«رنت أجراس الإبل في الصحراء، حاملة الحرير الأبيض الناصع إلى شيان» الشاعر الصينيّ يترنّم بطريق الحرير القديم، فهو عنده يشابه اللحن الطويل الذي حلق في وديان التاريخ واجتاز سلسلة من الجبال الشاهقة الشاسعة والأنهار العريضة والصحراء المترامية الأطراف، وبفضله ارتبطت الحضارة الصينية بالحضارة العربية والهندية، بل حتى الأوربية. وبفضله أيضًا نُقلت منذ أسرة هان المنتجاتُ الصينية بما فيها الحرير والخزف والفخار والشاي والنفائس الأخرى إلى جانب الثقافة الصينية التقليدية نحو مناطق آسيا الوسطى وغرب آسيا وإفريقيا حتى أوربا. وعلى الرغم من قِدَمِ هذا الطريق الضارب في أعماق التاريخ، وكثرة القصص والأحداث التي مرت عبره، فإنّ تسميته بـ«طريق الحرير» المعروفة اليوم جاءت متأخرة؛ إذ أطلقها الجغرافي الألماني ريشتهوفن عام ١٨٧٧م ابتداءً على طريق النقل المستخدم قديمًا بصورة رئيسة لتجارة الحرير انطلاقًا من مدينة شيان الصينية نحو المناطق التي تقع جهة الغرب من الصين ثمّ باتجاه آسيا الوسطى والهند. هكذا كانت التسمية أوّل الأمر، ثم جرى التوسّع باستخدام هذا الاسم لاحقًا ليشمل مناطق العالم العربي أيضًا.
لقد مرّ طريق الحرير منذ أيامه الأولى قبل قرون من الزمن حتى يومنا هذا بمراحل ازدهار وانقطاع، وذلك بحسب الحقبة التاريخية وظروف الصين من جهة أو ظروف البلدان الواقعة على مساره من جهة أخرى، لكنّ الصين المعاصرة أخذت تهتمّ بإحيائه بصورة متنامية منذ سنوات كثيرة، حتى جرى إعلان الرئيس الصيني شي جين بينغ عن مبادرة الحزام والطريق عام 2013م، لتعبر عن الشغف الصيني المعاصر بإحياء طريق الحرير.
إن مبادرة الحزام والطريق تبتغي رفع راية السلام والتنمية لتطوير علاقة شراكة وتعاون اقتصادي مع الدول المطلة على طريق الحرير. فالدول العربية تقع في مناطق اللقاء بين الحزام والطريق؛ ولهذا تعد شريكًا طبيعيًّا للتعاون الطبيعي لتحقيق هذه المبادرة بجهد مشترك. ومن المعروف أن جذور الصداقة الصينية العربية ضاربة في أعماق التاريخ وتتناقلها الأجيال المتعاقبة حتى العصر الحاضر على الرغم من البعد الجغرافي الذي يفصل بينهما.
حدث لا مثيل له في تاريخ الإبهار
لا يزال التاريخ يحدّثنا حتى الآن عن الصفحة الأكثر إبهارًا ورونقًا في تاريخ التبادل بين الصين والدول العربية، نعني بها إبحار الرحالة الصينيّ العظيم تشينغ خو (١٣٧١- ١٤٣٣م) إلى المحيط الهندي. فقد كان هذا حدثًا عظيمًا لا مثيل له في تاريخ الإبحار قبل ذلك الوقت ومن هنا جاءت أهمية أخذه في الحسبان.
