عن قضية الحوالات المنسيّة في اليمن يمكن القول بأننا أمام ملهاة اختفت فيها أرزاق طيبين ببركات مرسلين مترهلين ووسطاء طماعين ومجانين عاقلين.
* توضيحًا للواضحات الفاضحات، فالمرسل هنا إما “سبَهلَل” مترهِّل، أو حاذق عنده نوايا شريرة في استعادة المبلغ لو لم يستلمه صاحبه لأي سبب من الأسباب.. والدليل على العبط الحارق أو الذكاء الخارق للمرسل أنه لا يبلغ المستفيد من التحويل بأنه أرسل له كثيرًا أو حتى قليلاً من المال بواسطة شركة صرافة لها اسم ولها جسم وإعلانات “نحن أقرب إلى جيبك من يديك”.
* والمستفيد من التحويل هو أيضا “سَبَهلَلْ”، وربما عذره الوحيد أنه فقد الأمل في أن الدنيا لا تزال بخير، وأن الحياة لن تخلو من مكافأة مستحقة، أو صحيان ضمير مديون، أو هدية من كريم، أو مساعدة من جمعية أو منظمة.. أما الطرف الثالث فهو حضور القول الخطير: من أمِن العقوبة أساء الأدب واستغل العيون النائمة للقانون.
* وبلغة الأمانة التي رفضت الجبال أن تحملها وحملها الإنسان الظلوم الجهول، لا يجوز أن تنظر شركة صرافة إلى الحوالات بأنها لقيطة يتم الفرجة عليها لزمن ثم ابتلاعها أو المتاجرة والمضاربة بها في سوق العملة، رغم أن لها صاحبًا معلوم الهوية ومعلوم الهاتف، ولكن لم يبلغه أحد.
ودائمًا.. لا يجوز أن تكون الحوالات هي المبالغ “السايبة” التي تعلّم الصراف شطارة فوق شطارته، وبرمات فوق برماته في بلد إحدى نكاته أن يمنيًّا حاذقًا سمع من يقول له عقب الصلاة خارج البلاد “حَرَمًا يا حاج” فأجاب بسرعة: “بَرَمًا”..
وتصوروا..
* أرقام مهولة بالعملة السهلة والعملات الصعبة تتسرب من أصابع مرسلين ومستقبلين افتراضيين لم تجد من يعيدها إلى أصحابها إلا بصدفة التسريب.. والعاقل الوحيد الذي حذَّر منذ أعوام، هو المجنون الذي ظهر في قناة اللحظة، وقال لمذيع برنامج “خذوا الحكمة”: افرض مثلاً، مثلاً يعني أنَّني أرسلت لك 35 ألف دولار، وعقب مغادرتي محل الصرافة خبطتني سيارة وطلعت روحي إلى السماء، وخبطتها طيارة، كيف ستستلم المبلغ إذا لم يصلك بلاغ من الصراف..؟ فَبُهِت المذيع، واندهش زميلنا عابد المهذري في مكتبه داخل القناة.
* ومع نسيان شركات صرافة كل تلك الحوالات أرى أن تكرار نسيان حوالات ناس وتَحَوُّلها إلى ظاهرة داخل شركات صرافة لزمن طويل، ليس خطأ بشريًّا طبيعيًّا، وإنما عملاً ممنهجًا من قِبل شركات صرافة بعدد ليمون سوق الجمعة.
ويا حرام..
* موظف يتعب حتى يشوف أمه حريوه، ويرى أباه عريسًا للغفلة، يرسل له أمين الصندوق بعضًا من حقوقه الضائعة في زمن الاحتراب والاستلاب، لكنه لا يبلغه كمستفيد.. وشركة صرافة تستلم الفلوس وتخصم عمولتها، لكنها لا تعمل رسالة للمستفيد لتصل الحكاية إلى ما صار إليه الحال.. وما أكثر المضحكات والمبكيات في بلد “حكمة فيه.. إيمان ما فيه”، أو كما قال الباكستاني الذي انسرق صندله في المسجد.
* يحكي لي زميلنا في أحسن فريق “ع..م” أنه حصل على ثلاثمائة ألف ريال كمبلغ جرى نسيانه في شركة صرافة.
