نادية سعد معوض
ليس ثمة شك في أن العدالة والحرية مفهومان يمثلان تطلعات الإنسان عبر مراحل التاريخ وفي مختلف الحضارات الإنسانية، وكانت هناك حضارات وثقافات تُعلي قيمة العدالة، وأخرى تعلي قيمة الحرية، وفي الحالة الأولى كان يمكن للعدالة أن تتحقق، لكنها تؤدي إلى استبداد سياسي، وفي الحالة الثانية تتحقق الحرية لكن ينتج عنها -غالبًا- ظلم اجتماعي، بينما جاء الإسلام فنظر إلى العدالة والحرية نظرة توازنية تتكامل بها الحرية مع العدالة في إطار تحرير الإنسان من طواغيت الفساد والاستبداد.
وفي البداية أود أن أشير إلى كتاب رائع صدر منذ أكثر من ثلاثين عامًا في سلسلة عالم المعرفة الكويتية الشهيرة، تحت عنوان: العدالة والحرية في فجر النهضة العربية الحديثة، للدكتور عزت قرني، تناول موضوعي العدالة والحرية عند كل من: رفاعة الطهطاوي وخير الدين التونسي وأديب إسحق وجمال الدين الأفغاني.
بينما صدر حديثًا في القاهرة كتاب تحت عنوان: العدالة والحرية.. بين المفهوم الإسلامي والمفهوم الغربي المعاصر.. رؤية مقارنة، للباحث الدكتور محمد فتحي القرش.
العدالة والحرية ركنَا الدولة الإنسانية
وهذا الكتاب عبارة عن دارسة مقارنة تنطلق من الفرضية التي تقول بأن العدالة والحرية هما ركنا الدولة الإنسانية التي تتحقق فيها إنسانية الإنسان، وذلك يعنى أن الاتجاه لتطبيق العدالة على حساب الحرية أو الحرية على حساب العدالة هو انتقاص من إنسانية الإنسان.
يقول الباحث: إن استبعاد العدالة ولو جزئيًّا لصالح الحرية إنما يعني أن هناك علامات استفهام كثيرة حول تلك العدالة التي يضحى من أجلها بالحرية أو تلك الحرية التي يضحى من أجلها بالعدالة، لأن من العدل أن يكون الإنسان حرًا، كما أن الحرية لا تكتمل إلا بالعدل، وفي محاولة لتفحص تلك الفرضية بما يثبتها أو ينفيها قمت بدراسة العدالة والحرية في المفهوم الغربي المعاصر، وذلك في مفهومه الليبرالي الرأسمالي، ثم في مفهومه الماركسي الاشتراكي، إضافة إلى هذا تناولت الدراسة مفهومي العدالة والحرية في المفهوم الإسلامي، والمقصود هنا بالمفهوم الإسلامي هو ذلك النظام الذي يمكن أن يوضع كأسس وقوانين وآليات في ضوء التوجيهات والتعاليم الإسلامية التي تؤكد الوسطية.
ويعرض الباحث بالتحليل المقارن لكلا المفهومين، المفهوم الغربي المعاصر، والمفهوم الإسلامي في نظريتهما للعدالة والحرية، وتحاول الدراسة أن تجمع بين قيمتي العدالة والحرية بوصفهما غاية الفلسفة السياسية، والجمع بينهما في تلك الدراسة إنما ينبع من القناعة بأن أي دراسة متعمقة في معنى العدالة لا بد أن يوازيها في نفس الوقت دراسة متعمقة في معنى الحرية.
والدراسة تضم ثلاثة أبواب، وهي العدالة والحرية، والفكر السياسي، وهو يشتمل على فصلين، الأول يحدد فيه الباحث مفهوم العدالة والحرية من خلال مبحثين، الأول بعنوان: تحديدات سياسية، تناول فيه تعريف الفلسفة السياسية، ثم المصطلح اللغوي للعدالة والحرية، والثاني بعنوان: الحضارات الشرقية القديمة والفكر اليوناني، ويحاول فيه الباحث تتبع العدالة والحرية في تلك الحضارات، وكذلك في الفكر اليوناني.
