Visit Us On TwitterVisit Us On FacebookCheck Our Feed

صنعاء الأوروبية.. رينزو مانزوني في يمن القرن التاسع عشر

تيسير خلف

تكتسب رحلة الإيطالي رينزو مانزوني (1852 – 1918) إلى اليمن في العام 1877 أهميتها من أنها لم تكن رحلة مسيسة، فمانزوني لم يرسله أحد لاستكشاف طريق تجاري، أو دراسة أوضاع بلد تستعد دولة غربية لاستعماره، بل كان دافعه الأول والأخير، الفضول والرغبة في استكشاف عوالم جديدة، ولذلك أتى وصفه للمدن التي زارها أقرب إلى الحياد؛ بعيداً عن المواقف المسبقة، فقد أشار إلى الإيجابيات، وعرج قليلاً على السلبيات.

وامتدح مانزوني الذي أصدر رحلته في العام 1884، ونقلها قبل سنوات إلى العربية المترجم ماسيمو خير الله، حياة اليمنيين كثيراً، وقدم وصفاً نادراً لمدينة صنعاء التي كانت في ذلك الوقت أهم مدن الجزيرة العربية قاطبة، من حيث العمران، والتقاليد المدنية، وانفتاحها على الجاليات الأجنبية التي كانت تقطن فيها.

وصاحب الرحلة هو سليل كاتب إيطالي واسع الشهرة يدعى أليساندرو مانزوني، وقد تفتح في جو من الثقافة النخبوية، وزار قبل أن يصل إلى اليمن، المغرب، ومكث فيه عاماً كاملاً، حيث ولدت لديه الرغبة في زيارة جنوبي الجزيرة العربية، ولم يلحظ له أي نشاط أدبي أو رحلي بعد ذلك رغم امتلاكه اللغة والأسلوب.

ضاحية أوروبية في صنعاء

بعد أن يغادر مانزوني عدن قاصداً صنعاء “أرض الميعاد الجديدة” كما يصفها، يصل في الخامس عشر من تشرين الثاني/ نوفمبر، حيث يكتب عن انطباعه الأول عنها بأنها أشبه بالمدن الأوروبية: ” تبدو صنعاء لي جميلة جداً، فالبيوت رائعة وكبيرة، هذه البيوت مبنية بأكملها بالحجارة المقطَّعة والآجُرّ، وهذا الآجر جيد الصنع ومتين جداً، لونه أحمر بنيّ، وله الشكل والحجم الكبير الذي نراه في الآثار الرومانية. الطرقاتُ الواسعة والجميلة نظيفةٌ جداً، والبيوت المرتفعة جدًّا، تعطيها الحجارة خلفية رمادية، وخلفية حمراء بُنية يعطيها الآجر، أما النوافذ والواجهات، والأشكال الزخرفية البيضاء، فكلها تعطي تأثيراً سحريًّا وباهراً تحت ضوء القمر. وعندما أتواجد في حيّ المقاهي التركيَّة، والدكاكين اليونانية، يخيل إليَّ وكأنني في ضاحيةٍ أوروبية”.

ويلحظ رحالتنا الشبه الكبير بين البازار العربي في صنعاء، والبازارات الموجودة في المغرب، من حيث حجم الدكاكين الصغيرة، وجلوس البائع المُحاط دائماً بقدر من البضائع التي تحجب رؤيته، ويشير إلى كثافة وجود الجنود الأتراك في المدينة، وحسن معاملتهم لليمنيين، حيث لم يلحظ أي صدام أو مشاجرة بين الجانبين. ويقول: “العرب الذين ألتقي بهم أنيقون وجليلون، ويبدون غير مكترثين أبداً بوجود أجنبي غريب. عندما يُسلِّم أحدُ المعارف أو الأصدقاء على حسين (مرافقه) يسأله عمَّن أكون أنا، عندها يقوم بتحيَّتي ويصافحني”.

الجالية اليونانية

ويخبرنا مانزوني عن الجالية اليونانية التي كانت تعيش في صنعاء ذلك الوقت: “التقيت يوماً بطبيبٍ يونانيّ، أتنَّساكي أفندي، الذي قدّم لي فنجاناً من القهوة الممتازة. وفيما يخصُّ اليونانيين، لديهم دكاكين مليئةٌ بكل ما يحتاج إليه المرء، وتتواجد تلك الدكاكين في “البازار” الموجود شرقي السوق العربي. ووجدتُ في تلك الدكاكين عيدان الثقاب، وورقا للَفِّ السجائر، وعلب سردين، وشموعا، ومُلمِّع الأحذية، وأجبانا، وأرزا، وبطاطا، وزيتونا، وصابونا، وجوزا، وبندقا، ولوزا، وزجاجات مخللاتٍ، وجميع أنواع الكحول، ونبيذا، وبيرة، وبسكويت، وحلويات والعديد من المأكولات الأخرى. وفي بعض الدكاكين اليونانيَّة في صنعاء، نجد أيضاً الملابس، والقمصان، والسراويل، والجوارب وجميع أنواع الملابس الداخلية. وفي أماكن أخرى تُباع العِصِيُّ، والمظلات، والمصابيح النفطية، والشمعدانات، والكؤوس، والقوارير، وأدوات المائدة، والصحون الفخارية، المرايا”.

