الوحدة نيوز/ نص الدرس التاسع من محاضرات السيد عبدالملك بدرالدين الحوثي، من دروس عهد مالك الأشتر 14-12-1443 هـ 13-07-2022:
أَعُـوْذُ بِاللهِ مِنْ الشَّيْطَان الرَّجِيْمِ
بِـسْـــمِ اللهِ الرَّحْـمَـنِ الرَّحِـيْـمِ
الحمدُ لله رَبِّ العالمين، وأَشهَـدُ أن لا إلهَ إلَّا اللهُ الملكُ الحقُّ المُبين، وأشهَدُ أنَّ سيدَنا مُحَمَّــداً عبدُهُ ورَسُــوْلُه خاتمُ النبيين.
اللّهم صَلِّ على مُحَمَّــدٍ وعلى آلِ مُحَمَّــد، وبارِكْ على مُحَمَّــدٍ وعلى آلِ مُحَمَّــد، كما صَلَّيْتَ وبارَكْتَ على إبراهيمَ وعلى آلِ إبراهيمَ إنك حميدٌ مجيدٌ، وارضَ اللهم برضاك عن أصحابه الأخيار المنتجبين، وعن سائر عبادك الصالحين والمجاهدين.
أيُّها الإخوة والأخوات
السَّـلَامُ عَلَيْكُمْ وَرَحْمَةُ اللهِ وَبَرَكَاتُهُ؛؛؛
كنا وصلنا في الدروس في عهد الإمام عليٍّ “عليه السلام” لمالكٍ الأشتر إلى معايير اختيار الكُتَّاب وما يتصل بذلك.
قال “عليه السلام”:
((ثُمَّ انْظُرْ فِي حَالِ كُتَّابِكَ، فَوَلِّ عَلَى أُمُورِكَ خَيْرَهُمْ، وَاخْصُصْ رَسَائِلَكَ الَّتِي تُدْخِلُ فِيهَا مَكَايِدَكَ وَأَسْرَارَكَ بِأَجْمَعِهِمْ لِوُجُوهِ صَالِحِ الْأَخْلَاقِ، مِمَّنْ لَا تُبْطِرُهُ الْكَرَامَةُ، فَيَجْتَرِئَ بِهَا عَلَيْكَ فِي خِلَافٍ لَكَ بِحَضْرَةِ مَلَأٍ، وَلَا تَقْصُرُ بِهِ الْغَفْلَةُ عَنْ إِيرَادِ مُكَاتَبَاتِ عُمِّالِكَ عَلَيْكَ، وَإِصْدَارِ جَوَابَاتِهَا عَلَى الصَّوَابِ عَنْكَ، فِيمَا يَأْخُذُ لَكَ وَيُعْطِي مِنْكَ)).
الكُتَّاب: هم الإداريون، والعاملون في المكاتب، وأمناء السر، والذين- عادةً- ما يكونون في أعمال في محيط العاملين الأساسيين، والمسؤولين الأساسيين.
دور هؤلاء هو دورٌ مهمٌ جداً؛ لأنهم يمثِّلون حلقة الوصل بين المسؤول وبين الناس، ولأن كثيراً من الترتيبات العملية، والتجهيزات العملية، والأمور الفنية، يُعتمد عليهم في إعدادها، في إنجازها، ولأنهم هم من يباشرون إنجاز المعاملات، وتحرير المعاملات أيضاً، فأعمالهم مهمةٌ جداً، وكثيرة، ودورهم أساسيٌ في إطار المسؤول (المعني).
ومن الملاحظ في واقعنا في البلدان العربية، أنَّ من أكثر ما يعاني منه الناس: مشكلة العاملين في المكاتب الحكومية، والمسؤولين في المكاتب الحكومية، الذين هم المعنيون المباشرون لترتيب المعاملات، وتنظيم المعاملات، وتحرير المعاملات، وهم قنوات وحلقات الوصل مع المسؤولين، وهم الذين يباشرون الكثير من الأمور والتفاصيل، فالخلل في هذا الجانب يمثِّل إشكاليةً كبيرةً في واقع العمل، فالبعض- مثلاً- قد يكون مهملاً، لا يستشعر المسؤولية، لا يبالي، فقد يكون في طريقته في العمل مستهتراً، يضيِّع الكثير من المعاملات، لا يهتم بإنجاز الكثير من المعاملات، ولا يمثِّل حلقة وصلٍ تساعد على إنجاز العمل، لا يصل بصوت الناس، أو بمعاملاتهم، أو بشكاواهم… أو ما شابه ذلك، إلى المعنيين، أو يؤخرها جداً؛ نتيجةً لإهماله وتقصيره.
