النصوص وحدها لا تكفي..كيف نقرأ مخرجات القمة العربية؟
في لحظة سياسية بالغة الحساسية، عُقدت القمة العربية الطارئة بالقاهرة في 4 مارس/آذار 2025، تحت عنوان مركزي يفرض نفسه على الجميع: ماذا
بعد حرب غزة؟ وكيف يمكن حماية القطاع وسكانه من مشاريع التهجير والمحو؟
أعلن الرئيس المصري عبد الفتاح السيسي، في ختام القمة، اعتماد القادة العرب لـ”خطة إعادة الإعمار والتنمية في غزة” التي أعدتها مصر، مؤكدًا أن جوهر الخطة هو “الحفاظ على حق الشعب الفلسطيني في البقاء على أرضه”، عبر مشروع متكامل للتعافي وإعادة الإعمار يمنع تهجير الفلسطينيين قسرًا من القطاع، ويحاصر محاولات تصفية وجودهم ضمن مشاريع تستهدف تفريغ الأرض من سكانها.
وتضمنت الخطة المصرية إنشاء لجنة مستقلة “غير فصائلية” من التكنوقراط، تعمل تحت مظلة الحكومة الفلسطينية، لتتولى إدارة شؤون غزة خلال مرحلة انتقالية تمتد لـ6 أشهر، بما يضمن استمرار الخدمات الأساسية، وبدء عمليات الإعمار وفق خطة تمتد لخمس سنوات بتكلفة تقديرية بلغت 53 مليار دولار.
كما تضمنت الخطة إنشاء صندوق ائتماني عربي لتلقي التعهدات المالية وتنفيذ مشروعات إعادة الإعمار، وتوفير سكن مؤقت للنازحين داخل القطاع في 7 مواقع تستوعب أكثر من 1.5 مليون فلسطيني.
وفي بيانها الختامي، شددت القمة على رفض محاولات التهجير القسري والتغيير الديموغرافي في الأراضي الفلسطينية، وأدانت سياسات الاحتلال الإسرائيلي في تجويع السكان وفرض سياسة الأرض المحروقة لفرض واقع جديد بالقوة.
كما أكدت القمة أن “الخيار الاستراتيجي يظل في تحقيق السلام العادل والشامل الذي يضمن كافة الحقوق المشروعة للشعب الفلسطيني”.
وجاء انعقاد القمة الطارئة، التي أُطلق عليها البعض اسم “قمة فلسطين”، كرد مباشر على المشاريع الصهيونية والأمريكية التي طُرحت مؤخرًا، وفي مقدمتها مقترح الرئيس الأمريكي دونالد ترامب بتهجير سكان غزة إلى مصر والأردن، وتحويل القطاع إلى “ريفييرا الشرق الأوسط”، في واحدة من أخطر المحاولات الرامية إلى تصفية الوجود الفلسطيني وإنهاء القضية الفلسطينية بشكل كامل.
بهذه العناوين العريضة، بدت القمة وكأنها تؤسس لمرحلة جديدة من الحضور العربي في ملف غزة، لكن خلف هذه العناوين… بقيت الأسئلة الأصعب حول الإرادة والقدرة على التنفيذ، وحدود المناورة الفلسطينية الرسمية بقيادة محمود عباس، ومستقبل القطاع في ظل تعقيدات اليوم التالي للحرب.
إيجابية النصوص، وضبابية الحضور
من حيث المبدأ، يمكن القول إن مخرجات القمة العربية الأخيرة تبدو، ظاهريًا، إيجابية إلى حد ما، لا سيما فيما يتعلق بخطة إعمار قطاع غزة وخطوطها العامة، والتي تنسجم مع توجهات غالبية القوى السياسية الفلسطينية.
ومع ذلك، فإن الامتحان الحقيقي لهذه المخرجات لا يكمن في الصياغات أو البيانات الختامية، مهما بدت منمقة ومتفقة مع المواقف الفلسطينية، بل في القدرة الفعلية على نقلها من إطارها الشعاراتي إلى حيز التنفيذ العملي، وهو ما يحتاجه الشعب الفلسطيني اليوم على نحو عاجل وملح.
في المقابل، جاء غياب عدد من القادة العرب المؤثرين، وخاصة ولي العهد السعودي والرئيس الإماراتي والرئيسين الجزائري والتونسي، ليفتح الباب أمام تساؤلات حقيقية بشأن مستوى الجدية في دعم الخطة المقترحة.
هذه الغيابات ليست تفصيلًا عابرًا؛ بل تعكس ضعف الإرادة العربية في التعامل مع ملف بهذه الحساسية، الذي لا يتعلق بمستقبل الفلسطينيين وحدهم، بل بمستقبل الإقليم بأكمله، في ظل المشاريع الإسرائيلية لإعادة رسم خريطة الشرق الأوسط على قاعدة الهيمنة الكاملة وتصفية القضية الفلسطينية.
