كان لدي منذ الصغر ميول لغوية، وكنت دائما أتفحص الكلمات منبهرا، أتقرب منها، أهيم في براريها مثل جدي ضائع.
أحرص على حضور عروضها الساحرة في مسرح الحياة ودنيا الأدب، وأصفق لها ممتنا- مثلا- عندما تحول الخنجر المسموم إلى ربطة عنق أنيقة، وتوحد الصلاة والحب اللذين يخرجان من مشكاة واحدة (القِبلة، والقُبلة).
كلمات كنت أراها تتلون وتتفجر بدلالات متجددة في سياقات شعرية وحياتية،
كلمات أحاول كسرها مثل حبات الجوز لأرى ما بداخلها،
كلمة تخرج لي لسانها ساخرة ومتحدية،
كلمة تتوسل إلي كصديقة غريبة الأطوار: “أرجوك، حاول أن تفهمني”!
وكلمات أخرى، لا أزال أتذكر الإحباط المتبادل بيني وبينها.
عشت في اللغة وعشت بها. . هي فضاء الدهشة ومدار الأحلام.
نظن في بداية شغفنا بها أن حروفها وكلماتها تصلح لأن تكون عدة صيد متكاملة، نصطاد بها كل الأمنيات، ومع مرور السنوات، نعرف أنها هي الطعم والصنارة والسمكة . .
هي النبي والمعجزة، ونحن المرضى والمريدون والعشاق.
هي المحراب الذي أتهجد فيه، وأنقطع عن عالم الكون والفساد؛ بها أشعر أني قريب من الله، ملعون من آلهة الصمت المصنوعة من الذهب.
ربما أن الصمت سُبك من الذهب لإغرائنا بقتل مشاعرنا وتحييد عقولنا وضمائرنا، ومن ثم إخفاء الحقيقة، فنتحول إلى كائنات مثلجة، منعزلة وغامضة.
صحيح أن “من كثر كلامه كثر خطؤه” ، لكن “تكلموا تُعرفوا فإن المرء مخبوء تحت لسانه”.
حاولت أن أتعلم لغات أخرى، الإنكليزية والأسبانية والعبرية:
* الأولى تشبه زوجة متقلبة المزاج، ومتمردة على المنطق، لا تتحرج أن ترتدي بيكيني السباحة في حفلة رقص،
* والإسبانية لغة تشبه طبقا لم يطبخ جيدا، تستطيع أن تميز الملامح العربية في سحنتها.
* أما العبرية الحديثة فلغة بدائية وهجينة، قلبها شرقي وكثير من أعضائها تم صناعتها وتركيبها في ورشة حدّاد روسي من أم بولندية.. خرجت من المعابد فأبهرها ضوء الشمس وأضاعت الطريق.
العربية لغة “ولدت مكتملة مثل فينوس”. . وهي كالشمس؛ جديدة في كل يوم.
هي الأرض البكر،
الأم الفتية،
والحبيبة التي لا تجفو ولا تتمنع.
وبرغم أننا صرنا ضعفاء مستضعفين، ومتخلفين حضاريا عن ركب الأعاجم، إلا أن لغتنا لم تصبح واجهة للانحطاط ودليلا على التخلف، وإنما ظلت محتفظة بوهجها وسحرها ..
هي أغلى الكنوز في بيت عربي معدم، ولا بد أن يعيد أبناؤه اكتشافها ذات يوم.