حذر باحثون من أن سلوكيات الوالدين غير المتوقعة التي يصعب التنبؤ بها، بالإضافة إلى البيئة المتغيرة التي تتسم بتبدُّل العادات والتعرُّض المتكرر للكوارث، تعطل التطور الأمثل للدوائر العاطفية في الدماغ لدى الأطفال، ما يزيد احتمالات تعرُّضهم للمرض العقلي وتعاطي المخدرات في المستقبل.
وحددت الدراسة التي أجراها باحثون في جامعة “كاليفورنيا إيرفين” أسس تكوين الدوائر العاطفية في الدماغ، بناءً على نتائج أبحاث أُجريت على حيوانات التجارب، وتأثير ذلك على النمو المعرفي لدى الأطفال وصحتهم العقلية.
وأظهرت الدراسة التي نشرتها دورية “ساينس” (Science) أن “المدخلات الحسية من البيئة لها تأثيرات مهمة على تطور الدوائر العاطفية في الدماغ في المرحلة المبكرة التي تلي الولادة، وهذه التأثيرات لا تقل أهميةً عن تأثير الصور والروائح والأصوات السلبية أو الإيجابية على المشاعر والأفعال في مرحلة البلوغ، ويؤدي حدوث اضطراب في الدوائر العاطفية في الدماغ إلى حدوث اضطرابات نفسية وأخرى قد تدفع مستقبلًا باتجاه تعاطي المخدرات”.
توضح تالي زد بارام -الأستاذ المتميز في أقسام التشريح وعلم الأعصاب وطب الأطفال والفسيولوجي في جامعة “كاليفورنيا إيرفين”، والمشرفة على الدراسة- أن “هذا المنظور يبدأ من تطبيق المبادئ الأساسية لكيفية إنشاء الدوائر الحسية والسمعية والبصرية والحركية ومدى صقلها”.
تقول “بارام” في تصريحات صحافية: طبقنا هذه المبادىء على الدوائر العاطفية التي تتحكم في السلوكيات المرتبطة بالمكافأة والتوتر والخوف، والأمر لا يتعلق فقط بكون هذه الإشارات الأبوية سلبيةً أو إيجابية، بل أيضًا بأنماط هذه السلوكيات وخاصةً إمكانية التنبؤ بها من عدمه، وهي مؤشرات ترتبط بنتائج سلبية لدى الطفل، مثل ضعف السيطرة العاطفية في وقت لاحق من الحياة، مما يزيد من احتمالية التعرُّض للمرض العقلي واضطراب ما بعد الصدمة وتعاطي المخدرات.
يتضمن تكوين دوائر الدماغ الحسية مرحلةً أوليةً من العمليات التي تحركها العوامل الوراثية والجزيئية، بما في ذلك هجرة الخلايا العصبية وإنشاء نقاط التشابك العصبي، ويتضمن السلوك البشري العاطفي والمعرفي المعقد العديد من القرارات والعمليات، ويتم تنفيذه أيضًا بواسطة دوائر الدماغ، وتشمل هذه الدوائر تفاعلات بعض مناطق المخ مثل قشرة الفص الجبهي (الذي تحدث فيه أعلى أشكال الفكر والعاطفة وإدراك الذات والبيئة الاجتماعية)، والحصين (الذي يؤدي دورًا مهمًّا في تكوين الذكريات)، والنواة تحت المهاد، والمناطق تحت قشرة بالمخ، وتتلقى هذه المناطق تدفقات عديدة من المعلومات التي تعزِّز نشاط الخلايا العصبية في دوائر الدماغ، ويتطلب نشاط هذه الدوائر نضوج مكوناتها وصقل التواصل بين بعضها وبعض.
تقول “بارام”: يمثل الوالدان البيئة الأولية التي تؤثر على مستويات نضج مخ الطفل في أولى مراحل حياته، التي تشهد تطور هذه الدوائر العاطفية، وأظهرت الدراسات التي أُجريت على الفئران أن سلوكيات الأمهات أثرت على الاتصال التشابكي في العقد الدماغية الرئيسية، ومن بينها تلك التي تُسهم في شعورهم بالإجهاد.
وتضيف: تشير الأبحاث الخاصة بالرضع والأطفال أن الأنماط غير المتوقعة من سلوكيات الأمهات ترتبط بعجز في التحكم في الانفعالات والسلوك في فترة لاحقة من الحياة، وتستمر هذه التأثيرات حتى بعد تصحيح متغيرات الحياة المبكرة الأخرى، مثل اهتمام الأم باحتياجات الرضيع، والحالة الاجتماعية والاقتصادية للأسرة، وأعراض اكتئاب الأم.
وتتابع: يُعد عدم انتظام موقع وتوقيت وجبات الطعام، والقيلولة، ووقت اللعب ظروفًا غير قابلة للتنبؤ، كما يُعتبر تغير البيئة -كما هو الحال بالنسبة لحالات اللاجئين- والتعرض للكوارث محنةً للصغار، ومن ثم تترك آثارها على نموهم العقلي.
تقول المشرفة على الدراسة: “إن أكثر الأعمار تأثرًا بالسلوكيات المفاجئة للوالدين تبدأ منذ الولادة وحتى بلوغ الطفل عامه الثاني، وسبق أن أُجريت دراسة على مجموعة من الأيتام في رومانيا تبنَّتهم عائلات بريطانية في فترة التسعينيات، وتبيَّن أن الأيتام الذين تعرضوا لظروف صعبة في الملاجئ قبل التبنِّي عانوا من تأثر نموهم العقلي والنفسي حتى في مرحلة الشباب رغم تغيُّر الظروف، مقارنةً بالأطفال الذين تم تبنِّيهم في مرحلة مبكرة جدًّا من حياتهم”.
من جهته، يؤكد الباحث الرئيسي في الدراسة، ماثيو بيرني، “ضرورة تثقيف الآباء والأمهات ومقدمي الرعاية وغيرهم فيما يتعلق بتأثير السلوكيات المفاجئة للوالدين على نضج أدمغة الأطفال والرضع”.
و يقول “بيرني” يمكن تخفيف تأثير المحنة التي تعرض لها الطفل في المرحلة المبكرة من حياته من خلال اتباع النُّهج الوقائية والحد من التدخلات السلوكية السلبية وتعزيز التدخلات السلوكية الإيجابية.