Visit Us On TwitterVisit Us On FacebookCheck Our Feed

حسن عبدالوارث: “نصف عمود” يصنع حياة كاملة

أحمد الأغبري

يعجز القلم، بلا شك، عن الكتابة عمن أمسكوا بصولجان الكلام؛ من أساتذتنا أرباب الحرف في اليمن؛ أولئك الذين اكتشفنا أنفسنا بين سطورهم، وتعلمنا في رحاب مقالاتهم، قيمة الكلمة، وتلمسنا روعتها، وعرفنا أهميتها وخطورتها في آن؛ أولئك الذين أسهموا في منح معادن الكتابة بريقها؛ تلك التي شُغفنا بها؛ فكانت الصحافة ملاذنا، أو المآل الذي ما زلنا ننشد الجنة فيه، وإن كانت في الحقيقة الجحيم السرمدي!

خسرت الصحافة اليمنية برحيل حسن عبد الوارث (1962-2024)؛ قلما مخلصا للحقيقة والجمال في آن؛ وتلك ثنائية قلما يُجيد التعامل معها كاتب بمسحة ساخرة؛ لكن حسن استطاع بواسطتها أن يُسهم في صوغ أهم مراحل علاقتها بالعمود الصحافي تحديدا، وفي الكتابة الساخرة خصوصا؛ فكان رقما صعبا في سماء صحافة الكاتب التي شهدها اليمن، بوضوح، خلال مرحلة التسعينيات؛ وهي الصحافة التي تراجعت لاحقا حد الخفوت؛ بينما بقي حسن ممسكا بتلابيبها، محافظا على ما تبقى لها من حضور، وكأنه مَن تبقى من صُناعها؛ فكان في السنوات الأخيرة نجمها الأوحد إن جاز التوصيف؛ وبالتالي فمغادرته المبكرة في 25 سبتمبر/ أيلول قد أحدثت فجوة في صحافة الكاتب والمقال الساخر يمنيا، لن يملؤها غيره في الزمن المنظور.

بدأ تجربته الصحافية في نهاية السبعينيات، وبشكل أكثر وضوحا في الثمانينيات، وسجل حضوره الحقيقي في التسعينيات؛ فكان «نصف عمود» جواز سفره إلى قلوب القراء، الذين وجدوا فيه، مع قلة قليلة جدا من كُتاب العمود حينها، أجمل ما عاشته الصحافة اليمنيّة خلال تاريخها من علاقة مضيئة مع القارئ. جاء حسن على بساط «نصف عمود» في صحيفة «صوت العمال» متحققا في كتابة ساخرة مكثفة مزدانة بحلية لغوية عززت من جمال تكثيفه وسخريته؛ وقدرته على بسط أفكاره وقضاياه بكل سهولة وجمال؛ فكان مقاله من أهم المقالات التي ينتظر القارئ صدور الصحيفة لأجلها، بل لقد كان القارئ يدفع قيمة نسخته من «صوت العمال» مسبقًا، وبالتالي كان الفوز بعدد منها ليس سهلا؛ وتلك كانت المرحلة الذهبية لصحافة الكاتب في اليمن؛ وكان حسن وعبد الحبيب سالم و عبدالكريم الرازحي وغيرهم من أبرز نجومها وصناعها؛ وكان لحسن في ذلك بصمته ورؤيته، التي ظلت تصحبه حتى آخر مقالاته في موقع «قناة بلقيس».

اعترف بأنني ممن تهجى معاني الكتابة في ما نشره هؤلاء من مقالات، وبثوه من أفكار؛ بل لقد وضعنا أقدامنا على الطريق الذي اهتدينا إليها بواسطتهم؛ أولئك الذين كانوا أعلام صحافة التسعينيات، وتحديدا السنوات الأولى من ذلك العقد؛ أولئك همّ مَن عززوا ثقتنا بهذه المهنة، فتحية لحسن وللكاتب المختلف أيضا عبدالحبيب سالم اللذين رحلا، من نجوم تلك المرحلة؛ وبالتالي ما عساي أن أكتب عن نجم أفل من تلك النجوم قبل أوانه؟

ينتمي حسن عبد الوراث لزمن كان لصحافة الكاتب في اليمن حضورها الواضح؛ متميزا بكتابة قصيرة مكثفة، وفي الوقت ذاته تنداح بساطة وجمالا في آن؛ بساطة الطرح وجمال التفسير، بالاستعانة بلغة أدبية قادرة على تقديم حمولة كبيرة في مساحة صغيرة، وفي الوقت ذاته تكون قراءتها ممتعة وسهلة؛ وهذه مهمة ليست يسيرة على كاتب، إلا في حال كان قارئا نهما، وصاحب رؤية ثقافية مسيّجة بمفاهيم الجمال والحق والعدل والخير، وقبل ذلك يكون مرتبطا بعلاقة وطيدة بالأدب والسياسة والفكر؛ وتلك كانت حدود ومساحة حركة حسن في سطوره، التي لم تتجاوز «نصف عمود» لكنها كتبت تاريخ مرحلة.