أما الفصل الثاني فهو بعنوان: العدالة والحرية بين الفكر والواقع، وقد احتوى هذا الفصل على مبحثين، الأول في الحضارة الرومانية والفكر السياسي في العصور الوسطى الأوروبية، والثاني في الفكر السياسي الإسلامي والفكر الغربي الحديث، فالتناول الموضوعي والتأصيلي للمفهوم الغربي المعاصر والمفهوم الإسلامي، العودة إلى المفهوم الغربي في الحضارة الرومانية وفكر العصور الوسطى الأوروبية، بل والفكر الغربي الحديث، لإيضاح الأحداث والأسباب التي أدت إلى نشأة ذلك المفهوم الغربي المعاصر، وكذلك تناولت الفكر السياسي الإسلامي، بما فيه من أفكار واجتهادات تعد تعبيرًا عن توجيهات القرآن الكريم والسنة النبوية الشريفة، فمن خلال تلك التوجيهات اجتهدوا في حل المشكلات والقضايا والتحديات في عصورهم، وهذه الاجتهادات السابقة يمكن الاستفادة بها في إطار الاجتهادات الفكرية والفلسفية المعاصرة، فالاجتهاد والتجديد وتنمية الإبداع يقتضيه التطور التاريخي، واختلاف مشكلات وقضايا وتحديات المرحلة التاريخية عن القضايا والتحديات السابقة.
أما الباب الثاني فهو عن العدالة والحرية في المفهوم الغربي المعاصر واشتمل على فصلين، الأول عن المفهوم الليبرالي الرأسمالي للعدالة والحرية، واحتوى هذا الفصل ثلاثة مباحث، الأول: مصادر المفهوم الليبرالي الرأسمالي، الأسس العامة ورأسمالية الطبقة، أما الفصل الثاني فهو بعنوان المفهوم الماركسي الاشتراكي للعدالة والحرية، ويعرض فيه ثلاثة موضوعات: ماركس والمادية الجدلية، المادية التاريخية والنظام الاجتماعي والنظام الاقتصادي والسياسي..
العدالة والحرية في المفهوم الإسلامي
أما الباب الثالث فكان عن العدالة والحرية في المفهوم الإسلامي. ويوضح الباحث فيه المفهوم الإسلامي للعدالة والحرية، من خلال فصلين، الأول: ركائز وأسس العدالة والحرية، وهو يشتمل على مبحثين، الأول: ركائز للعدالة والحرية، والعدالة والحرية للأسس الاقتصادية، وفى الفصل الثاني مجالات للعدالة والحرية، وفيه حاول الباحث تقديم المجالات المتعددة لكل من العدالة والحرية في المفهوم الإسلامي، وذلك من خلال ثلاثة مباحث، الأول: مجالات للعدالة والثاني: مجالات للحرية، ثم يأتي المبحث الأخير في هذا الفصل، وهو بعنوان: تقارب واختلاف، حيث يتم تحديد أهم نقاط التقارب والاختلاف بين المفهوم الغربي المعاصر والمفهوم الإسلامي عن العدالة والحرية.
يرى الباحث أنه لا يمكن إنكار أن الحرية السياسية قيمة إنسانية عليا، وأنها أتاحت للعقل حرية التفكير وحرية التعبير، وأعلت من قيمة الإبداع الإنساني، وجعلت الفرد قيمة في حد ذاته، لأنه إنسان، بغض النظر عن جنسه أو دينه أو لونه.. وهذه القيم حدّت من توحش الرأسمالية والظلم الاجتماعي. ولما جاءت الماركسية لتعلي من العدالة الاجتماعية وتحد من التفاوت الطبقي تطرفت بقوة في هذا الجانب، وقضت على الحرية بمختلف مستوياتها وأشكالها، كي تقوم ديكتاتورية البروليتاريا التي تم اختصارها في اللجنة المركزية للحزب الشيوعي، وبسبب قتل الحريات انهارت تلك النظرية بسرعة شديدة، وكان هذا الانهيار تأكيدًا على أن الحرية مطلب إنساني يجب أن يتحقق للإنسان لأنه إنسان.