كذلك عندما تعود المسألة إلى مسألة إنجاز معاملة ما بعد وصولها إلى المعني، وما بعد ما حدده في ذلك إنجاز المعاملة، فيما بعد ذلك تنفيذ التعليمات، التوجيهات، الأوامر التي صدرت، يأتي التأخير.
فمثلاً: من أبرز ما عُرِف عن المكاتب الحكومية في معظم البلدان العربية، هو: تأخير معاملات الناس إلى حدٍ كبير، وأحياناً تدخل بعض الأنظمة والروتين الإداري تدخل هي كعامل في التأخير، من عوامل التأخير، البعض لهم أنظمة وتعقيدات وروتين ممل ومطول، فيؤخرون إنجاز معاملات الناس إلى حدٍ كبير، فالمعاملة التي قد يكون من الممكن إنجازها في أسبوع، قد يؤخرونها لأشهر، والمعاملة التي يمكن إنجازها في شهر، قد يؤخرونها لسنوات… وهكذا يكون أداؤهم السيئ، وروتينهم الطويل الممل والمعقد، ولا مبالاتهم، وإهمالهم، سبباً لعرقلة الناس، لعرقلة معاملاتهم، لتأخيرهم في أمورهم، فيكون لذلك تأثير سيئ في واقع الناس في حياتهم، حتى أن البعض مثلاً قد يتجه اتجاهاً آخر في أموره العملية، ثم يسبب له ذلك إشكالات فيما بعد، يقولون عنه: [مخالف، لم يأخذ الترخيص، لم ينجز معاملته بشكلٍ رسمي، لم ولم…إلخ.].
فالآن مثلاً من المعروف أن كل المسؤوليات الحكومية، والجهات المعنية في الدولة، تعتمد على مكاتب، تعتمد على أمناء سر، تعتمد على إداريين، وعادةً ما تناط كثيرٌ من التفاصيل العملية، ومن المعاملات التي تتعلق بالناس في واقع حياتهم، في مختلف المجالات: المجالات الاقتصادية، المجالات الاستثمارية… مختلف المعاملات، فهناك دوائر وإدارات وجهات تعمل على إنجاز معاملات الناس، تمثل حلقة الوصل بين المسؤول وبين المجتمع، وتتعلق بها، وترتبط بها الكثير من التفاصيل لإنجازها.
صلاح المكاتب، وصلاح هذه المواقع الإدارية، التي تمثل حلقة الوصل بين المسؤول وبين المجتمع، وأداؤها الصحيح، وإنجازها على الوجه الصحيح لمعاملات الناس ولأمورهم، تمثل أهميةً كبيرةً جداً في حسن إدارة شؤون الناس، في إصلاح واقع الناس، في تفادي الكثير من الإشكاليات في واقع الناس؛ ولذلك ركَّز أمير المؤمنين عليٌّ “عليه السلام” على هذه المسألة، قدَّم بشأنها هذه التوجيهات المهمة جداً، قال “عليه السلام”:
((ثُمَّ انْظُرْ فِي حَالِ كُتَّابِكَ، فَوَلِّ عَلَى أُمُورِكَ))
أمورك أنت، ما يتصل بمسؤوليتك، ما له علاقةٌ بعملك بشكلٍ مباشر.
((فَوَلِّ عَلَى أُمُورِكَ خَيْرَهُمْ)): اختر المسؤول عليهم الذي يديرهم وفق معيار الخيرية.
((خَيْرَهُمْ)): الذي تعرف فيه التقوى، والإيمان، ومكارم الأخلاق، والاستشعار العالي للمسؤولية، والفهم الصحيح للعمل، وحسن الإدارة، وحسن الأداء… إلى غير ذلك مما يتناسب مع موقع المسؤولية، وفي مستوى حجم المسؤولية.
((وَاخْصُصْ رَسَائِلَكَ الَّتِي تُدْخِلُ فِيهَا مَكَايِدَكَ وَأَسْرَارَكَ بِأَجْمَعِهِمْ لِوُجُوهِ صَالِحِ الْأَخْلَاقِ))
ثم في هذا الإطار: في إطار العمل المباشر في محيطك، في إطار مسؤوليتك، لاحظ ما يتضمن معلومات حسَّاسة، أو تدبيراً، أو خطةً، أو خططاً فيها ما يتعلق بالتصدي للأعداء، فيها ما يتعلق بالاستعداد للتصدي للأعداء، فيها الأسرار العملية، التي لا ينبغي أن تصل إلى العدو؛ لأنه سيستغلها للإضرار بالبلد، للإضرار بالناس، أو للتأثير على العمل نفسه، يسبب خروجها وتسربها إلى خلل في العمل نفسه، وعادةً ما يكون هناك أسرار للعمل، أسرار تتعلق بالتدبير والخطط في مواجهة الأعداء، في التصدي للأعداء، في بناء القوة اللازمة، في إعداد الترتيبات العملية اللازمة للتصدي للأعداء، فمن المهم الحفاظ عليها من التسرب.
