نجيب علي العصار
صور شتى وحكايات مؤلمة لا تزال عالقة في الذاكرة اليمنية عن الأساليب اللا إنسانية الموحشة التي ارتكبها جنود الاحتلال البريطاني في الجنوب لقمع وإذلال المواطنين شيوخا وأطفالا ونساء تُوجت بعد كفاح وطني مرير بتحقيق الاستقلال الوطني المجيد في الـ30 من نوفمبر 1967م.
ومع ذلك لم تفكر حكومة بريطانيا بالاعتذار الواجب والإقرار الأخلاقي بما لحق شعبنا اليمني من قتل لأهالينا واستباحة لحرماتنا أثناء حكمها الاستعماري الذي دام مائة وتسعة وعشرين عاما عُد الأطول والأنكى في تاريخ الدول الاستعمارية.
ولم تكتف بريطانيا ما بين الأمس واليوم بما ارتكبته من انتهاكات جسمية لحقوق الإنسان في جنوب اليمن إبان حكمها الاستعماري، هاهي تمارس ذات الدور بتدخلها بشكل سافر ضد اليمن واليمنيين، بدءا من مشاركتها في العدوان على اليمن في مارس من العام 2015م، ثم مشاركتها الآن في ما يسمى تحالف “حارس الازدهار” في البحر الأحمر، في بلد يشهد أسوأ أزمة إنسانية في العالم تستدعي وقف الحرب.
ذريعة لنهب الثروة
في أوائل القرن التاسع عشر، وجهت بريطانيا أطماعها الاستعمارية إلى عدن، فموقع هذه المدينة كان مثالياً لتزويد السفن المُبحرة من مركز الإمبراطورية إلى الهند بالفحم الحجري (وقود السفن حينها).
جرائم وانتهاكات ووحشية وسجون وأقبية لقمع المطالبين بالاستقلال
وعمدت القوات البحرية لشركة الهند الشرقية في العام 1839 إلى احتلال هذه المدينة الساحلية بذريعة مكافحة القرصنة.
وجاء افتتاح قناة السويس في العام 1869 ليزيد من أهمية عدن الاستراتيجية، فجزء كبير من التجارة البحرية بين أوروبا وشرق آسيا تحوّل من رأس الرجاء الصالح إلى البحر الأحمر، وعدن تقع عند مدخل مضيق باب المندب، وهو بوابة السويس.
السفينة تغرق!
السفينة تغرق، بهذه العبارة احتلت بريطانيا عدن وبدأ معه تقسيم جنوب الجزيرة العربية من اليمن ومعه بدأ تاريخ الوصاية والإقصاء والألم والصراعات، حين زارها ضابط البحرية البريطانية “هينس” لم يستطع أن يخبئ اندهاشه بما رآه من روعة، وبسرعة المكتشف قام بالتواصل سريعا بحاكم التاج البريطاني في الهند وأخبره كما في نص الرسالة، “إن هذا المرفأ العظيم يمتلك من المقدرات والإمكانات ما لا يمتلكه أي ميناء آخر في الجزيرة”.
في عام 1837م مثل غرق السفينة “داريا دولت” الفرصة التي جاءت من السماء، أبرق “هنس” إلى التاج الملكي في بومباي وبصوت مرتفع “السفينة تغرق”، شارحا تفاصيل ما حدث وتفاصيل ما فكر القيام به.
وكان يوم 19 يناير 1839م، إعلاناً بتاريخ مغاير لعدن، فلقد تحولت عدن الى محمية بريطانية تابعه للملكية التي لا تغيب عنها الشمس، ومن يومها غابت عدن عن الجزيرة العربية.
بطش وإرهاب وقتل
مارس الاحتلال البريطاني في جنوب اليمن أبشع صور الاحتلال وأكثرها قسوة ووحشية، ولو لم يفعل ذلك لما كان للثورة وقودها من القهر والآلام والأوجاع التي مضى على تكريسها عشرات السنين.