امتلك تشينغ خو بصفته الملاح والدبلوماسي الذي ذاع صيته في أسرة مينغ قدرةً عالية على قيادة الجيش وإجادة فنون الحرب وتكتيكاتها. فقد أبحر إلى المحيط الهندي سبع مرات في ٢٨ سنة، وتفيدنا الوثائق التاريخية أن تشينغ خو وصل بأسطوله إلى شبه الجزيرة العربية، وقيل: إنه حين عاد بعدها إلى الصين جاء بلوحة من مسجد في مكة المكرمة مما وثّق الاتصالات بين الصين والإسلام. علاوة على ذلك، فإن «خريطة ملاحة تشينغ خه»، التي رسمها تشينغ خو نفسُه في إبحاره واسترشد بها في أثناء رحلاته، تشير إلى مواقع الشواطئ لبعض الدول العربية وموانئها العاملة آنذاك، وهي لم تكن مصادرَ تاريخيةً لدراسة إبحار تشينغ خو إلى المحيط الهندي فقط، بل شاهدًا تاريخيًّا على التبادل الودِّي بين الصين والدول العربية. صحيح أنّ تشينغ خو مات ورحل جسده عن عالمنا، إلا أنّ رُوحه لم تفارقنا ولم تتوارَ في أدراج التاريخ، بل بقيت تكسر حواجز الزمان والمكان متألقةً في العصر الحاضر. وفي هذا السياق سندرك أن روح تشينغ خو ما زالت ثمينةً في العصر الحاضر من جوانب عدة؛ ويمكننا هنا أن نتعرّف ثلاثةً من أبرز معانيها:
روح التعاون والتضامن واقتحام الصعوبات بقوة موحدة: فالمتتبع لسيرة تشينغ خو يجد أنه ما كان منه إلا التمسك بروح التضامن لإنجاز رحلاته بصورة تامّة والتغلب على الكوارث الطبيعية والأمراض المعدية والبيئة الغريبة، فيمكنه البقاء في الأرض الغريبة سالمًا معافى.
روح حسن الجوار والتبادل السلمي: لم يُظهِر تشينغ خو وأسطوله شيئًا من التصرفات العدائية في أثناء رحلاتهم السبع، بل على العكس من ذلك، كان يضمر دائمًا نية طيبة ويساعد البلدان على تسوية الخلافات فيما بينها، وإذابة النزاعات، وتهدئة الأوضاع المتوترة؛ وهو ما جعل كثيرًا من الدول والأقاليم مقتنعة بأن الصينيين أهل للثقة وأن إمبراطور الصين تشو دي (الإمبراطور الثالث لأسرة مينغ) عندما عيَّن تشينغ خو لهذه المهمة فإن ذلك يدل على أنّ الصين دولة كبيرة موثوق بها.
روح التسامح والانفتاح
أضمر تشينغ خو روح التسامح والانفتاح والتوسع في معاملة الأمم الأخرى. وقد أمره الإمبراطور تشو دي بقوله: «لا تطغَ على الضعفاء، ولا تغتصب الأرامل، بل شاركهن في سعادة واطمئنان في العهد السلمي».
لم ينقطع الصينيون عن تناقل الثقافات الصينية العريقة المشرقة والتقاليد السامية وإيراثها للأجيال التي تليهم يومًا واحدًا على مر آلاف السنوات، وكذلك كانت مواقف الصين دائمًا تجاه العالم الخارجي، فقد كان تشينغ خو يحمل في داخله الحب والمودة التي تعلمها ضمن القيم الصينية المتوارثة، فأظهر صورة الصين بصدر واسع ومتسامح تجاه العالم، وسجَّل صفحة باهرة في سجلات التاريخ بفطنته ونجابته المتفوقة في معالجة الصراعات واحترام الاختلاف الثقافيّ والاجتماعيّ بين مختلف البلدان والأقطار المطلّة على طريق رحلاته، وهي ما نسميها اليوم بـ«طريق الحرير». هذا الأمر جعل من تشينخ خو باني ثقافة طريق الحرير والمحافظ عليها والناشر لها. فضلًا عن إسهامه من دون غيره -على نحو لا يمكن تجاهله- في تطوير الاتصالات بين الأمتين الصينية والعربية وتعميقها. أما في العصر الحاضر، فلا يتعذر علينا الإدراك أن كثيرًا من أمثال تشينغ خو المعاصرين يعملون اليوم نشيطين في المسرح الدولي ويقدِّمون إسهامًا لا يمكن التغافل عنه في التبادل الودي بين الصين والدول العربية، مصداقًا حقيقيًّا للمثل الصيني الذي يقول: «أكثر النوابغ تفوّقًا هم نوابغ العصر الحاضر».