((بِأَجْمَعِهِمْ))، ولذلك المعني بهذا الجانب يتميز بماذا؟ بقوله: ((بِأَجْمَعِهِمْ لِوُجُوهِ صَالِحِ الْأَخْلَاقِ))، يكون من خيرهم، من أجمعهم لمكارم الأخلاق، وللمواصفات الإيجابية، يعني: يكون أكثرهم إيجابيةً وتناسباً مع هذه المهمة الحسَّاسة، بحيث تأتمنه في كتمان السر في كل الأحوال؛ لأن البعض مثلاً إما في حالة السخط، أو الغضب… أو لعوامل أخرى، البعض مثلاً ممن يمكن استمالته بالأطماع والأهواء، أو ممن يكون في حالة الغضب إنساناً غير متزن، يمكن إذا انفعل جداً أن تكون ردة فعله نحو العمل نفسه، لا يبالي بالأمة، لا يبالي بالعمل، لا يقدِّس المسؤولية، فتكون ردة فعله أحياناً بما يضر بالعمل، فيسرِّب البعض من المعلومات.
البعض ليس من هذا القبيل؛ وإنما من حيث الإهمال، هو إنسانٌ مهمل، مستهترٌ بالمسؤولية، لا يعي قيمة الأشياء، أهميتها، لا يعي خطورة بعض الأمور، خطورة أن يطَّلع العدو عليها، فيسبب ذلك لفشل في عملٍ مهم، أو فشل لخطة معينة، أو لتدبير مهم.
فلذلك يكون الاختيار لمثل هذه الأمور دقيقاً، ويكون الاعتماد وفق معايير إيمانية، أخلاقية، قيمية، بحيث يكون الإنسان مطمئناً على أن هذا الإنسان ممن يمكن الوثوق به، والاعتماد عليه، فهو ممن يستشعر المسؤولية، يقدِّس المسؤولية، يدرك أهمية الأمور، ليس إنساناً طائشاً، ولا عابثاً، ولا مستهتراً، ولا يمكن أن يشترى بالمال، ولا يغرى بالأطماع… وغير ذلك.
((مِمَّنْ لَا تُبْطِرُهُ الْكَرَامَةُ، فَيَجْتَرِئَ بِهَا عَلَيْكَ فِي خِلَافٍ لَكَ بِحَضْرَةِ مَلَأٍ))
من تعتمد عليه، وتقرِّبه منك، ويصبح معاوناً لك في إطار مسؤوليتك المباشرة، سواءً في أي مجال من المجالات، في مجال هذا الجانب: مثلاً الرسائل ذات الأهمية الكبيرة، أو حلقة الوصل في إيصال توجيهات، أو إيصال أوامر معينة، أو متابعة أعمال معينة، من في محيطك ممن تعتمد عليه هذا الاعتماد الكبير، أو في مستوى مكتبك الذي تعتمد عليه في إنجاز معاملات، وتحرير معاملات… إلى غير ذلك، لابدَّ أن تلحظ فيه الجوانب الأخلاقية، والإيمانية، والقيمية، مع كفاءته للعمل نفسه الذي يباشره، من حيث: التخصص، والمهنة، والمعرفة.
