مصطفى فرحات
بعد خمس سنوات من إصدارها الأدبي الأخير متمثلا في روايتها “الأسود يليق بك”، تعود الأديبة الجزائرية أحلام مستغانمي إلى عالم النشر بكتابها الجديد “شهيًّا كفراق”، عازفة على إيقاع ذبذبات أعمالها السابقة التي تتخذ من الحب وخيباته “مقاما موسيقيا” وبوصلة للمصابين بخيبات عشقية.
جاء هذا الكتاب -الصادر عن دار “نوفل” و”هاشيت أنطوان” في 256 صفحة- مزيجا بين السرد والرواية، منطلقا من أزمات الكاتبة الإبداعية وعلاقتها بقرائها في زمن الثورة الرقمية واستبداد وسائل التواصل الاجتماعي، وانتهاء بالحديث عن قصة حب “مجهَضة” مع كاتب أسرها بطريقة كتابته وكلامه، وكأنه خرج من فصول رواياتها.
تبدأ أحلام عملها بإهداء يشي بالطريق الذي ستسلكه في هذا الكتاب، فـ”ما دام سعاة البريد جميعهم قد خانوا صندوق بريدنا، هذه رسائل لا صندوق بريد لوجهتها عدا البحر، أبعثها في زجاجة، إلى الذين لم يعد لهم من عنوان لنكتب إليهم”.
”
تبدأ أحلام عملها بإهداء يشي بالطريق الذي ستسلكه في هذا الكتاب، فـ”ما دام سعاة البريد جميعهم قد خانوا صندوق بريدنا، هذه رسائل لا صندوق بريد لوجهتها عدا البحر، أبعثها في زجاجة، إلى الذين لم يعد لهم من عنوان لنكتب إليهم”.
”
وبعد مقدمة حول الكتابة وأوجاعها في زمن الوصفات الجاهزة والضجر الكوني، يأتي الجزء الأول “اكتب كأن لا أحد سيقرؤك” ليتحدث عن ظروف ولادة هذا العمل، وتسرد أحلام فيه بعض ما قاله أشهر الكتاب العالميين حول علاقتهم بالكتابة وطقوس بعضهم من أجل استحضار الجنيّ الذي ينفخ في أقلامهم روح الإبداع.
وكتبت “أيحتاج الكاتب إلى أن يعمل في شأن آخر غير الأدب، كي يشتهي الكتابة إلى حد تصبح معه هي الشغل الشاغل لوجدانه لا لدوامه؟ ربما يحتاج إلى أن تكون الكتابة عشيقته لا زوجته، ولَعه لا مهنته، ليواعدها بشغف سرا كل مساء”.
البحث عن بطل
تُدرك أحلام في كتابها أن ما يحثها على الكتابة “هو بطل يقلب قناعتي رأسا على عقب فيلهمني أروع الكتب”. وعكس ما دأب عليه الكُتّاب “عادة، الكاتب هو من يتحكم في أبطاله، إلا أنا، خلقت بطلا يتحكم بي، وأخجل منه إن تنازلت عن مبادئي يوما”.
تحتاج الكاتبة إلى “حداد” و”عدة أدبية” كلما تخلصت من رواية وبطلها، فقد استغرق الحداد على خالد بن طوبال بطل رواية “ذاكرة الجسد” الذي امتد حضوره إلى “عابر سرير”؛ خمس سنوات، وبعدها جاء طلال، رجل الأعمال اللبناني الذي وقّع حضوره في “الأسود يليق بك” على قلب الجزائرية “هالة الوافي”، وحاول إخفاء آثار البطل السابق أو إحالته إلى رف النسيان.
تقول أحلام “في الأدب أيضا، لتُشفى من بطل، عليك أن تقع في حب غيره، أن تنفض عنك ذكريات قصصك الماضية، وتتخلص من كل ما له علاقة بكائنات غادرت وجدانك وأوراقك ومكتبك، أن تتخلص من كل ما قد يشوش عليك حبك الجديد، وأن تبدأ كل قصة كما لو أنها قصتك الأولى، أن تنظف غرفة الكتابة من آثار الكتاب السابق، ولم لا.. أن تحرق البخور كي تطرد من الغرفة أرواح أبطال الرواية السابقة، كما تفعل إيزابيل أللندي كلما شرعت في كتابة كتاب جديد”.
غير أن أحلام تعترف بمشكلة الكتابة في زمن مواقع التواصل الاجتماعي، لا سيما أن كتاب “نسيان.كوم” رسخ صورة كاريكاتيرية عنها ككاتبة تنتقم من الرجال في كتاب وتحض النساء على العنوسة، وهي بذلك تتحمل وزر ثلاثين مليون امرأة عانس، وهي صورة تقول عنها أحلام إنها لا تمت إلى الواقع بصلة.
