قبل إبرام صفقة وفاء الأحرار التي تُعتبر أكبر عملية تبادل للأسرى بين المقاومةِ والاحتلالِ عام ٢٠١١، طلبَ الاحتلالُ من رئيسِ المخابراتِ المصرية، والذي كان وسيطاً آنذاك، عمرو سليمان أن يتأكد بنفسه من أنّ جُنديّها “جلعاد شاليط” ما زال حيًّا!
وبالفعل تواصل عمرو سليمان مع قيادة المقاومة في غزّة وأخبرهم بشرط الاحتلال للمضيّ قُدُماً في الصّفقة!
لم تُبدِ قيادة المقاومة أية تحفّظات على هذا الشرط، وبالفعل حضرَ عمرو سليمان إلى معبر رفح، وطُلبَ منه التخلي عن أي جوّال أو وسيلة اتصال، ثم أركبوه في سيارة، ثم في سيارة ثانية، ثم في ثالثة، وهكذا حتى تنقل في ٢٥ سيّارة دون أن يدخل أي مكانٍ في غزّة، وكانت السيارة رقم ٢٥ هي التي أعادته إلى معبر رفح!
اتصل بعدها عمرو سليمان بوسطاء الاحتلال وأخبرهم أن “شاليط” بخير وصحة جيدة!بالطبع كان الاحتلال يُراقب المشهد كله من الجو، فقالوا له باستغراب : كيف عرفتَ أنه بخير وقد قضيتَ الوقت تنزل من سيارة وتصعد في سيّارة؟!
فقال لهم : “شاليط” كان في السيارة رقم ٧!
وتمت بعدها الصفقة، وخرج بموجبها ١٠٢٧ أسيراً فلسطينيا من بينهم الرّجل الذي يتحكّم بمصائر أسرى العدوّ الآن!
هذا موقف واحد من مواقف دهاء المقاومة، وما خفي أعظم!
ودعونا مما خفيَ، وتعالوا نذهبُ إلى ما بدا!
السابع من أكتوبر لم يكن مجرّد معركةٍ عابرة، لا في تاريخ كتائب القسّام ولا في تاريخ جيش الاحتلال! بالنسبة لكتائب القسّام هذا يومٌ من أيّام الله، أبادوا فيه فرقة غزّة بكل كتائبها في غضون ساعتين، وأسروا منها العدد الأكبر في تاريخ حروب الاحتلال، في معركة سيكتبها التّاريخ بأحرفٍ من نور! أما بالنسبة لجيش الاحتلال فلم يتم إذلاله من قبل بهذه الطريقة، لا الجنود في مواقعهم عرفوا هذا البأس من قبل، ولا زملاؤهم في الجيش اعتادوا أن يروا جيشهم يُهان بهذه الطريقة! المقاومة لم تكشف مدى هشاشة جيش الاحتلال الذي بدا ضعيفاً دون غطاء نيران الطيران الحربي، وإنما أحدثت شرخاً في روح هذا الجيش، وهذا هو انتصارها الأكبر في المعركة!
بعدما استوعب جيش الاحتلال شيئاً من الصّدمة، أعمل آلة القتل في المدنيين، وقصف المدارس، والمساجد، والجامعات، والمستشفيات، والكنائس، في جولة إجراميّة ارتقى فيها ١٥ ألف شهيد!
في هذه الأثناء كانت المقاومة تُهين دبابات الاحتلال بقذائف الياسين ١٠٥، وتحرق عربات النمر المصفحة بالكورنيت، ويُلصق مجاهدوها عبوات العمل الفدائي وشواظ على أبواب الدبابات، ولولا أنّ المقاومة كانت تُوثّق هذه المشاهد للنّاس ما صدّقها أحد! إنه شيءٌ يُشبه المعجزات! وكما ربحت المقاومة معركة الهجوم، ربحت كذلك معركة الدّفاع! فسارع الاحتلال للقبول بالهدنة، والهدنة وقّعها الميدان، وفرضتها القذائف، وانتزعها مجاهدو الكتائب بأيديهم دون فضلٍ لأحدٍ إلا الله، وإلا فإنَّ الاحتلال لا يسمع أصوات المناشدات والاستجداءات، الصوت الوحيد الذي يسمعه هو صوت الرّصاص!
ثم جاءت عمليّة التبادل التي خاضت فيها كتائب القسّام معركة إعلاميّة مذهلة، كسبتها بجدارة، ونالت فيها احترام العالم في السّلم، كما نالت احترامه وتقديره في الميدان!
ثم عاد العدوان، وسرعان ما سيتوقف بإذن الله، فلو كان الاحتلال قادراً على كسر المقاومة لما توقف للهدنة أساساً، ولكن نتنياهو يجرُّ معه الكيان كلّه في دفاع عن شخصه، ولتحسين شروط الصفقة الشاملة التي اشترطت فيها المقاومة رفع الحصار كاملاً! وهذا هو هدفها الأساسيُّ من هجومها المُظفّر! ساذج من يعتقد أن الهدف الأساسي للحرب كان تحرير الأسرى فقط، هذا أحد أهدافها الهامشيّة، لأن المقاومة بالأساس كان لديها من الأسرى قبل الحرب ما يسمح بإفراغ سجون الاحتلال من أسرانا!
قلتُ في أوج الحرب: مضى الوقتُ الذي كان بالإمكان أن تُكسر فيه المقاومة، وإنّها عصيّة ومنيعة، ولقد أثبتت الأيام هذا!
ربحت المقاومة كلّ شيءٍ، الميدان والإعلام والرأي العام العالمي، وخسر الاحتلال كلَّ شيءٍ، وما رأيناه ما هو إلا بروفة مصغّرة ليوم التحرير الكبير، وهذه المرّة ليس من جهةٍ واحدة، وإنّه لآتٍ !
- كاتب مصري