ويكون من هذا النوع: ((مِمَّنْ لَا تُبْطِرُهُ الْكَرَامَةُ فَيَجْتَرِئَ بِهَا عَلَيْكَ فِي خِلَافٍ لَكَ بِحَضْرَةِ مَلَأٍ))؛ لأن البعض من الناس إذا قرَّبته، ووثقت به، واعتمدت عليه، وأعطيته الصلاحيات، وأصبح له عندك مكانة ودور عملي مهم، يتأثر بشكلٍ سيئ في نفسيته، وأخلاقه، وقيمه، تبطره النعمة؛ فيطغى، ويفقد توازنه النفسي، يصبح إنساناً مغروراً، معجباً بنفسه؛ وبالتالي يتجرأ حتى على مخالفتك، والعناد لك، وقد يكون منه ذلك حتى وأنت في حضرة ملأ، وأنت في إطار عمل بين أوساط الناس، وأنت في إطار تعامل مباشر مع الناس، فهو ممن يحاول أن يُظهِر حتى أمام الآخرين بحضورك أنه هو الأصل والفصل، وأنك عنده مجرد عامل بسيط، هو الذي ينجز لك، والأصل في إنجاز الأمور، وأنك ممن لا يعرف، ولولا هو لما كنت ناجحاً في أداء مسؤوليتك، يتصور من خلال اعتمادك عليه، وثقتك به، وإعطائك له صلاحيات، وتمكينك له من دورٍ فاعل، ودورٍ مهم، يتصور أنه الأجدر منك بالمسؤولية، والأصل في نجاح عملك بكله، فيبطر، ويسيء أدبه نحوك، يجترئ عليك، ويسيء أدبه نحوك، فيسيء إليك، ويتعامل معك بطريقة خالية من الاحترام، حتى بمحضر الناس، وهذا له تأثير سيئ على عملك أنت، على أدائك أنت للمسؤولية؛ لأن المطلوب في أداء العمل بمثل ما تحرص أنت على أن تؤدي عملك بشكلٍ صحيح، بما يرضي الله “سبحانه وتعالى”، وتؤدي واجبك نحو الناس، أن تؤدي هذا الدور بكرامة، باحترام، بتقدير، وليس بمهانة، وإساءة، وبدون احترام، وطبعاً وبدون أيضاً تكبر، وبدون غرور، وبدون طغيان، وبدون تعالٍ على الناس، ولكن الحالة التي يصبح واقعك فيها من جانب من يعينك، من تعتمد عليه، من تثق به، من هو في محيطك العملي، هي قائمة على تعاملٍ سيئ، بلا احترام، بلا تقدير، بإساءة، بجرأة، بوقاحة، باستخفاف ومخالفة ومعاندة حتى في حضرة الناس، يكون لهذا الأثر السيئ على نجاحك في عملك أنت، على قابليتك وقابلية عملك أنت؛ لأنه إذا كان ناصحاً من تعتمد عليه، من تثق به، من هو في إطار عملك، سواءً في مكتبك، أو على رأس دائرة أو إدارة من أعمالك الأساسية، يمكنه أن ينبهك على مسألة معينة، أو على معطيات معينة، أو يشير عليك إن كان له رأي بطريقة مؤدبة، بطريقة محترمة، لا حاجة إلى أن يسيء أدبه، وأن يتظاهر بأنه هو الأصل، والفصل، والمبدع، وأنه يمتلك القدرة على مخالفتك، ومعاندتك، وأنه متمكنٌ من ذلك، لا يحتاج إلى هذا أبداً، يمكنه أن يشير عليك بطريقة محترمة، أو يقدِّم لك المعطيات التي قد يكون متصوراً أنها لم تصل إليك.
فمسألة أن يكون من في محيطك، مكتبك، إداراتك، دوائرك، من في إطار مسؤوليتك المباشرة من الأعوان (الإداريين والكتَّاب)، أن يكونوا ممن يستشعرون قدسية المسؤولية، ويهتمون بأداء مسؤولياتهم من جهة، وهم من ذوي الأدب، والأخلاق الرفيعة والراقية من جانبٍ آخر، في تعاملهم معك، وفي تعاملهم مع الناس، ليس المطلوب أن يكونوا ممن يسيء الأدب تجاهك، ولا ممن يسيء الأدب تجاه الناس أيضاً، تجاه من يأتون للمعاملة، من لهم ارتباط بالموضوع بشكل أو بآخر، ممن هم في نطاق مسؤوليتك، ممن يأتون للمعاملات، أو يبلغون… أو نحو ذلك.
فالبعض ممن يبطر بالكرامة، البعض تبطره الكرامة، اعتمادك عليه، ثقتك به، تمكينك له في إطار عمل معين، في إطار مسؤولية معينة، في إطار دورٍ معين، يطغيه، يحدث عنده فقداناً للاتزان النفسي، البعض يصاب بجنون العظمة، يتصور أنه أصبح إنساناً عظيماً جداً، ومهماً جداً، ثم ينظر إليك بالنظرة القاصرة والسلبية، فيقابل تكريمك له، واحترامك له، وتقديرك له، واعتمادك عليه، وثقتك به، بقلة الأدب، بالإساءة، بالاحتقار، بالطغيان، تبطره الكرامة، هذا النوع من الناس هم اللئام، اللئيم، اللئيم تبطره الكرامة، يطغى، يبطر، يتصور نفسه أنه أصبح شيئاً عظيماً جداً ومهماً، ثم يحتقر الآخرين.
