Visit Us On TwitterVisit Us On FacebookCheck Our Feed

اليوم العالمي لمحبي الكتب

إبراهيم عبدالمجيد*

هناك أيام كثيرة لظواهر كثيرة ليس لمثلي القدرة على معرفتها أو الاهتمام بها كلها. كثير منها تبدو الحياة مناهضة له لكنه يظل أملا. يحتفل الكثيرون في هذه الأيام من باب المحبة والأمل والتذكرة، بما هو غائب إلى حد كبير أو حتى قليل.
أخذ انتباهي إلى هذا اليوم الموافق التاسع من أغسطس/آب ولم أكن أعرف عنه، أو ربما كنت أعرف ونسيت، الشاعر السعودي هاشم الجحدلي في صفحته على تويتر. هاشم الجحدلي بالنسبة لي، غير الصداقة القديمة التي تجمعنا، وقيمته الرائعة كشاعر، من أكثر من يحتفي بالكتب على صفحته، فهي عامرة بمقتطفات من أقوال كتاب وفلاسفة، فضلا عن صور كثيرة لهم، وأحيانا له معهم، وصور لعشرات من الكتب المهمة في تاريخ البشرية القديم والمعاصر ومحبته لها. يقول هاشم بهذه المناسبة عن الكتب:
«أهم ما قدمته الكتب لي في طفولتي ومراهقتي من فضائل دون ادعاءات:
حصنت طفولتي ومراهقتي من تنمر الآخرين – القدرة الهائلة على الحلم المؤسس- صنعت هوية مبكرة لي. قربتني من فضاءات ووجوه فاتنة لم يكن باستطاعتي لولا الكتب الاقتراب منها ـ عرفتني على ثقافات الآخرين وعززت روح التسامح لديّ ـ رفعت من قيمة الحب في تعاملاتي اليومية ـ عقلنت غروري ـ جعلتني سعيدا» وغير ذلك. أعاد لي ما كتبه طريقي في الحياة، وكيف حصنته الكتب من الطموحات الكاذبة، وكيف كان الرجوع إليها بعد رحلة الخروج كل يوم إلى العالم هو الحصن المنيع من الآلام، ومما رأيت من بشر وأفعال. أتذكر كثيرا من الكتب كنت بعد أن أقرأها أضعها جواري وأنا نائم على سريري لأسابيع طويلة، من بينها في ما أذكر كتاب مثل «داغستان بلدي» لرسول حمزاتوف، وكتاب مثل «المواقف والمخاطبات» للنفري، وآخرها كتاب «رائحة الفراغ « للمهندس والمصور البارع عادل واسيلي، الذي صور فيه شوارع القاهرة الخالية أثناء جائحة كورونا، والذي عوضني بالنظر فيه كل ليلة، عن عدم القدرة على النزول إلى الشوارع كما كنت أفعل دائما، حتى قللت منها الظروف الصحية.

من أهم ما كتبه هاشم الجحدلي أن الكتب صنعت هوية مبكرة له، وبالطبع لي، ولكثيرين ممن تفرغوا للقراءة أو ساعدتهم الظروف على ذلك، كنت من بينهم، فاخترت من سن مبكرة جدا في المدرسة الابتدائية أن أقرأ. لم يكن الاختيار في البداية بعقلي، لكنها المدرسة كانت توفر لنا حصتين مرة في كل أسبوع، ندخل فيها إلى مكتبة المدرسة نقرأ، منها اتسع الشغف حتى إنني الولد الذي كان يجيد ألعاب كرة القدم وكرة السلة والكرة الطائرة، لم أمشِ مع واحدة منها كما مشيت مع الكتب، رغم أني تلقيت اقتراحات ممن هم أكبر مني حين صرت في سن أكبر قليلا، بالانضمام لنوادي شهيرة في الإسكندرية في فريق الشباب، بصفة خاصة في كرة القدم. كنت أندهش من العروض بابتسامة، وأعود كل مساء إلى الكتب التي صرت أستعيرها من مكتبات عامة، مثل مكتبة المدرسة أو مكتبة البلدية في الإسكندرية، أو مكتبة قصر ثقافة الحرية، حتى صرت قادرا على شراء الكثير منها، وكانت أسعار ذلك الزمان بسيطة جدا يمكن تدبيرها. كانت الكتب تصنع هويتي ككاتب واستغنيت بها عن العالم حولي.

من أهم ما كتبه هاشم الجحدلي أن الكتب صنعت هوية مبكرة له، وبالطبع لي، ولكثيرين ممن تفرغوا للقراءة أو ساعدتهم الظروف على ذلك، كنت من بينهم، فاخترت من سن مبكرة جدا في المدرسة الابتدائية أن أقرأ.