وفعل الاحتلال البريطاني في جنوب اليمن ما أراد من استغلال، ومارس كما يمارس أشباهه وأضرابه من الانتهاكات والاعتداءات من القتل والتدمير والقمع والتنكيل، حتى أنه استخدم الطيران الحربي مراراً وتكراراً في حربه ضد المدنيين العزل في مختلف المناطق، وكان الطيران يقصف القرى والمدن والمساكن والطرقات والمباني بكل عنف ووحشية دون أن يفرق بين مواطن أو مقاتل، وبين الأطفال والنساء والشيوخ الطاعنين في السن دون اكتراث لما يمكن أن يؤدي إليه القصف الجوي المتسم بالهمجية والبربرية.
“مذبحة الشهداء”
استخدمت بريطانيا ضد المتظاهرين العزل في مدينة عدن القوة المفرطة والأسلحة النارية والمدافع والمدرعات وأطلقت النار عليهم دون رحمة مما أدى إلى اعتقالات واسعة وسقوط عدد كبير من القتلى والجرحى،
(حسب التقارير الرسمية البريطانية وحدها قُتل حوالي 82 متظاهرًا وأصيب آخرون).
وأثارت هذه المذبحة غضب الشعب وزادت من رغبته وهدفه بالاستقلال والذي تحقق بعدها بعام واحد من المذبحة.
كما اتسم العهد الاستعماري البريطاني خلال تلك الحقبة بالبطش والإرهاب ولم يترك لأبناء شعبنا في الجنوب مساحة للحوار، فأشهر الغزاة السلاح وجندلوا به رؤوس المواطنين العزل وروعوا النساء والأطفال والعجزة بأصوات المدافع ولعلعات الرصاص ودوي القنابل والمدرعات وأزيز الطائرات.
ومضى المستعمرون بدم بارد في ابتداع أساليب لا إنسانية لإذلال المواطنين مداهمات واقتحام للمساكن والبيوت لاعتقال المطلوبين من عناصر الحركة الوطنية من بين أسرهم وأطفالهم في ساعات متأخرة من الليل وتهافت أجلاف المستعمر من جنوده المتعطشين للدم والتنكيل على استباحة كرامة الإنسان، وتعمدوا هتك حرمات النساء لكسر إرادة الرجال وفي المقدمة منهم المناضلون والثوار.
كما يجب ألا ننسى الأساليب الوحشية التي مارسها جنود الإنجليز في أقبية وكهوف التعذيب داخل المعتقلات والسجون البريطانية في عدن عُدَت من أقسى الأساليب التي اتبعتها الاستخبارات البريطانية في إذلال المواطنين ومحاولة تدمير الروح الوطنية لدى من يتوثب إلى مساندة ودعم المقاومة ضد الاستعمار وأعوانه.
بدم بارد ابتداع المستعمرون أساليب لا إنسانية لاعتقال المطلوبين من عناصر الحركة الوطنية
تسفير جماعي
وما لبث المستعمرون لترسيخ الاحتلال والسيطرة على المناطق المجاورة لعدن أن يمضوا في تنفيذ سياستهم التي تعتمد على مبدأ “فرق تسد” فعندما رفع العمال شعار الإضراب كأسلوب سلمي من أجل الحصول على حقوقهم المشروعة ما برح جنود الاحتلال يشهرون في وجه الشعب كل أسلحتهم، وقبل أن تجف دماء الضحايا والشهداء اتخذ الإنجليز إجراءات انتقامية حاقدة تمثلت في التسفير الجماعي لأبناء الشمال اليمني بهدف عزلهم عن الحركة العمالية وإهانتهم وتحطيم معنوياتهم، لإدراك المستعمر أن هؤلاء العمال من أبناء اليمن شماله وجنوبه هم القاعدة الشعبية الأساسية التي تعتمد عليها الحركة العمالية الوطنية في نضالها من أجل الحرية والاستقلال وتحقيق وحدة الأرض اليمنية، ووقتئذ أقدمت السلطات الاستعمارية على إلغاء بطاقات تحقيق الشخصية التي أعطيت لأبناء الشمال لتحل محلها بطاقات أخرى لا يستطيع اليمني من أبناء الشمال الحصول عليها، إلا إذا كان قد أمضى عشر سنوات متواصلة في مدينة عدن بينما أبناء الجاليات الهندية واليهودية وغيرها يحصلون على الجنسية إذا أثبتوا بقاءهم في عدن لمدة خمس سنوات.