((مِمَّنْ لَا تُبْطِرُهُ الْكَرَامَةُ، فَيَجْتَرِئَ بِهَا عَلَيْكَ فِي خِلَافٍ لَكَ بِحَضْرَةِ مَلَأٍ))، بحضرة الناس، يخالفك، ويعاندك، ويسيء إليك، وهو معاونك، وهو من يتولى أموراً إداريةً في إطار مسؤوليتك، فيكون هو من يجترئ بمخالفتك ومعاندتك أمام الآخرين، فهذا النوع لئيم، لا تعتمد عليه هو.
((وَلَا تَقْصُرُ بِهِ الْغَفْلَةُ عَنْ إِيرَادِ مُكَاتَبَاتِ عُمِّالِكَ عَلَيْكَ))
ولا يكون من النوع المهمل، لا يكون من النوع المهمل المستهتر، الذي قد تدفعه الغفلة وتؤثر عليه الغفلة في التقصير في إيصال ما ينبغي إيصاله إليك من تقارير العاملين، والمسؤولين المعنيين، الذين تتابع أعمالهم، وتتصل بك المسؤولية في إطار متابعتهم والاهتمام بهم، لهم علاقة بأعمالك، أنت مسؤولٌ عنهم.
((وَلَا تَقْصُرُ بِهِ الْغَفْلَةُ عَنْ إِيرَادِ مُكَاتَبَاتِ عُمِّالِكَ عَلَيْكَ))، بل يهتم بالوارد والصادر، ما يرد من تقارير، من بلاغات، من مواضيع، من قضايا، من أمور، ينظمها، يرتبها، يوصلها إليك.
((وَإِصْدَارِ جَوَابَاتِهَا عَلَى الصَّوَابِ عَنْكَ))
فهو يهتم بالوارد، لا يهمل، يغفل عن قضايا، يغفل عن تفاصيل، وبعد فترة هو ذلك الذي يقول: [نسيت، لم أنتبه، غفلت…إلخ.]، يكون متنبهاً، مهتماً، جاداً، يستشعر المسؤولية.
((وَإِصْدَارِ جَوَابَاتِهَا عَلَى الصَّوَابِ عَنْكَ)): كذلك إصدار الجوابات، تصبح في المكاتب والأعمال الإدارية آليات عمل، وقوالب فنية لإصدار التعليمات، الجوابات، وبشكلٍ صحيح.
((وَإِصْدَارِ جَوَابَاتِهَا عَلَى الصَّوَابِ عَنْكَ))، بشكلٍ صحيح، لا يكون فيه زيادة، ولا نقصان، ولا إهمال، ولا تفريط، وبطريقة صحيحة، وبشكلٍ صحيح.
((فِيمَا يَأْخُذُ لَكَ وَيُعْطِي عَنْكَ))
في إطار هذه المعاملات، وتحريرها، ومتابعاتها، سواءً فيما يأخذ لك، أو يوصله إليك، أو يأخذه من التزامات، أو يعطيه منك، من تعليمات، أو التزامات، أو تحرير معاملات… أو غير ذلك.
((وَلَا يُضْعِفُ عَقْداً اعْتَقَدَهُ لَكَ))
فيما يعقده من عقود، فيما يبرمه من عقود، من معاملات، من التزامات، يكون متقناً في تحرير العقود والمعاملات والالتزامات، ويعرف كيف يصيغها، ويقدمها بشكلٍ منظم وسليم وصحيح.
((وَلَا يَعْجِزُ عَنْ إِطْلَاقِ مَا عُقِدَ عَلَيْكَ))
كذلك يكون قديراً في متابعة التنفيذ والإنجاز فيما تضمنته تلك الالتزامات، وأيضاً قديرٌ على معالجة ما يدخل فيها من إشكالات، إذا اقتضى الأمر معالجة التزام معين، أو عقد معين، أو معاملة معينة تحتاج إلى التعديل، أو التصويب… أو غير ذلك، فهو قديرٌ على التنفيذ والإنجاز، وقديرٌ أيضاً على التصويب، ومراجعة ما يحتاج إلى مراجعة، أو تعديل.
((وَلَا يَجْهَلُ مَبْلَغَ قَدْرِ نَفْسِهِ فِي الْأُمُورِ))
يعرف قدر نفسه، وحدود صلاحياته، لا يتعامل وكأنه المسؤول بدلاً عنك، وكأنه المعني هو بدلاً عنك، وكأنه من يمتلك الصلاحيات التي هي منوطةٌ بك أنت، أو كأنه أكثر صلاحيةً منك، أو أهم منك، أو أقدر منك، وبناءً على ذلك يتصرف هو فوق حدود صلاحياته، ويتعاظم نفسه، فيتعاطى بما ليس له.