كان الراحل من ألمع نجوم صحافة عقد التسعينيات؛ التي شهدت في اليمن، وتحديدا في سنواته الثلاث الأولى أزهى مراحل العمل الصحافي هناك، وكان الراحل ممن كتبوا وعمّدوا خصوصية تلك المرحلة، التي امتدت ببعص وهجها لما بعد حرب صيف 1994، واستطاع حسن أن يكون ممن ظلوا ملتزمين نهجا محترما في علاقته بالمقال والقارئ والوطن معا، وهي الثلاثية التي ظل حسن مرتبطا بها بعلاقة مخلصة وصادقة ونبيلة. وعلاوة على ذلك كان له مع السخرية تجربة تميزه عن أقلام الكتابة الساخرة في بلده؛ وهي السخرية التي لا يلحظها القارئ إلا وهو يبتسم ابتسامة خفيفة؛ لكنها مفعمة بدهشة الاستمتاع بجميل اللغة الفصيحة، والوصف الشعري والاستشهاد الفكري والاشتغال الذكي على السبك اللغوي والمزج التعبيري بين المفاهيم؛ فتأتي المعاني هرولة إلى وعي القارئ.
عمل في صحيفة «الثوري» الاشتراكية، ورأس تحرير صحيفة «الوحدة» الحكومية، وكانت الأخيرة خلال رئاسته من أنجح الصحف الحكومية، في علاقتها بالقارئ على اختلاف ألوان طيفه السياسي، إذ جعل منها منبرا لجميع الألوان، وبالتالي مكنها من الوصول إلى أكبر عدد من القراء.

تميز أسلوب حسن بقدرته على تطويع اللغة الأدبية، وإعادة استعمال جميلها اللائق بمستوى قرائه؛ لتتموضع هذه اللغة بين السخرية والجدية، متمكنة من التماهي بكتابة تأتي طازجة سهلة الهضم كل مرة، فيجد فيها كل القراء ما يرضي ويشبع نهم حاجتهم ومعرفتهم بالواقع من حولهم دون إثارة لأي نوازع سياسية أو مناطقية أو طائفية أو جهوية أو غيرها.

بين كُتاب العمود الصحافي كان حسن متميزا بقدرته على تجديد أفكاره، والتعامل معها بخفة على الرغم من وزنها الثقيل، لكنه كان معها قادرا على اختزال رؤيته، وفي الوقت ذاته، ترصيعها بفصوص اللغة وبسطها من خلال أسلوب له من السخرية ما يميزه ويعينه على إطلاق العنان لمقاله، ليقول الكثير بكل أريحية تُبهج القارئ. بموازاة ذلك كان حسن عبد الوارث شاعرا؛ وله مع القصيدة بصمة لا تختلف عن تلك البصمة التي ميزت مقالاته، وهذا ليس بغريب؛ فالكاتب أينما حل في الأجناس الكتابية تعلن بصمته عن نفسها؛ وإن كان المقال أخذ من موهبته الشعرية الكثير، لكن القصيدة لم تأخذ من تجربته السردية المقالية ما يعينها على مسيرتها معه؛ وذلك لأنه على ما يبدو كان شاعرا قبل التحاقه بالصحافة.

رحل حسن وهو في قمة اعتداده بذاته، على الرغم من الحرب التي خذلته معها كل أشكال السلطات والصداقات؛ لكنه لم يأبه لذلك، ولم يكتب عنها أيضا؛ فقد كان أكبر من أن يعتب أو يندب، بل ظل ملتزما مساره الإنساني، ومنهجه الجمالي، ودربه الأخلاقي، في علاقته بالمقال والحال، وأولئك الكبار في المعنى والمبنى هم مَن نخسرهم حقا!

المصدر:”القدس العربي”

Share

التصنيفات: ثقافــة,عاجل

Share