ويضيف شارحاً: “كلُّ هذه البضائع مستوردةٌ من قبل بعض اليونانيين الذين عملوا سابقاً في بناء قناة السويس، والذين بعد انتهائهم من هذا الإنجاز الجبار انتشروا من منطقة سواكن في السودان، ومصوع في أثيوبيا، والحديدة في اليمن، ليصلوا إلى هنا مع كميات كبيرة من البضائع، وبالأخص تلك الضرورية للأتراك، ولذلك فهي سهلةُ البيع. وقيل لي إنهم بهذه الطريقة يجنون الكثيرَ من المال. يوجد في البازار مقهيان تركيان، ومقهى يونانيٌ واحدٌ فيه بِليارْدو، ومحلاّن للحلاقة، وثلاثة محال للخياطة ومحل ساعاتي”.

ويمتدح رحالتنا ثقافة الحاكم العثماني مصطفى باشا عاصم، الذي قضى شبابه في معاهد باريس العسكرية، كما يقول، ويشير إلى أن قائد الميدان والجنود دمشقي برتبة لواء يدعى حميد موسى باشا. ويعدد بعض المرافق التي رآها، مثل مكتب البرقيات الذي يصل صنعاء بالحديدة على خط من المفترض أن يربط عدن أيضاً، لكن ذلك استحال بسبب الحرب، ويقول إنه للسبب نفسه توقفت أعمال شقّ طريق مُعبَّدٍ من هنا إلى الحديدة. ويشير إلى وجود مستشفى عسكري رائع، وثكنات جيدة للجنود.

بيت جميل

وبعد ذلك يحدثنا عن البيت الذي استأجره، وكيف أعده للسكنى بعد أن كان مهجوراً، وفي ذلك يقول: “إنَّ المُبيِّضين في صنعاء لا يملكون الفراشي، فهم يقومون بعملهم مستعملين الخِرَق، وإليكم كيف: إنهم يضعون في نصفِ قرعٍ فارغ يُشبه العود، خلطةَ الماء والجص التي حضَّرها العمال، فيمسكون نصف القرع في اليد اليسرى ويغمسون الخرقة بيدهم اليمنى، ويحكون بها على الحائط وكأنها إسفنجة. ولديهم سلالم خشبيةٌ شبيهةٌ بالتي عندنا، يسندونها إلى الحائط لتبييض السقف، يتَّبع هؤلاء طريقةً أكثرَ غرابة. بعد ملء نصف القرعة بالسائل الأبيض، يمسكونها بأيديهم، ويبدؤون بتحريكها حركةً قوية نصف دائرية، من الأسفل إلى الأعلى، ثم يقذفون السائل على السقف. تقع بعد ذلك آلاف وآلاف من القطرات، فتكتسي سواعد المبيضين وثيابهم ووجوههم ورؤوسهم باللون الأبيض، إلى درجة أنَّ هؤلاء العاملين يُشبهون أشخاصاً مُقنَّعين بالطحين. عندما تنتهي عملية تبييض السقف والجدران، يقوم الصنعانيون بتبييض الأرضية أيضاً، وحين تجفّ، يحكونها بقوةٍ بباقات من البرسيم الأخضر، إذ يقولون إنَّ لعصير البرسيم مفعولاً فتّاكاً لإبادة الحشرات”.

والبيت الذي اختاره رحالتنا يتكون من عدة طوابق قرر أن يسكن في الطابق الأخير منه، وهو يتكون من أربعُ غرفٍ كبيرةٍ نسبياً، تطلُّ على شرفة جميلة، حوَّلها فيما بعد إلى صالة لالتقاط الصور، ومن تلكَ الغرف الأربع جعلت واحدةً لمجلس الاستقبال، والثانية للنوم، والثالثة مشغلاً لمعالجة الصور معكوسة الضوء، والرابعة لمشغل التحميض في غرفة الاستقبال، والتي كانت تستخدم أيضاً كمكتبٍ، وضع طاولة وكرسيين، طلب صُنعها خصيصاً في صنعاء.

