واسينى الأعرج
يضعنا كتاب عبد الرحمن بن خلدون «التعريف بابن خلدون، ورحلته غرباً وشرقاً» أمام معضلتين يجب حلهما قبل الدخول في صلب المكونات السيرذاتية في هذا النص المهم. الكثير من النقاد صنفوا الكتاب في خانة أدب الرحلات، ما دام ابن خلدون قد أضاف «ورحلته غرباً وشرقاً» واعتبروا ذلك محدداً طبيعياً للنوع.وبنوا عليه فكرتهم التي سحبت السيرة الذاتية من خيارات ابن خلدون. وحولوا الفرعي جوهرياً والجوهري فرعياً، بناء على كلمة رحلة.
إن فكرة إضافته كلمة «رحلة» إلى عتبات نصه لا تكفي لتحويله إلى رحلة. الرحلة نظام كلي مؤسس على قواعد من بينها متعة الاستكشاف، اكتشاف عالم كان مغلقاً بالنسبة للكاتب. الذي حدث في «التعريف» هو شيء آخر؛ أولاً أن عبد الرحمن عندما كتب أول مرة سيرته، لم يكتب «رحلة»، إذ كما ذكر المدقق في هامش التعريف «وختم ابن خلدون الجزء الأخير من تاريخه بالتعريف بنفسه، وأضاف بخطه في بعض النسخ، قوله: ورحلته غرباً وشرقاً»، ابن خلدون أضاف الملاحظة لاحقاً، أي أهمية إضافة «رحلته غرباً وشرقاً» لم تكن ذات أهمية عندما كتب تعريفه. إضافة إلى كون النص لا يركز مطلقاً على مشاهداته ورحلاته، لكنه يذكرها في سياق حديثه عن نفسه، وعن تفاصيل حياته ومحنه. لا قيمة للمدن التي ذكرها، تونس، إشبيليا، قرطبة، غرناطة، تلمسان، قسنطينة، بجاية، القاهرة، وغيرها، لم تأت كوصف حياتي جمالي للأمكنة وهو يكتشفها، لكن لعلاقتها بهروبه وسجنه وتنقلاته الإجبارية من مكان إلى مكان. هذا ما نسميه بالسياق المرتبط بتجربة حياتية غنية.
طوال كتاب التعريف، نلاحظ أن المدن ليست إلا صدى لتجربته الخاصة، وللمشكلات القاسية التي عانى منها مع ملوك وسلاطين زمانه. تونس هي المكان الذي ولد فيه، والتقى فيها بأساتذته الذين كان لهم الدور الحاسم في حياته، فيها اكتشف سلالته وقبيلته الأساسية. إشبيليا هي المدينة التي قطنتها قبيلته عندما ارتحلت إلى هناك من اليمن، وبنت المدن العظيمة قبل أن تبدأ لحظات الانهيار. قد يسرف أحياناً في الحديث التاريخي، لا ليظهر قيمة التاريخ لكن ليدرج فيه التحولات التي لحقت بأجداده السلاليين. منذ اللحظة الأولى التي يعرِّف بها بنفسه، حتى خاتمة الكتاب، لا نجد إلا تفاصيل حياتية شديدة القسوة في أغلبها لمثقف كبير أجبر على الاختيار بين هذا السلطان أو ذاك في قتالهما وحروبهما على الحكم. لم يغادر نفسه، ظل ملتصقاً بها حتى عودته آخر مرة لتولي القضاء للمرة الخامسة، على الرغم من الحساد والذين ظلوا يكيدون له حتى آخر لحظة من حياته. حتى ما يذكره من وقائع تاريخية هي تفصيلات مرتبطة بحياته وتحولاتها في خضم العواصف.
نخرج من الكتاب بصورة قاتمة عن الحكم في فترات انهياره، وبصورة حزينة عن «مثقف السلطة»؛ فهو لا يقوم على أساس ذكائه وعلمه وخبرته، لكن بمدى قربه أو بعده من الحاكم. لا ضمان في حياة مثل هذه، حتى صديقه الأقرب الذي احتضنه يوم زار غرناطة واستقبله، ابن الخطيب، انقلب عليه عندما رأى سلطان بني الأحمر مهتماً به كثيراً، وكان عليه أن يغادر باتجاه تلمسان التي كانت له فيها معارف مع بعض حكامها.
الكلمة الثانية المثيرة «للشبهة» هي «التعريف» التي تعني تنوير من لا يعرفه، وكثيراً ما يكون مختصراً، لأن المهم في ذلك عمله ومؤلفاته وليس الشخص.