معرفة الإنسان بقدر نفسه، بحدود صلاحياته، بحدود مسؤوليته، والتزامه بذلك، هو أمرٌ مهمٌ في أداء المسؤوليات، والنجاح فيها، والحد من الاختلالات فيها، وضبط الأداء العملي، هذه مسألة مهمة جداً؛ لأن البعض يريد أن يكون متدخلاً في كل الأمور، فيسبب هذا تضارباً كبيراً في الأداء العملي، في المسؤوليات، فيتدخل هنا، ويخل هنا، ويؤثر هنا، ويسبب خللاً هناك.
((وَلَا يَجْهَلُ مَبْلَغَ قَدْرِ نَفْسِهِ فِي الْأُمُورِ، فَإِنَّ الْجَاهِلَ بِقَدْرِ نَفْسِهِ يَكُونُ بِقَدْرِ غَيْرِهِ أَجْهَلَ))
فيؤثر هذا تجاهك، وتجاه الآخرين، وتجاه الناس.
((ثُمَّ لَا يَكُنِ اخْتِيَارُكَ إِيَّاهُمْ عَلَى فِرَاسَتِكَ وَاسْتِنَامَتِكَ وَحُسْنِ الظَّنِّ مِنْكَ))
مسألة الاختيار لا تكون مبنية على أساس التقديرات الشخصية، وحسن الظن، والتخمين، [أن ظاهر هذا الإنسان الصلاح، ويظهر من حاله أنه مناسب لهذه المسؤولية، مناسب أن أعتمد عليه في مكتبي، أو في إدارة من الإدارات، أو دائرة من الدوائر، في إطار مهامي ومسؤوليتي، فأعتمد عليه اعتماداً أساسياً؛ لأنه يظهر من حاله الصلاح، وتقديري نحوه أنه شخصٌ جيد]، لا تكفي التقديرات، والتخمينات، وحسن الظن في مسألة المسؤوليات، المسؤوليات والمهام العملية المرتبطة بالناس، المرتبطة بالحق والعدل مسألة مهمة جداً، لا تكفي فيها هذه التقديرات.
((فَإِنَّ الرِّجَالَ يَتَعَرَّفُونَ- وفي بعض الروايات (يَتَعَرَّضُونَ)- لِفِرَاسَاتِ الْوُلَاةِ بِتَصَنُّعِهِمْ، وَحُسْنِ خِدْمَتِهِمْ، وَلَيْسَ وَرَاءَ ذَلِكَ مِنَ النَّصِيحَةِ وَالْأَمَانَةِ شَيءٌ))
البعض من الناس هم يتقنون التظاهر بالصلاح، ويقدمون أنفسهم بطريقة معينة، بحيث ترى فيهم أنهم فعلاً جديرون بأن تعتمد عليهم، بأن يكونون في إطارك، بأن يكونون هم في إطار مسؤولياتك المباشرة، يعينونك فيها، يحسنون التعامل معك، يظهرون أنفسهم بالصلاح، ويقدمون خدمات معينة لك، ويظهرون اهتماماً معيناً نحوك، فالبعض من الناس قد يتأثر بذلك، عندما يرى هذا النوع من الناس الذين يتعرضون وهمهم الوصول بذلك- بما يظهرونه من حسن الحال، من الكفاءة، من مكارم الأخلاق، من تقديم خدمات معينة، من اهتمام- همهم بذلك الوصول إلى محيطك العملي، أو اختراق محيطك العملي للوصول إلى مسؤولية معينة فيه.
((وَلَيْسَ وَرَاءَ ذَلِكَ مِنَ النَّصِيحَةِ وَالْأَمَانَةِ شَيءٌ))، لا هم ناصحون، ولا هم أمناء، بحيث يعتمد عليهم، والنصيحة والأمانة هي الأساس في أن تعتمد على هذا، أو تثق بهذا، في إطار مسؤولياتك المهمة.
ولــذلك لا تكتفي بالتقديرات، والتصورات، والفراسة، وحسن الظن، المبني على ما لاحظته من ظاهرهم، من خدماتهم التي يقدمونها، من لفتهم لنظرك إليهم بشيءٍ من الاهتمام.
