32 فصلا من كتاب الحزن تقول الأيام أنها مرت .. 32 فصلا منذ هوى عنوان الفاجعة من سماوات الغيب كصاعقة ذبحت سكينة القلب من الوريد إلى الوريد.
32 فصلا أو ثمان سنوات في حسابات كل من عرفوا وأحبوا محمد عبدالإله العصار، مرت بأيامها وساعاتها ودقائقها المسكونة بالحزن والألم والأسى لكنها في حساباتي لم تتجاوز لحظة الصدمة الأولى، ومهما كان عدد ما مر وعاشه الناس من السنوات والأيام والساعات أو تم تدوينه في أجندة الحياة وذاكرة الأيام فستبقى اللحظة الأولى من الساعة الرابعة من عصر يوم الاثنين 23/4/2012م هي ما أعيشه وعندها توقفت عقارب الزمن وشعرت يومها بالأرض تتوقف عن الدوران ومنذ ذاك توقفت الذاكرة عن تدوين تفاصيل ما بعدها من تفاصيل.
مات محمد .. تمتمات أقرب إلى الهمس لكنها كانت أقوى من كل صوت سمعته وشعرت بصداها يملأ الأرض والسماء ويسجنني في زنزانة أصداء الضجيج المؤلم ويحول بيني وبين الهروب إلى اللامكان واللازمان.
سألت نفسي – وما زلت -: أي محمد ذلك الذي ذبحني فراقه وأي محمد ذلك الذي فطر القلب رحيله.. وأي محمد ذلك الذي سأظل أبكيه وافتقده وأسمع كلماته يتردد صداها ويملأ كل ما كان وكل ما سيكون.؟
أي محمد ذلك الذي امتلك القلب والروح غادر هذا العالم الذي كان بوجوده أكثر اتساعا وأكثر جمالا وتسامحا ونبلا..؟!
هل هو محمد الولد البريء الجميل الذي سحرني بمغامراته وفضوله الطفولي لمعرفة واستكشاف الحياة ورسم لخطاي مسارات في كل ما حولنا من تضاريس قبل الأوان؟!
هل هو محمد البطل الصغير الذي أخجل بجرأته الكبار وتحدى كائنات الأساطير التي سكنت العقول والخيالات ورسم الناس عالمها المخيف عند حدود القرية وأجمعوا على ولادتها عند مغيب شمس كل يوم .. أم أنه محمد الذي انتزعته أحلام أبي وذهبت به بعيدا لاستكشاف عدن “مدينة البحر والدكة والميناء” وتعلم كيفية رسم الحروف وقراءة الكلمات وفهم أسرار وطلاسم اللغة وعاد إلينا محملا بالحكايات والأناشيد ليرحل مجددا إلى بلاد الناس البعيدة في قارة بعيدة ويختفي عن عالمنا الطفولي الجميل ومعه تختفي المغامرات والحكايات والأناشيد التي لم يكن لأي منا امتلاك مفاتيح خرائطها وانتظرنا عودته طويلا ليكتب لنا عناوين قصصنا الجديدة، لكن الولد الجريء الجميل لم يعد وعاد محمد شابا لا يشبهنا ولم تستطع عقولنا فهم واستيعاب ما يحمله من فكر وطموح وأحلام.
هل مات محمد الشاب الذي عجزت القرية عن استيعاب وفهم ما يحمله من المعرفة وأجبرته الظروف على مغادرة دفء وحنان أمة التي طالما افتقدها واشتاق إليها ورحل مجددا ليصنع مغامراته الجديدة منفردا في صنعاء محطة انطلاقة محمد الشاعر والأديب المثقف والصحفي المبدع.
.. في القرية ما يزال محمد الولد المغامر الجريء يروي الحكايات ويردد الأناشيد ويتحدى مخلوقات الأساطير ويكسر حواجز الخوف ويسكن العقول والقلوب والذكريات .. وفي صنعاء ما يزال نجم محمد الشاعر والأديب والمثقف والصحفي اللامع يتلألأ في سماوات الشعر والأدب والإعلام والإبداع..
إذا من هو محمد الذي رحل عنا..؟!!
هل هو محمد الذي أدخلني عالم المعرفة من أوسع أبوابه وأهداني تذاكر السفر إلى جمهورية أفلاطون وعالم الإغريق المليء بالأساطير، ودعاني للتعرف على آلهة الأوليمب وسقراط وفيدياس وآخيل والأسكندر ونرجسيس وقراءة ملاحم هوميروس وأساطير الحب والجمال ومناظرات فلاسفة الإغريق..؟!!
هل هو محمد الذي فتح أمامي أبواب الشرق القديم والجديد وعرفني بعظماء التاريخ ابتداء بحمورابي وجلجامش وانكيدو ونبوخذ نصر.. وانتهاء بـ إبن خلدون وأبن رشد وأبن سيناء وطاغور وغاندي وعبدالناصر ورسول حمزاتوف وديسكوفيسكي ولينين وماوسيتونغ….إلخ.. إلخ.. وإلى ما لا يمكن سرده من الأسماء والنظريات والأحداث..؟!!
هل مات أخي محمد الولد الجميل النبيل..؟! أم أخي الشاعر والأديب والصحافي..؟! أم أخي الأستاذ الذي قدم لي المعرفة على طبق من كتاب قبل بلوغي الحلم؟!!
أم أنه محمد.. أخي الكبير الذي أغرقني في بحر من القيم والمثل والأخلاقيات..؟!!
هل مات أخي محمد الصديق الوفي والزميل العزيز..؟!!
يا الله ما أصعب وأقسى وأمر اللحظة التي سأظل أعيشها وأشعر فيها أني فقدت كل هؤلاء.!!