يوسف فارس – غزة
في ذلك الصباح، شقّ صوت أحد البسطاء الهدوء الاستثنائي في مخيم جباليا وهو يهتف: “يا أهل جباليا: اليمنيون ضربوا تل أبيب، الله أكبر، خلّي نتنياهو يعرف إنو الله موجود”. أما جارنا، فدقّ الباب مسرعاً ليزفّ البشارة، ولو لم يكن أبو فادي تجاوز الستين من العمر، لاعتقدت أنه جاء يخبرنا بأنه تفاجأ لتوّه بإنجاب زوجته مولوداً ذكراً على رغم أن كل الصور الطبية كانت تؤكد أن الجنين أنثى.. “عملوها الأبطال.. ضربوا تل أبيب يا يوسف”، قال الرجل وقد أضاءت عيناه من فرط البريق.
على الرغم من أن الخذلان والتآمر، عربياً وإسلامياً، هما أمر لم نكن نتوقع سواه، لكن طعمه كريه، مرٌّ وحامض. وحين ظهر اليمنيون في هذه الحرب، كانوا أجمل هدايا القدر، ليس لأنهم عملة نادرة في زمن الانحطاط العربي فقط، بل لأن أكثر الغزّيين لا يعرفونهم، أو بالأحرى ضُللوا في التعرّف إليهم. الفارق في حكايتنا مع “أنصار الله” هو صدمة المفاجأة، هم خرجوا دفعة واحدة من حيّز التشويه والشيطنة، إلى أعلى مراتب البطولة والسموّ والشرف، وهم الذين كانوا دخلوا مساحة الوعي الجمعي في عام 2014، يوم تصدّر “أنصار الله” نشرات الأخبار حينما فرضوا سيطرتهم على صنعاء. حينئذ، التقى الخصوم السياسيون في كل بلاد العرب والغرب، على دعم ما عُرف حينها بـ”عاصفة الحزم”، وغرق بعض الغزّيين في السردية المشوهة ذاتها.
أتدري ما الذي يعنيه أن تشرح الحقيقة للبسطاء؟ يعني أن تقف وحدك، بشخصك فقط، في مواجهة كل القنوات التلفزيونية والصحف العربية والأجنبية، ومن خلفها جيش من الكتاب والمحللين وأصحاب الرأي، وأيضاً الإذاعات المحلية، التي تنقل الخبر اليمني أسوة بكل الأخبار الدولية، عن القنوات العالمية والإقليمية، من دون تمحيص ولا محاولة لإبداء الرأي. لقد ظُلم اليمنيون كثيراً، ولم تغيّر مشاهد التظاهرات المليونية المتضامنة مع فلسطين، في كل مناسبة في الماضي، صورتَهم المشوَّهة. ظلّوا حتى قبل طوفان الأقصى في الذهن الجمعي: “الحوثيين الذين يقصفون الكعبة.. يستهدفون مكة المكرمة بالصواريخ البالستية”.
وفق حجم كل ذلك التنميط وذاك الافتراء كانت مفاجأة الغزيّين بهم. والآن، دعونا نُعِد صياغة حضورهم في الوعي الشعبي بعد عشرة شهور من الحرب: شعب فقير عزيز، ينطلق في نصرتنا بلا حسابات وسقوف، تفصله عن فلسطين ألفا كيلومتر، لكنه يشعر بالواجب، بينما يشارك عرب في حماية ظهر “إسرائيل” وسمائها، ويكسرون الحصار اليمني البحري عنها عبر الجسور البرية.
في قلب هذه المفارقة، حصل اليمنيّون على تعويضهم المعنوي، وحصلوا على اعتذار الشارع عن أعوام التشويه والتعمية. “يشبهنا اليمنيّون كثيراً”، يقول الحاج أبو معين لـلميادين نت، ويُسهب موضحاً: “هم أذكياء جداً ومحترفون في الحرب، شجعان ويقدمون المبدأ على المصلحة، ونصرة المظلوم على السلامة. هؤلاء هم العرب، الذي نعتز بالانتساب إليهم”. يتابع الرجل الذي تجاوز السبعين من العمر، والذي كان قد التقى بعض اليمنيين في الحج: “قلوبهم رقيقة، كانوا يخبروننا بأنهم ينتظرون اليوم الذي سيُسمح لهم بالمشاركة في معركة تحرير المسجد الأقصى. كنا نظنه كلاماً عاطفياً صادقاً فحسب، قبل أن يتضح صدق عزمهم”.
أما الدكتور رزق أبو علاء، فقال، في معرض حديثه إلى الميادين نت، إنّ هذه الحرب هي الكاشفة التي لم تُبقِ ستراً يغطّي أحداً: “العميل والمرتزق والخائن فجّروا في إظهار عمالتهم. حرب غزة اختبرت الجميع في شعاراتهم ومبادئهم وقيمهم، وحصّل اليمنيون العلامة الكاملة بلا منازع. لقد قُصفوا من أجلنا، وحوصروا كما حوصرنا، وقُتلوا بالسلاح ذاته الذي به قُتلنا. إنّهم منّا”.
المصدر:” الميادين”