مأساة زهرة
حكايات ومآسٍ عديدة لا تنسى، عاناها شعبنا في الجنوب أثناء تلك الحقبة اللعينة وتلك الحكايات مفرداتها تتوشى بالشموخ وبالاعتداد بالتاريخ النظيف للكرامة الوطنية وعلى النقيض ظهرت صفحات سوداء في تاريخ المحتل البريطاني.
ويحكي مناضلون مأساة “زهرة” وفقا لكتاب: “عدن.. الاعتقالات ووحشية التعذيب في سجون الاستعمار البريطاني”، لمؤلفه راشد محمد ثابت: “أن امرأة من قرية حبيل جبر تدعى “زهرة” كانت تعبر تحت القصف البريطاني سيل ماء متدفق في وادي بنا تحمل في حضنها رضيعة في الشهر الثالث ملفوفة في قماط من رقع وأسمال بالية حتى إذا اجتازت هذا السيل وتوقفت على ضفته الأخرى اكتشفت أنها لم تعد تحمل في حضنها إلا تلك الخرقة والأسمال، أما الطفلة الوليدة فقد سقطت من حضنها إلى الماء الجارف دون أن تشعر وهي تشق عباب السيل مذعورة تحت أزيز الطائرات التي كانت تنخفض حتى مستوى رأسها وتقذف الصواريخ ميسرة وميمنة منها حتى خالجها الإحساس بأنها ستقتل لا محالة في تلك اللحظة التي كانت الطائرات تقذف صواريخها من حولها بلا حساب طوال الطريق.
سرقة وتهريب الأثار
أما في ما يتعلق بـ “هوية الشعوب” الآثار فالمصادر التاريخية ذكرت أن البدايات الأولى لتهريب الآثار اليمنية إلى خارج البلاد تعود إلى خمسينيات القرن الماضي إبان الاحتلال البريطاني لجنوب الوطن، حيث نشط عدد من الضباط البريطانيين حينها في تهريب الآثار اليمنية، ووفقاً لإحصائيات دار المخطوطات فإن 0002 مخطوطة يمنية موجودة في المتحف البريطاني في لندن.
وحكى رجل إنجليزي هو “جون ستودي لي” في صفحات من يوميات بحار إنجليزي تعود إلى نهاية سنة 1838م ، والأسابيع الأولى من سنة 1839م وهي تمثل الفترة التي شهدت الإعدادات العسكرية البريطانية لاحتلال عدن والذي تم في 91 يناير 1839م ، حكى هذا البحار الذي عايش الحدث وكان شاهداً عليه عن كثب أنه تحقق من وجود رخامات أضرحة في المتحف البريطاني بلندن كان قد تولى بنفسه نزعها ونقلها من عدن سنة 1841م.
كما عُرضت الآثار اليمنية المهربة والمسروقة في متاحف عالمية منها بريطانيا.
ووثق تقرير مركز “الهدهد” للدراسات الأثرية في صنعاء، 4265 قطعة أثرية منهوبة ومهربة، تم عرضها في المزادات العالمية في ست دول من بينها العاصمة البريطانية لندن، التي جاءت في المرتبة الثانية، خلال الفترة 1991 إلى 2022 منها 2610 قطع أثرية تم نهبها وتهريبها منذ بدء العدوان على اليمن في مارس 2015.