لكن هذا لا يمنعي في هذا اليوم من أن أنظر حولي وأندهش من أن دور النشر مثلا ، لا تحتفل بهذا اليوم وتعلن عن تخفيضات في أسعار الكتب، خاصة وقد ارتفعت أسعارها في مصر إلى درجة كبيرة بسبب مأزق البلد الاقتصادي، الذي لا يبدو أن هناك حلا له إلا بقطع الكهرباء والمياه عن الناس كل يوم. حلول عبثية لأزمة تسبب فيها النظام الحاكم الذي لا يعترف بأخطائه وخطاياه. المهم أعود إلى الكتب التي جعلت العالم حولي أجمل، وما أراه من صعوبات يمر، لأن القراءة وحبها أعطياني القدرة على الاستغناء، فلم أحارب من أجل منصب أتولاه في عملي، بل العكس، كل ما توليته من مناصب تركته بعد ثلاث أو أربع سنوات، وكان ذلك ثلاث مرات عبر سنين العمل. وفي كل منصب توليته كان جهدي أن يكون العمل جيدا مفيدا للجميع، وحين أرى مؤامرات حولي أو غضبا من البعض لأني لا أستطيع أن ألبي مطالبهم، أترك العمل ولا ألوم أحدا. كانت الدنيا مفتوحة للاقتراب من السلطة بما يأتي به هذا من عائدات مالية، لكني كنت ابتعد ليس بتفكير لكن بالطبيعة. الطبيعة الروحية التي جعلتها الكتب تستغني عن العالم وتستمتع بالفكر والخيال. الطبيعة التي تكونت مع القراءة، وصادفت موهبتي في الكتابة، كما تصادف الألعاب الرياضية في المدارس من سيكونون يوما ضباطا في البوليس أو الجيش، وكما تصادف الكتب العلمية من سيكونون يوما علماء في الطبيعة أو أطباء أو غيره. أجل.. كلنا مولودون ومحملون بكل المواهب، لكن الحياة من حولنا تعطي موهبة فرصة أكثر من غيرها، حتى الإجرام يمكن أن تبعث الحياة ظهوره في الشخصية الإنسانية.

القراءة الآن حولها عالم السوشيال ميديا، فبرامج التوكتوك والفيديوهات التي يقدمها الكثيرون، صارت الأكثر إغراء لدى الشباب، بل والأطفال. لم يعد لملمس الكتاب عذوبته القديمة، فالأسهل هو أن تستمع إلى برامج وترى فيديوهات، فارتبطت المعلومات بالرؤية. أفاد ذلك الكثيرين، وبعيدا عن المثقفين، فقد أفاد من ليس لديهم عادة القراءة من الناس العاديين، فكثيرا ما دخلت في حديث مع سائق تاكسي مثلا، فأجده على معرفة طيبة بما حوله. أسأله كيف عرف كل ذلك، فيقول لي أنه يتابع فيديوهات فلان أو فلان، بل ظهرت صفحات فكرية وفنية على السوشيال ميديا صارت الأسهل لنا، نحن المثقفين، في المعرفة والمتابعة، كثير منها رائع مثل صفحة «ميريت» التي يشرف عليها الشاعر سمير درويش، أو صفحة «نقد 21» التي يشرف عليها الكاتب محمود الغيطاني، أو صفحة «مكتبة وهبان» التي يشرف عليها الكاتب إسلام وهبان، أو صفحات المجلات والصحف الثقافية مثل «المصري اليوم» و»أخبار الأدب» و»القاهرة» وملحق جريدة «الأهرام» الثقافي وغيرها التي تحتفي بالكتب الجديدة، أو صفحة «أوبرا مصر» التي يشرف عليها الناشر الجميلي أحمد ومعه الشاعرة والكاتبة منال رضوان، والصفحات المهمة كثيرة لن أستطيع ذكرها كلها. ساهمت هذه الصفحات وغيرها في الإقبال الكبير على الكتب نفسها على غير ما هو متوقع . وعلي عكس ما يتصور الكثيرون لم تقلل هذه الصفحات وغيرها من الإقبال على الكتب والاكتفاء بها، فرغم غلاء الأسعار شهد معرض كتاب القاهرة الدولي السنوي في يناير/كانون الثاني الماضي إقبالا كبيرا جدا رغم بعد المكان. المشكلة في الفهم المتعجل لمعنى الاستفادة الرقمية التي جعلت وزارة التربية والتعليم توزع «التابلت» على الطلاب فتقريبا أغلقت مكتبات المدارس، بل المدارس نفسها، وصارت الدراسة عن بعد، دون أن يدرك أحد أن التابلت أو اللاب توب عالم مفتوح بالإغراءات على ما هو، علميا أو أخلاقيا، ليس مناسبا للعمر الصغير. لقد كانت دهشتي كبيرة حين عشت في القاهرة بين الكتّاب ووجدت أن حياتهم في الأغلب معاكسة تماما لكتاباتهم التي يريدون بها تغيير العالم، فأدركت مبكرا ضرورة الفصل بين حياة الكاتب وكتاباته، ولم أعد أهتم بما يقال سلبا عن سلوك أيّ منهم، فعلاقتي به هي ما أنجزه من أعمال أدبية أو فكرية، لكن بعيدا عنا نحن أبناء المهنة، فالقارئ البعيد لا يعرف ذلك، ويكون الكتاب بابا رائعا لصنع الهوية أو الاستغناء، فضلا عن المتعة التي لا تحتاج أن أتحدث عنها.
كنت أتمنى أن يكون هذا اليوم احتفالا في المدارس، كما كان يحدث في وقت مضى وصار سرابا، حين كانت المدارس تحتفل بعيد العلم كلها في يوم واحد.

روائي مصري

Share

التصنيفات: ثقافــة,عاجل

Share