كما يرى الباحث أن الاشتراكية والماركسية قامتا للقضاء على الفقر وتحقيق العدالة الاجتماعية، لكن الأمر انتهى بملء خزائن أعضاء اللجنة المركزية للحزب بالأموال، بينما بقي عامة الشعب يعيشون الفقر، وكانت هناك نسبة قدرت بحوالي 20% من المجتمع السوفييتي تحت خط الفقر، أي أنه لا عدالة تحققت لهم، فضلًا عن إنهم سُلبوا حرياتهم. بينما كانت الحرية والليبرالية قادرة على تصحيح أخطائها والانتباه إلى السلبيات التي تنتج عنها سياسيًا واجتماعيًا.
ويرى الباحث أن الحرية في الغرب قامت في إطار رد الفعل على الاستبداد في العصر الكنسي، ولذا فإن الحرية شابها التطرف، خاصة في الجوانب الاقتصادية، بينما الحرية في المفهوم الإسلامي تقوم على الاعتدال، وبسبب روح الاعتدال تلك حدث التوازن بين الحرية والعدالة، ومن ثم كانت هناك ضوابط للملكية في الإسلام، ومن حق الحاكم أن يتخذ إجراءات استثنائية لتحقيق العدل الاجتماعي والتوازن بين الفقراء والأغنياء.
وأن الإجراءات الاستثنائية التي يمكن للحاكم أن يتخذها ليست مطلقة، بل مرتبطة بظروف خاصة، وهي قلة موارد الدولة، وتعرض المجتمع لأزمة خانقة، كما حدث في زمن الخليفة العادل عمر بن الخطاب، عام المجاعة، ويمكن للحاكم في هذه الحالة أن يأخذ من أموال الأغنياء ليعطي الفقراء، هذه الإجراءات الاستثنائية هي المحظورات التي لا تُتخذ إلا للضرورات التي تبيحها، ويشترط في تطبيق تلك الإجراءات الورع والتقوى، أي لا تتم بشكل انتقامي، ولا تنطلق من أحقاد خاصة على الأغنياء. والقاعدة في هذا كله أن المال في الأصل مال الله. قال الله تعالى في سورة الحشر: (كيْ لا يكونَ دولةً بين الأغنياءِ منكم). وفي الحديث النبوي الذي رواه أبو هريرة: «ما نقص مال عبد من صدقة فتصدقوا».
يقول الباحث: إن هذا التأكيد للحرية والعدالة وارتباطهما الوثيق في المفهوم الإسلامي، يقي الحرية من أن تتضمن ظلمًا اجتماعيًا، وكذلك لا يأتي العدل متضمنًا الاستبداد بسبب الاعتداء على الحرية، فمن العدل أن يكون الإنسان حرًا، كما أن الحرية لا تكتمل إلا بالعدل. هذا التكامل بين الحرية والعدالة يحمي المجتمع من بعض المقولات الخادعة، مثل ما راج كثيرًا عن فكرة المستبد العادل، كما أنه يحمي المجتمع من قيام دولة دينية – ثيوقراطية – فالدولة يجب أن تكون مدنية.
وقد استعرض الباحث في كتابه – وهو في الأصل رسالة للدكتوراه في الفلسفة السياسية من جامعة عين شمس المصرية – آراء وأفكار عدد كبير من المفكرين والفلاسفة الغربيين المعاصرين، فضلًا عن الفلاسفة القدماء، مثل سقراط وأفلاطون وأرسطو، كما استعرض أفكار عدد من المدارس الفكرية والفلسفية اليونانية والأوروبية الحديثة، لكنه في الجانب الإسلامي لم يركز على آراء وأفكار فقهاء ومفكري الإسلام، بينما ركز على النصوص الدينية مباشرة، وهي القرآن الكريم والأحاديث النبوية الشريفة.
المصدر: «نوافذ».