وهنا تتضح الإشكالية الأكبر؛ فبدون موقف عربي موحد وقوي، ودون دعم سعودي واضح وصريح على وجه الخصوص، ستبقى هذه المخرجات عاجزة عن التأثير في حسابات القوى الكبرى، وعلى رأسها الولايات المتحدة.
بل إن مفتاح نجاح أي مبادرة عربية اليوم يجب أن يرتكز على مخاطبة إدارة دونالد ترامب بوضوح، بوصفها الطرف الذي يمنح الغطاء الكامل لحكومة الاحتلال في تنفيذ خططها التهويدية والتهجيرية في فلسطين، بحيث يكون الالتزام بالتصور العربي المعلن شرطًا أساسيًا لأي صفقة أو تسوية إقليمية تروّج لها واشنطن.
لا مبالاة مقصودة وتجاهل محسوب
كما كان متوقعًا، قوبلت مخرجات القمة العربية الطارئة بفتور أمريكي وإسرائيلي شديد، عكس قناعة راسخة لدى الطرفين بضعف المنظومة العربية الرسمية، وانعدام قدرتها على فرض أي معادلة سياسية مؤثرة.
بدا واضحًا أن واشنطن وتل أبيب تعاطتا مع القمة كحدث بروتوكولي عابر، لا يستدعي التوقف عنده طويلًا، ولا يُحدث فرقًا في مشهد التحولات الكبرى التي تقودها حكومة الاحتلال بدعم أمريكي مطلق.
وعلى الفور، أعلن البيت الأبيض رفضه الصريح لمخرجات القمة، مجددًا تمسكه برؤية الرئيس الأمريكي دونالد ترامب لإعادة إعمار غزة “خالية من حماس”.
وفي تعقيب رسمي، قال المتحدث باسم مجلس الأمن القومي، بريان هيوز: “نحن ندعم رؤية الرئيس ترامب، والمقترح العربي يتجاهل حقيقة أن غزة غير قابلة للعيش حاليًا، ولا يمكن للفلسطينيين العيش إنسانيًا وسط الأنقاض والذخائر غير المنفجرة”.
بالمثل، سارعت حكومة الاحتلال إلى إعلان موقف أكثر عدوانية، إذ رفضت جملة وتفصيلًا خطة الدول العربية بشأن غزة، وهاجمت البيان الختامي للقمة باعتباره “متجاهلًا لحقيقة ما بعد السابع من أكتوبر”.
وذهبت خارجية الاحتلال إلى أبعد من ذلك، بالدعوة العلنية لتبني خطة ترامب الخاصة بتهجير سكان قطاع غزة، متهمة الدول العربية بمحاولة “تكريس اللجوء الفلسطيني”، ومؤكدة رفضها أي حلول تتضمن بقاء حماس أو حتى السلطة الفلسطينية ضمن المشهد المستقبلي.
هذا الموقف المزدوج يؤكد حجم التنسيق العميق بين الإدارة الأمريكية وحكومة الاحتلال في تبني خيار “الحسم الكامل” مع غزة، سواء بفرض التهجير أو بإبقاء القطاع في حالة دمار دائم يمنع أي استقرار أو إعادة إعمار حقيقي، مقابل إجهاض أي مبادرات عربية أو دولية قد تعيد الاعتبار للحق الفلسطيني في أرضه.
ويعكس ايضًا الإدراك المستمر للاحتلال والولايات المتحدة لحجم الضعف البنيوي الذي تعاني منه المنظومة العربية الرسمية، لا سيما في ظل الأزمات والانقسامات التي سبقت القمة، والتباينات حول الإجابة عن الأسئلة الكبرى المتعلقة بمستقبل غزة والقضية الفلسطينية برمتها.
موقف فلسطيني رسمي مناور وفصائلي حذر
أما على المستوى الفلسطيني، فقد حاول الرئيس محمود عباس، في كلمته أمام القمة، تقديم نفسه كصاحب مشروع “السلطة المتجددة” القادرة على تلبية متطلبات اللحظة عربياً ودولياً.
لكنه في الحقيقة التزم الهروب من استحقاقات المصالحة الوطنية الحقيقية، مفضلًا الترويج لمصالحة داخلية في إطار حركة فتح، ومُغفلًا أي تقدم في استحقاقات التفاهمات الوطنية التي تمخضت عن لقاءات بكين.
كما حاول عباس تسويق التعديلات والإجراءات التي اتخذها مؤخرًا باعتبارها “إصلاحات”، بينما هي عمليًا استمرار لنهج التفرد بالقرار الفلسطيني، بعيدًا عن إشراك القوى والفصائل الوطنية، خصوصًا فصائل المقاومة التي تشكل عمقًا رئيسيًا في المعادلة الفلسطينية.
تضمنت الخطة المصرية المقدمة في القمة معالجة لبعض الثغرات لتجنب الاصطدام مع برامج الفصائل الفلسطينية، وحرصت على تقديم صياغات مرنة تجاه قضايا حساسة مثل سلاح المقاومة وطبيعة المرحلة الانتقالية.