فيما يتحدث الخبير اليمني المهتم بالآثار عبد الله محسن عبر سلسلة منشورات في “فيسبوك” عن بيع قطع وتماثيل أثرية يمنية تاريخها يعود إلى فترة ما قبل الميلاد، منها 34 قطعة بيعت في يونيو 2024م.
واحتوت القطع الأثرية المعروضة للبيع في مزاد لندن على (عنصرين معماريين من المرمر عليهما طيور وأوراق زخرفية، وعنصر معماري من المرمر عليه نحت بارز لورق وثمار العنب، وعنصر آخر عليه نقش مسند في الأسفل، ومجموعة من ثلاث قطع، نحت بارز على الحجر الجيري لأسد وثعبان وكلب صيد، ونحت برأسين مع حيوان، وحجر زاوية به غزال وأوراق شجر وشكل، ومبخرة دائرية من الحجر الجيري الأسود، وقطعة برونزية ذات فصوص مزدوجة مع رأس ثور مثبّت في المنتصف بشكل بارز).
تجارة الأسلحة وقتل المدنيين
وخلال سنوات الحرب على اليمن التي بدأها التحالف عام 2015م، دعمت بريطانيا تحالف العدوان بقيادة السعودية لوجستيا، وفاقت مبيعات الأسلحة البريطانية للسعودية خمسة مليارات جنيه إسترليني منذ بداية الحرب في اليمن في مارس 2015، بحسب صحيفة “غارديان” البريطانية، وكانت منظمة “أوكسفام” الدولية قد اتهمت بريطانيا بتأجيج العنف ضد المدنيين في اليمن من خلال مبيعات الأسلحة للسعودية.
منذ بداية العدوان.. أسلحة بريطانية للسعودية بقيمة خمسة مليارات جنيه إسترليني
من جهتها، رفعت منظمة “الحملة ضد تجارة السلاح” دعوى متهمة الحكومة البريطانية بالمساهمة في انتهاك القانون الدولي، والتسبب بأكبر كارثة إنسانية في العالم.
المقاومة المناهضة للاستعمار
ومع كل هذه الانتهاكات والجرائم التي ارتكبتها بريطانيا أبان حكمها الاستعماري لجنوب اليمن، وما صنعته وتصنعه الآن من حقد ومؤامرات دنيئة لتغذية الصراعات والحرب في اليمن، ما زال هذا الإرث المناهض للاستعمار حيا ويُذكِّي اليوم المقاومة اليمنية ضد الاحتلال الأجنبي والهيمنة الغربية، وما أشبه الليلة بالبارحة، احتلت بريطانيا عدن بحجة غرق السفينة “داريا دولت” في عام1837م، وحولت عدن آنذاك إلى محمية بريطانية، واليوم تشارك بريطانيا حليفتها أمريكا في عدوانها على اليمن، في ما يسمى بـ”حارس الازدهار” في البحر الأحمر، ما يؤكد أن بريطانيا الحليفة في هذا العدوان الغاشم قد سبقت الولايات المتحدة إلى الاعتداء على اليمن، وذلك من خلال ممارسات القرصنة والاستعمار التي قامت عليها الإمبراطورية البريطانية أساساً.
المحتلين الجدد
بعد مرور 57 عاماً على استقلال جنوب اليمن من الاحتلال البريطاني، عاد الجنوب مجدداً إلى الاحتلال، أجزاء واسعة، من ضمنها الجزر والموانئ والشريط الساحلي والمنشآت النفطية والغازية، تسيطر عليها الإمارات، وما تبقى في المنطقة الشرقية المهرة، أصبح تحت سلطة السعودية.
وفي ذلك الوقت دخلت قوات الاستعمار البريطاني، عبر ميناء صيرة، إلى مدينة عدن تحت ذريعة مكافحة القرصنة، وفي سيناريو مشابه، لكن في القرن الحادي والعشرين، دخلت القوات الإماراتية إلى المدينة عبر ميناء البريقة، تحت ذريعة مواجهة “التمدد الإيراني» في الجزيرة العربية وتأمين الملاحة الدولية هذه المرة.