جسر للتبادل الثقافي
يستطيع المهتمّون بسيرة تشينغ خو أو بثقافة روح طريق الحرير القديم أن ينظروا إلى الطلاب الصينيين والعرب المجتهدين في الوقت الحالي الذين يبذلون جهدًا مشتركًا في بناء جسر واسع للتبادل الثقافي. وقد قال نبي الإسلام محمد صلى الله عليه وسلم: «اطلبوا العلم ولو في الصين»؛ أما في العصر الحاضر فتشهد الصين والدول العربية تبادلًا للطلاب والمحاضرين وأنشطة مختلفة لمعاهد كونفوشيوس الصينية المنتشرة حاليًّا في دول عربية عدة. وانطلاقًا من ذلك، أقام الطلاب الصينيون والعرب صداقات حميمة، كما شعر الطلاب الصينيون بالغبطة وهم في ضيافة الطلبة العرب المتحمّسين لصداقتهم، بينما ينشرون هم في المقابل الثقافة الصينية في المجتمع العربي بما تتصف به من حرص على السلام وحسن الجوار.
يستطيع المهتمّون بسيرة تشينغ خو أو بثقافة روح طريق الحرير القديم أن ينظروا إلى هؤلاء المتطوعين المحبين؛ إنهم ينشرون الروح الإنسانية إلى الخارج، فهم يشبهون الرذاذ الذي يتسلل مع الرياح في الليالي ويروي النباتات والمزروعات بهدوء ورفق. كما تُوفِد حكومة الصين فرقًا طبيّةً إلى المغرب والسودان وغيرهما من الدول العربية تتضمن عددًا غير قليل من المتطوعين الذين يتميزون بروح نكران الذات والوفاء لمبادئ التعاون والتضامن واقتحام الصعوبات ويعملون بجد واجتهاد فيُظهرِون روحَ الصين الإنسانيةَ في إعانة الدول الأخرى. كما يستطيع المهتمون بسيرة تشينغ خو أو بثقافة روح طريق الحرير القديم أن ينظروا إلى رجال الأعمال الذين يتمسكون بالمبادئ المتمثلة في المنفعة المتبادلة والربح المشترك ومنح الأولوية للأخلاق في بناء مجتمع ذي مصالح مشتركة للجانبين الصيني والعربي.
وعلى غرار المثل الصيني الذي يقول: «إن الصدر الواسع دون غيره قادر على التسامح مع الآخرين، وإنّ الفؤاد الحليم دون غيره قادر على تحمل المسؤولية العظيمة». فإنّ رجال الأعمال الصينيين حين يقدمون مشروعاتهم في الخارج يوازنون بين السعي إلى المصلحة الشخصية ورعاية معيشة السكان المحليين، ويعملون وفق مبدأ التعاون والربح المشترك والمنفعة المتبادلة، فيطبقون مفاهيم قِيَم المصلحة والمسؤولية الصحيحة التي تقتدي بـالقول الصيني المعروف: «ساعد الآخرين إذا استقرت أحوالك، وأَغْنِهم إذا توافرت ثروتك»، وهي أيضًا المعاني للنظرة الصينية في المصلحة والمسؤولية.
إن أمثال تشينغ خو المعاصرين يلعبون جميعًا أدوارهم بحماسة في مسرح التبادل الصيني العربي، ويظهرون صورة الصين المتمثلة في أنها دولة كبيرة ذات صدر واسع ومقدمة على تحمل المسؤولية الدولية، وهذا ما أشار إليه الرئيس شي جين بينغ في الجلسة الافتتاحية للدورة الثامنة للاجتماع الوزاري لمنتدى التعاون العربي الصيني بقوله: «دعونا نذكي روح طريق الحرير ونتقدم خطوة خطوة إلى أهدافنا، ونبذل جهدًا دؤوبًا من أجل تحقيق النهضة الكبرى للأمتين الصينية والعربية، ونسعى بلا كلل ولا ملل إلى بناء مجتمع ذي مصالح متبادلة ومصير مشترك للجانبين الصيني والعربي». انتهى كلام الرئيس، أما نحن بصفتنا متعلمي اللغة العربية وناقلي الثقافة الصينية التقليدية السامية إلى العالم العربي فسنبادر إلى لعب دور «تشينغ خو معاصر» لـ«طريق حرير جديد» بحسب إشارة الرئيس.
- باحثة صينية