إلا أن غياب أي إشارة من عباس لهذه البنود الجوهرية، خاصة مقترح اللجنة المستقلة ذات المرجعية الحكومية لإدارة المرحلة الانتقالية، يطرح تساؤلات حول جدية التعامل مع هذه المبادرة.
الفصائل الفلسطينية بدورها قابلت مخرجات القمة العربية بترحيب حذر، إذ رأت في النصوص المعلنة خطوات إيجابية، لكنها أبقت أعينها مفتوحة على اختبار التنفيذ والالتزام العملي.
حركة حماس وصفت القمة بأنها تدشين لـ”مرحلة متقدمة من الاصطفاف العربي والإسلامي مع القضية الفلسطينية”، معتبرة الموقف العربي الرافض لمحاولات التهجير “رسالة تاريخية” بأن النكبة الفلسطينية لن تتكرر.
وفيما رحبت باعتماد خطة إعادة إعمار غزة، دعت إلى توفير المقومات اللازمة لإنجاحها، مع تأكيدها دعم تشكيل لجنة الإسناد المجتمعي لمتابعة ملف الإغاثة والإعمار وإدارة غزة باعتبارها جزءًا من الدولة الفلسطينية.
كما شددت على ضرورة إلزام الاحتلال بتعهداته في اتفاق وقف إطلاق النار، مطالبة بتحرك عربي موحد للضغط على الاحتلال وبدء مفاوضات المرحلة الثانية.
أما حركة الجهاد الإسلامي، فأبدت نظرة أكثر تحفظًا، معتبرة أن “المخرجات جيدة” لكنها لا ترتقي لمستوى التحديات المفروضة من الاحتلال والإدارة الأمريكية، خصوصًا فيما يتعلق بوقف العدوان، ومنع التهجير، وحماية الحقوق الفلسطينية.
وطرح نائب الأمين العام للحركة محمد الهندي تساؤلات صريحة حول الغاية من فكرة نشر قوات دولية: “هل ستكون لمواجهة الاحتلال أم لنزع سلاح المقاومة؟”، مشددًا على رفض أي وجود لقوات دولية في غزة.
من جانبها، أشادت الجبهة الشعبية لتحرير فلسطين بالبيان الختامي، وخاصة البنود المتعلقة برفض التهجير ودعم جهود الإعمار وتشكيل لجنة مستقلة لإدارة غزة، لكنها أكدت أن تحويل هذه المخرجات إلى خطوات عملية هو التحدي الأكبر، مطالبة ببدء إجراءات فورية لوقف العدوان وانسحاب الاحتلال وتعزيز صمود الشعب الفلسطيني.
كما شددت الجبهة على أن إدارة الإعمار يجب أن تكون بمرجعية فلسطينية خالصة، وبعيدًا عن أية أجندات تهدف لتقويض المقاومة أو فرض حلول أمنية تخدم الاحتلال، وفيما يتعلق بفكرة نشر قوات دولية، أكدت الجبهة أن الأمر يحتاج إلى توافق وطني فلسطيني، إذ لا يمكن تجاوز حقيقة أن الاحتلال هو جوهر المشكلة، والحل يكمن في إنهائه وليس بتدوير الأزمة بواجهات أمنية جديدة.
في المجمل، بدت مواقف الفصائل مرحبة لكنها مشروطة، تراقب الأفعال أكثر من الأقوال، وتدرك أن الاختبار الحقيقي لمخرجات القمة لن يكون في البيانات الختامية، بل في قدرتها على حماية الحقوق الفلسطينية وكبح العدوان وتثبيت حق الشعب الفلسطيني في أرضه.
بلا خطة مواجهة
ورغم الإشارة الواضحة في مخرجات القمة لدعم التهدئة ومنع التصعيد، إلا أن القمة تجاهلت تمامًا وضع تصور عملي لمواجهة خطر العودة إلى الحرب المفتوحة في غزة، خاصة في ظل التصريحات المتكررة لرئيس حكومة الاحتلال بنيامين نتنياهو، الذي بات يدفع بشكل معلن نحو تطبيق خطة التهجير القسري لأهالي قطاع غزة بغطاء سياسي من إدارة ترامب، في محاولة لفرض “الترانسفير” كحل نهائي، تحت غطاء أمريكي وإقليمي.
في المحصلة، يمكن اعتبار مخرجات القمة خطوة شكلية في الاتجاه الصحيح، لكنها تبقى قاصرة ومحدودة التأثير طالما لم ترتكز على آليات تنفيذ فعلية، ولم تُدعم بإرادة سياسية عربية صلبة تضع خطوطًا حمراء أمام الاحتلال وخططه التصفوية. وبدون ذلك، سنبقى ندور في حلقة مفرغة من البيانات الختامية التي لا توقف عدوانًا ولا تحمي شعبًا ولا تعيد إعمارًا.
المصدر: “قدس الإخبارية”
Comments are closed.