((وَلَكِنِ اخْتَبِرْهُمْ بِمَا وُلُّوا لِلصَّالِحِينَ قَبْلَكَ))
(اخْتَبِرْهُمْ): اعتمد على الاختبار، لا يكفيك التظاهر من جانبهم، بما يظهرهم أمامك بأنهم من ذوي الكفاءة والثقة للاعتماد عليهم، اعتمد على الاختبار:
إمَّا بما ذكره هنا: ((بِمَا وُلُّوا لِلصَّالِحِينَ قَبْلَكَ))، يعني: بتجاربهم السابقة، إن كانت لهم تجربة في إطار صالحين آخرين قبلك، فكانوا في إطار أعمال معهم، كيف كان أداؤهم، كيف كان أثرهم من خلال مسؤولياتهم، أثرهم في الواقع، كيف كان الانطباع العام في نطاق مسؤولياتهم نحوهم.
أو مثلما سبق، الاختبار مثلما سبق في مسألة العمال: الاختبار بمهام عملية محددة ومحدودة، والاختبار أيضاً في أحوال مختلفة، اختبره في حالة الغضب، في حالة الرضا، في حالة اليسر، في حالة العسر، في أحوال مختلفة كيف هو، عندما يكون معنياً في تنفيذ مهمة، أو في تقدير موقف… أو نحو ذلك، ولكن في حالة غضب كيف هو؟ أو في حالة رضا، أو في حالة يسر، أو في حالة عسر، وكذلك مستوى المهام المطلوبة منه لإنجازها، هذا هو المفيد (الاختبار العملي).
ومعرفة الخبرة بالنظر إلى ما قد كانوا عليه سابقاً، ما كانت أعمالهم في السابق، ما الذي أنجزوه، كيف كان أثر ذلك في الواقع…إلخ.
((فَاعْمِدْ لِأَحْسَنِهِمْ كَانَ فِي الْعَامَّةِ أَثَراً، وَأَعْرَفِهِمْ بِالْأَمَانَةِ وَجْهاً))
أحسنهم أثراً في الناس، في نطاق مسؤوليته طبعاً، إذا كانت مسؤوليته في محيط عملي معين، في أي مستوى عملي مثلاً، إذا كان في إطار المجتمع، عمل يباشر به مسؤولية تجاه المجتمع بشكلٍ مباشر، في حي معين، في منطقة معينة، في بلد معين، في مستوى معين، أو إن كان في إطار عملي آخر في نطاق مسؤوليته، كيف كان الأثر، كيف كان الانطباع عنه، عن أدائه، هل كان له أثر جيد في نفوس الذين في نطاق مسؤوليته، أم لا؟
وكذلك قوله: ((وَأَعْرَفِهِمْ بِالْأَمَانَةِ وَجْهاً))، الذي يؤدي مهامه العملية بكل أمانة، باختلاف المهام، وتنوع المهام، هو يؤديها بكل أمانة، مؤتمن على الإمكانات، مؤتمن على إنجاز العمل نفسه، على اهتمامه به، على طريقته في العمل.
((فَإِنَّ ذَلِكَ دَلِيلٌ عَلَى نَصِيحَتِكَ لِلَّهِ، وَلِمَنْ وُلِّيتَ أَمْرَهُ))
هذا يدل على نصيحتك لله “سبحانه وتعالى”، أنك صادقٌ ومخلصٌ مع الله “سبحانه وتعالى”، أنت بذلت جهدك في حسن الاختيار لأجل أداء المسؤولية كما ينبغي، بما يرضي الله “سبحانه وتعالى”.
وكذلك نصحك للناس، (لِمَنْ وُلِّيتَ أَمْرَهُ): لمن تتحمل المسؤولية تجاهه، أنك تعمل بكل صدق، بكل إخلاص، بكل جد، وأنك تبذل جهدك في حسن الاختيار، بما يساعد على حسن الأداء، على أداء المسؤولية، على إنجاز المهام.