لكن النص ليس تعريفاً عابراً، لكنه تفاصيل حياتية مرصوصة بإحكام، وصراع كبير ليس فقط مع أشخاص لكن مع زمن كثرت فيه الحروب بين الأخوة، وكثر فيه الانحطاط والشماتة، كما يتبدى ذلك واضحاً من خلال كتاب «التعريف». ابن خلدون بعظمته ورحلاته لم يكن في حاجة إلى التعريف به، فقد كان معروفاً في أوساط الحكم في الأندلس وفي إفريقيا. وفي ظني أن كلمة تعريف تعني السيرة، بينما تعني الرحلات الأمكنة التي نشأت فيها هذه السيرة.
بهذا نكون قد وضعنا وراءنا فكرة الرحلة، كفن، والتعريف، ونتجه نحو السؤال الكبير: هل هناك ميثاق سيرذاتي يدعم النص لنعتبره سيرة ذاتية قائمة بذاتها؟
ليس فن السيرة فناً مستجداً، يمكن اعتباره اليوم من أقدم فنون الكتابة الذي تطور مع الزمن حتى تفرد واكتسب هوية خاصة به، ليصبح هذا الفن مدار سلسلة من النقاشات الحية المرتبطة بالسيرة الذاتية في مراكز الأبحاث المختصة والمخابر، ومنها ما قام به فيليب لوجون. لم تعد السيرة، والسيرة الذاتية تحديداً، ذلك العالم المغلق الذي لا يجب الاقتراب منه، كما في عالمنا العربي، حيث إن حياة الأفراد تمتلك بعض القداسة ولا يمكن الدخول إليها دون إحداث إرباك أو خلل في البنيان العائلي أو الأسري أو القبلي. الحياة الخاصة للأفراد شيء لا يمكن الاقتراب منه، فالفرد يذوب داخل الجماعة، ولا قيمة كبيرة لفرديته.
لهذا غاب هذا الفن أو كاد من دوائر البحث الثقافي نظراً لغياب النصوص التي يمكن العمل عليها. مع أن العرب الأوائل تعاملوا مع هذا الفن بروية وحولوه إلى خزان معرفي تمر عبره حيوات الأفراد في عز نشاطهم المجتمعي. لنا في كتاب «التعريف» المثل الكبير. فقد قام عبد الرحمن بن خلدون بما يقوم به كتاب السيرة المحدثون اليوم عندما يمتلكون بعض الشجاعة والتجاوز. تحدث عن حياته بالكثير من تفاصيلها، وعن صداقاته الكبيرة، مثل لقائه بحاكم بجاية الذي يحفظ له صورة من أجمل الصور التي جعلته يستعيد ألقه بالحياة: «فاحتفل السلطان صاحب بجاية لقدومي، وأركب أهل دولته للقائي وتهافت أهل البلد عليّ من كل صوب يمسحون أعطافي، ويقبّلون يديّ وكان يوماً مشهوداً».
يتحدث هنا عن العلاقة الشخصية الحميمية التي يمكن أن تجمع إنساناً بصديق، أو بشخص يعزه ويقدره. الشيء نفسه يمكن قوله عن علاقته بالوزير «لسان الدين بن الخطيب» الذي أعجب به كثيراً. وهنا يقدم لنا هذه الشخصية بحب كبير، ذاكراً مساهماتها في الحياة الثقافية، يقول: «وكان الوزير ابن الخطيب آيةً من آيات الله في النظم والنثر والمعارف والأدب لا يساجل مداه، ولا يهتدى فيها بمثل هداه». قد يبدو في الحديث مبالغة، القصد من ورائها التكسب، لكن من عرف شيئاً عن تاريخ ابن الخطيب تأكد له أن ما قاله ابن خلدون عنه حقيقة موضوعية لا مراءاة فيها. كان صادقاً إلى أبعد حد «ثم خرجت منه إلى غرناطة، وكتبت إلى السلطان ابن الأحمر، ووزيره ابن الخطيب بشأني.
وليلة بت بقرب غرناطة على بريد منها، لقيني كتاب ابن الخطيب يهنئني بالقدوم ويؤنسني». ولا يتوانى ابن خلدون عن ذكر كل ما حدث له في رحلته الحياتية، حتى هروبه من القلعة والتحاقه بتيمور لنك. ويصف كيف تدلّى من القلعة في سلة حتى وصل إلى «تيمور لنك» ليحاوره.
ليصبح كتاب التعريف شهادة صادقة عن سيرته، لكن ذلك لا يمنع من وجود تخييل في تضخيم بعض الصفات. لكن، لا شيء يقع خارج ما عاشه ابن خلدون من تجارب ومحن، ويمكن اختبار ذلك عند غالبية المؤرخين الذين اشتغلوا على الشخصية. وسنجد حتماً في الميثاق المرجعي ما يبرر جنس السيرة الذاتية.