وقال بأنه مرَّ بظروف مالية صعبة، وكان من شأن استلامه للمبلغ في حينه أن يفك ضائقة ويرسم بسمة ويرفع حرجًا، ولكن.. هيهات ومحلات صرافة لم تجد من يسألها.. هل عندكم أموال معلقة فوق حبل الغسيل..؟ سارعوا بدفعها للمستفيدين ماذا وإلا فالقانون كفيل بحماية المساكين الغافلين.. وفي موضوع الغسيل أرجو أن لا يسير حسكم بعيدًا، فالذي أقصده هنا ليس غسيل الأموال، وإنما حبل غسيل الملابس.
* بالمناسبة.. فيما تَنبَّه مواطنون لتسريب الكشوفات المنسية بأن لهم أموالاً أخذوا يبحثون عنها في الكشوفات والتطبيقات قام خايب الرجاء كاتب هذه السطور بِتذكُّر أنه ومنذ شهور وضع في مغسلة بشارع المطار بنطلون جينز وثوبًا رماديًّا.. وبالفعل وجدت الملابس المنسية في المغسلة، ولم أشعر برغبة في معاتبة صاحب المغسلة، لأن أصحاب المغاسل لا يكتبون أرقام زبائنهم، ولذلك كتب الله لهم أجر الاحتفاظ بما ننساه عندهم من سراويل وبنطلونات ومعاوز الاستخدام النظيف.
* استردادي للملابس المنسية فتح شهيتي للتفكير باحتمال أن يكون لي مبالغ مالية منسية.. قلت لابني سامي:
شوف يا سامي إذا كان معي حوالات منسية..
قال لي بثقة: قد شُفت.. مابش..!
قلت: يا سارة جرِّبي أنتِ.. صورة سامي مستعجل..
يمكن نطلع بمبلغ من جيز الناس..
وفجأة.. علَّقت الصغيرة ملاك قائلة: يا بابه شكلكم حاذقين ولا نسيتوا حوالة..
ضحكت، وتمنيت لو أنني تمتعت بما تيسّر من الهبالة الكافية، كنت خرجت من مسلسل الحوالات المنسية برزق مكتوب، وهو ما لم يحدث..!
* وأما وقد وقعت الطوبة في المعطوبة وبدأ الزحام على استرداد المنسيات، وصرحت شركات صرافة بأن المستفيد هو الكسلان وهو الغلطان كما جاء في رسم كاريكاتير نشرته شركة صرافة سخرت فيه من غباء شخص أسماه الكاريكاتور (حمود) فيما كل خطأ حمود أنه أصيب باليأس من استلام مستحقات طارئة بعد أن يئس من استلام معاشات سنين وأنين.. والنتيجة أنَّه لم يتابع أي مستحقات، لأنه اعتاد إذا صُرِف له شيء بعد شهور تكون العنكبوت قد بنت لها بيتًا في ذاكرته المرهقة.
* والآن.. وبعد الذي كان ويكون من معالجات اكتشفت إحدى المستفيدات خطأ قبيحًا، فقد كتبت الحرف الأخير من اسمها الأول بالتاء المربوطة فلم يصلها بلاغ بمبلغ مرسل إليها وعندما غيرت التاء المربوطة بالهاء ظهر المبلغ المنسي مع أنها كتبت اسمها الرباعي.. بالذمة هذا كلام.. أو هذا تطبيق وبرمجة تهدف لتسليم حق..!
هل كتابة اسم غاده وليس غادة مثلاً يمنعها من استلام حق رغم وجود الاسم كاملاً في التطبيق..؟
وأما وقد حان وقت وضع السؤال عن الدرس المستفاد، فإن من أبجديات تأكيد أننا ما نزال أحياء ونتنفس هو المسارعة لوضع كل شركة صرافة أهملت أو غالطت تحت طائلة المساءلة، وتكليف مفتشي البنك المركزي بالنزول، ومواصلة صرف الحوالات المنسية وإعلان تعليمات نافذة تمنع تكرار هذه الملهاة نهائيًّا.
- صحيفة اليمني الأميركي