((وَاجْعَلْ لِرَأْسِ كُلِّ أَمْرٍ مِنْ أُمُورِكَ رَأْساً مِنْهُمْ، لَا يَقْهَرُهُ كَبِيرُهَا، وَلَا يَتَشَتَّتُ عَلَيْهِ كَثِيرُهَا))
الإنسان كلما كبرت مسؤوليته، كلما احتاج إلى من يعينه من الناس، لا يستطيع هو بمفرده أن يستوعب كل التفاصيل، كل الأمور، أن ينجز كل الأشياء، أن يستقبل كل شيء دفعةً واحدة، يحتاج إلى من يعينه في استقبال الأمور، في تنظيمها، في ترتيبها، في اختصارها، في تقريبها، وفيما بعد في إنجازها، في متابعتها… إلى غير ذلك، وتنظيم هذه المسألة في إطار المعينين من هؤلاء (الإداريين، والكتَّاب، وأمناء السر… وغيرهم)، تنظيم هذه المسألة فيما يتعلق بالمجالات: هذا على مجال كذا، هذا على ملف كذا، هذا على موضوع كذا، مسألة مهمة جداً، أن يتفرغ مثلاً كلٌّ منهم في متابعة مجال معين، أو ملف معين، ليهتم بشكلٍ كبير، ويساعدك بشكلٍ جيد، مع ملاحظة قوله “عليه السلام”: ((لَا يَقْهَرُهُ كَبِيرُهَا))، هذا عمل ينظم عملك، يساعدك على نظم عملك، عندما يكون على رأس كل أمرٍ من الأمور شخص يتابع، ولكن يمتلك الكفاءة لمتابعة ذلك المجال، أو ذلك الملف.
((لَا يَقْهَرُهُ كَبِيرُهَا)): كبير الأمر ذلك، يعني: ما فيه من مسائل صعبة، أو مواضيع شاقة، أو قضايا حساسة، وكبيرة في نطاق ذلك الموضوع، أو ذلك المجال، أو مستوى ذلك الأمر، فيمتلك القدرة يعني، لا يضعف، لا يضعف، فيهمل، أو يقصر، نتيجة ضعفه؛ لأنها كبرت المسألة عليه، المسألة أكبر من قدرته النفسية، الإدارية، المعرفية.
((وَلَا يَتَشَتَّتُ عَلَيْهِ كَثِيرُهَا)): لا يتشتت عليه، فيضيع الكثير من التفاصيل، والكثير من الأمور المهمة؛ لأنه لا يتمكن من الإحاطة بذلك المجال، من الاستيعاب له، من الاستيعاب لتفاصيله المهمة.
فيمتلك القدرة تجاه المسائل الصعبة، والكبيرة في ذلك الموضوع وفي ذلك المجال، أو في ذلك الملف، ويقدر على استيعاب التفاصيل، ونظمها، وجمعها، لا تتشتت وتضيع، فيؤدي دوره بشكلٍ فاعل، بشكلٍ إيجابي، فيكون معيناً حقيقياً.
((وَمَهْمَا كَانَ فِي كُتَّابِكَ مِنْ عَيْبٍ فَتَغَابَيْتَ عَنْهُ أُلْزِمْتَهُ))
الذين هم في إطار عملك ومسؤوليتك من الأعوان، من الكتَّاب، من الإداريين، وهم حلقة الوصل بينك وبين الناس، وهم الذين يباشرون استقبال ما يرد إليك، وإصدار ما يصدر عنك، ما كان فيهم من عيبٍ فتغافلت عنه، وتجاهلته، ولم تبالِ به، فتأثيراته السلبية عليك، في الأخير يصل الأمر إلى الإساءة إليك، يسيء إليك أنت، ولــــــذلك لا ينبغي التغافل عندما تلحظ قصوراً عند أحدٍ منهم، تقصيراً عند أحدٍ منهم، أو عدم كفاءة، أو سوءاً، أو خللاً خطيراً، أو إهمالاً كبيراً، أو جوانب سلبية معينة، لا تتغافل عن ذلك، احرص على إصلاح ذلك، ومعالجة ذلك، والاهتمام بذلك؛ لأن هذا يتصل بمسؤوليتك المباشرة، وعملك المباشر.
ولــــذلك يفترض أن يكون هناك تفقد بشكل منتظم، متابعة، ملاحظة، سعي للارتقاء بهذا النوع من المعنيين والمسؤولين، ليكونوا بالمستوى المطلوب، الاهتمام بهم إيمانياً، أخلاقياً، كذلك فيما يتعلق بمجالات عملهم، والارتقاء بهم، على مستوى التأهيل لهم فيها، إلى غير ذلك مما يحافظ عليهم، يرفع مستواهم، يُحَسِّن أداءهم، فيكون لذلك الأثر الإيجابي في إنجاز المهام، وإنجاز الأعمال.
نكتفي بهذا المقدار.
ونسأل الله “سبحانه وتعالى” أن يوفِّقنا وإيَّاكم لما يرضيه عنا، وأن يرحم شهداءنا الأبرار، وأن يشفي جرحانا، وأن يفرِّج عن أسرانا، وأن ينصرنا بنصره، إنه سميع الدعاء.
وَالسَّـلَامُ عَلَيْكُمْ وَرَحْمَةُ اللهِ وَبَرَكَاتُهُ؛؛؛