات الجغرافية والسكانية المحلية التي سوف تترك لمصير محتوم هو الفناء غير الرحيم سواء في جبهات الإقتتال الغوغائي غير الشريف مع الأخوة والجيران على الحدود القبلية وحدود المديريات والمحافظات والمناطق، أو برصاص القناصة وصعقاً بالكهرباء على أسوار عدن الشائكة أو غرقاً بزوارق الموت سعياً للوصول إلى سقطرى البعيدة المنال. ولكن أكثر من كل ذلك الموت جوعا ومرضا وذلا في متاهات وجود غير لائق وغير كريم ينسحق الإنسان فيه على الدوام تحت وطأة حزم من المشاعر المتداخلة المهينة هي اليأس والندم والضياع والعجز والغضب المنفلت والإنكسار.
ويتشكل من ثم واقع غير رشيد تُغيب عنه الحقيقة وحكم العقل ومعايير المشروعية والمصلحة العامة، ويسير بدلا عن ذلك بوسائل الخوف والحقد والكراهية وحس المظلومية ضد العدو المفترض سواء كان القبيلة الجارة أو المديرية التالية أو المحافظة المحادة أو الدولة عموما، مدعومة في ذلك بوسائل التجويع وذل الفاقة وإغراءات فتات الشامتين.
أما مشاعر الخوف والكره والمظلومية فيتم تنميتها بوسائل توعوية فعالة ومستمرة تمثل أبرز مهارات دعاة الإنفصال الفوضوي.
إن على اليمنيين أن يعوا تماما أن إستمرار مطحونيتهم تحت وطأة الحرب والجوع والمرض سوف يبقى حينها هدفا دائماً ومستمرا للقوى الأجنبية الطامعة، وذلك أمر بديهي باعتباره أنجع وسائل دفاع هذه القوى الإستراتيجي غير المشروع عن أسوار عدن وشواطئ سقطرى، وأفعل وسائل تغييب اليمن عن المشهد السياسي الإقليمي والدولي والتسلي بازدرائه وإذلال شعبه.
في ضوء ما سبق فإن نصيحتي المخلصة والأمينة للإخوة الإنفصاليين اليمنيين الوطنيين السلميين على وجة الخصوص، الذين أختلف معهم وأحترم حقهم في التعبير عن قناعاتهم ومصالحهم بما فيها خيار الإنفصال ، تتلخص فيما يلي:
1- الوقوف الموضوعي المتأمل والمسؤول ليس فقط أمام النقاط التي ذكرت سابقاً في هذه المقالة الموجزة، ولكن النقاط الكثيرة والخطيرة التي لم تقال، والتي يستطيع العارف اللبيب استقراءها من الواقع أو قرأتها من بين سطور البنود السابقة.
2- البناء على ذلك للحكم على مكلبهم ومن ثم لتطوير خارطة طريق ووسائل عمل نحو هدفهم ( الانفصال) تتسم بالحكمة والوطنية والإعتدال والموضوعية وبروح المسؤولية التاريخية في الحفاظ على مصالح وكرامة الشعب والوطن، والالتزام بالاستحقاقات الدستورية وتجنيب اليمن بكل أجزاءه وكياناته وفئاته سبل الضياع والدمار.
3- اسناد مهمة قيادتهم على هذا المسار الخطير لحكمائهم من أهل الرؤية الصائبة والروية وحسن تقدير الأمور، وفوق كل ذلك أصحاب السمو الأخلاقي والنزاهة وحس المسؤولية والكبرياء الوطنية الذين لا يُخشى عليم من فتنة المال وسوء المآل.
4- السعي الجاد لكف الجهود التعبوية المحمومة لبث الخوف والشك والكره المتبادل بين أبناء الشعب الواحد، فليس غاية هذا هو مجرد الحشد للانفصال بل لتخليق بيئة نفسية وسياسية وإجتماعية لإندفاعة عمياء ليس نحو الإنفصال فقط، بل نحو هاوية التدمير الذاتي للشعب والوطن عبر ديناميكية مستمرة ذاتية التذخير والتدمير تهلك الشعب والوطن فتطلق أيادي الطامعين في مقدراته.
5- النأي بأنفسهم وبمطلبهم وبحركتهم عن عملاء ومرتزقة الخارج.
وفي الختام فإنني أدعو اليمنيين جميعاً كل باسمه وموقعه وقدرات تأثيره إلى استشعار المسؤولية التاريخية التي تقع على عواتقنا جميعا، وذلك لدرء عن شعبنا ووطننا شبح التمزق الأبدي والدمار الشامل والوقوع فريسة لهيمنة المتربصين والطامعين لانتقاء ما يحلو لهم من أشلاء وطننا الغالي بعد أن يتم تمزيقه.
وأنني أدعو أولا وقبل كل شيء إلى التوحد في منع مروجي الحقد والخوف والكره المتبادل بين أبناء الشعب الواحد والوطن الواحد والأب الواحد والمصير المشترك، وكف أساليب التناول الفوضوي المغامر لهذا الموضوع المصيري الهام، وقبل كل هذا وبعده الوقوف صفا واحدا لرفض التدخلات والإملاءات الخارجية باعتبار الوحدة والانفصال هما شأن اليمنيين وحدهم، ووضع حد للعبث بمقومات السلم الاجتماعي والاستقرار والاستقلال الوطني.