أي عمل لأحلام إذًا كان الأجمل: “ذاكرة الجسد” أم “فوضى الحواس” أم “عابر سرير” أم “الأسود يليق بك”، أم ديوانها “عليك اللهفة”، أم دستورها في النسيان “نسيان.كوم”؟
”
لأكتب، إذن لا بد لي من أن أقطع علاقتي مع هذا العالم الافتراضي، أن أغلق حساباتي وصفحاتي جميعها وأخلو بذاتي
”
عصر الفراق
بالنسبة للكاتبة الجزائرية، فإنها تمكنت أخيرا من تشخيص مشكلتها وتحديدها، إذ تقول “أجمل كتاباتي وأهمها كانت قبل زمن الإنترنت والتويتر والفيسبوك.. كتبتها أثناء غربتي وعزلتي، على دفاتر مدرسية كنت أشتريها مع دفاتر أطفالي. لأكتب، إذن لا بد لي من أن أقطع علاقتي مع هذا العالم الافتراضي، أن أغلق حساباتي وصفحاتي جميعها وأخلو بذاتي”.
كان على أحلام أن “تفارق” فضاءات التواصل الاجتماعي، وهذا ما منح الكتاب موضوعه الرئيسي “الفراق”، وما لم تكمل هذا الكتاب لن تتمكن من كتابة روايات أخرى.
“كل كتاب رواية.. في ذهني روايات كثيرة جميلة، سأكتبها حال إنهائي هذا الكتاب.. إنني أحمله في ذهني منذ سنوات، لن أستطيع الكتابة إن لم أنجزه. ثم إن الفراق كتاب الساعة.. الناس جميعهم هذه الأيام على فراق.. لو كان لهذا العصر من صفة لكان عصر الفراق”.
في الجزء الثاني “ما جدوى رسائل حب تصل متأخرة، لحب ما عاد له من صندوق بريد”، تستحضر أحلام مواقف جميلة مع الأديبين الراحلين نزار قباني وغازي القصيبي، وقد نثرت الكاتبة بعض ما قالوه أو فعلوه معها في ثنايا الكتاب، وهي لن تنسى ما قاله نزار لها عندما دخلت قاعة صغيرة في بيروت كان نزار يقرأ فيها أشعاره “رأيت برقا.. فقلت هذه أنت!”.
هنا تحضر “كاميليا”، الشخص الذي أوقد شرارة كتاب “نسيان.كوم”، وهي تحمل رزمة رسائل بينها وبين حبيبها الأول، تسلمها للكاتبة كي تحتفظ بها بعد أن قررت مواصلة حياتها وتجاوز خيبات الحب السابق، واقترحت عليها أن تضعها بين دفتي كتاب.
لكن الكاتبة اتخذت قرارها: لن تقرأ هذه الرسائل، وبدلا من ذلك، ستكتب رسائل لكاميليا لكنها لن ترسلها إليها. ومن وحي الجزء الثالث “رسائل لن تقرأها كاميليا”، كتبت 26 رسالة مستنيرة بما قالته “الذي قال: اكتب دوما رسائل الغضب إلى أعدائك، لكن لا ترسلها إليهم، كان عليه أن يضيف: واكتب رسائل الحب أيضا واحتفظ بها لنفسك!”.
”
هل سجل هذا الكتاب اعترافات أحلام ووشى بمكنونات نفسها، أم أن ما ذكرته من حقائق كان مجرد قربان لخيال الكتابة الجامح؟
”
التعري نيابة عن القارئ
لكي تتفرغ للكتابة وتبتعد عن الإلهاء، أعلنت الكاتبة أنها ستغلق صفحاتها في الفضاء الافتراضي، فجاءتها الرسائل معاتبة ومحتجة، لكن رسالة بينها لفتت انتباهها لأنها كُتبت بنبرة رجولية وكأنها خرجت من رحم أحد أبطال رواياتها.
من يكون هذا الرجل الذي بدأت تتابع ما يكتبه على فيسبوك، ثم راسلته، وشرع قلبها يدق على إيقاع رسائله ومكالماته؟ وكيف ستتعامل مع مشروع ولادتها العاطفية: تُحجم امتثالا لتجاربها الأدبية، أم تُقبل امتثالا للفضول وحب الاكتشاف؟
تستمر الرحلة في الجزء الرابع “الغربة تأخذ منك ما جئت تطلب منها”، ثم الجزء الخامس والأخير “نحب الحب لكنّ الفراق يُحبنا أكثر”، حيث تكتشف الكاتبة هوية الرجل الذي اقتحم قلبها، وتقرر بعد ذلك في لحظة صدمة كيفية التعامل معه، مسترشدة بما كتبته في “ذاكرة الجسد” على لسان خالد بن طوبال ذات يوم “ما أجمل الذي حدث بيننا، ما أجمل الذي لم يحدث، ما أجمل الذي لن يحدث”.
هل سجل هذا الكتاب اعترافات أحلام ووشى بمكنونات نفسها، أم أن ما ذكرته من حقائق كان مجرد قربان لخيال الكتابة الجامح؟
وكأن أحلام تلخص بأسلوبها الشاعري الجميل فكرة هذا العمل، إذ تقول “عندما نحدّث أنفسنا لا نحتاج إلى الكلام المنمّق، ولا إلى البحث عن منطق في ما نقوله.. نحن نكتب بروح عارية.. الكاتب يتعرّى نيابة عن قرّائه ويرتكب جرائم حبر في حق نفسه، ليبقى شرف القارئ مصونا”.
المصدر : الجزيرة