مسجد صنعاء

يصف لنا مانزوني مسجد صنعاء الكبير بشكل مفصل، ويشير إلى أن الصلاة تقام فيه وفق المذهب الزيدي: “ما زال شكلُ الجامع حتى يومنا هذا مستطيلاً يبلغ طوله مئةَ متر وعرضَه ثمانين متراً، وتتألف واجهاته من جدرانٍ عاليةٍ مبنية من الحجارةِ والآجر، عليها نقوشٌ عربية إسلامية محضة. ويتم الدخول إلى المسجد من ثلاثة أبواب في الجهة الشرقية، اثنان منها مفتوحان دائماً”.

يضيف: “تنتهي تلك الأبواب المنتظمة في تشييدها بأقواسٍ بيضاوية خُطَّت عليها آيةٌ من آيات القرآن أو قول مأثور، وحين يدخل الزائرُ للمرة الأولى، يجد نفسَه في فناء واسعٍ، ذي شكل متوازي الأضلاع؛ طولُه ثمانون متراً وعرضه ستون متراً، وهذا الفناء مُحاطٌ بثلاثة أجنحةٍ متعددة الأروقة التي لها أقواسٌ ترتكز على عدد هائل من الأعمدة، البعض منها من حجر الغرانيت والبعض الآخر من الحجرِ البركاني رمادي اللون الذي يتم استخراجه من الجبال القريبة، وأخرى من الآجر البسيط المُغطى بالجصن، وتعلو قبَّةٌ فوق كل واحدة من تلك الأروقة التي تتدلّى من وسطها مصابيح تُضاءُ ليلاً، وتحت الأروقة الشمالية نجدُ القِبلة المشابهة للمحاريب في كنائسنا، والتي تشير إلى جهة مكة. وعلى جوانب الأروقة الجنوبية ترتفع شامخةً منارتان أسطوانيتا الشكل. إن الأرضيَّة مرصوصة بألواح عريضة من الغرانيت”.

الحمامات العامة والحي اليهودي

من الأشياء التي تلفت نظر رحالتنا في صنعاء الحمامات العامة التي يلاحظ أن واجهاتها وقبابها تشبه واجهات وقباب المساجد، ويقول: “عند المدخل نمرُّ عبرَ ممرٍ صغيرٍ باردٍ نسبياً، لكونه سفليّا ومظلما، حتى نصل إلى ما يشبه غرفةَ استقبال، يتم الدخول من يمينها بواسطة سلم صغير الدرجات إلى مكان المَخلَع، ولأن أرضية المخلع مفروشة بالحصير، فمن الواجب خلع الحذاء أو القبقاب عند آخر السلم، وتسليمه إلى صاحب الحمام المُلقَّب بالرجل حق الحمام أو ببساطة “المُعلمِّ”، الذي يبقى مستلقياً أو جالساً على الصناديق التي تحتوي على الملابس والنقود. ومن الأفضل تسليمه أيضاً ساعة اليد وكلّ ما هو قيِّمٌ. أنا كنت أسلِّم دائماً إلى المعلمين كلَّ ما لدي، حتى نظارتي. وللأشخاص المعتبرين أي أولئك الذين يدفعون “بخشيشاً” كبيراً، يفرش الخادم سجادة أخرى من الصوف الأسود في المكان الذي يخلعون فيه ملابسَهم. بعد أن يتعرى الشخص، يقوم الخدم بتزويده بمنشفة بيضاء يلفُّها على خصرِه لتغطي رجليه حتى الركبة، فتكون المنشفة بمثابة سروال السباحة عندنا”.

ويتابع مانزوني وصفه: “عند نزول أيٍّ شخص للدرج، يقومُ المُعلم بتسليمه القبقاب، الذي يكاد يشبه في شكله القبقاب الذي تنتعله الفلاحات في مناطقنا، ولكنه يختلف في مكان وضع القدم حيث بدلاً من أن يكون له جيب من الجلد، فإنَّه عند العرب له قطعةُ خشبٍ عمودية تفصل ما بين الأصبع الكبرى وباقي أصابع القدم. بعد اجتياز غرفة الاستقبال، ندخل إلى المخرجة وهي غرفة ذات حرارة متوسطة تصلح كمنطقة عبور من الجو البارد إلى الحار عند الدخول، ومن الحار إلى البارد عند الخروج. ندخل إلى “الوسطاني ” وهي الغرفة الأولى الفعلية للحمام ذات حرارة تتراوح ما بين 25 و30 درجة مئوية، ولمن يرغب بحرارةٍ أعلى، هناك غرف الصدر المختلفة، وهي الغرف الأكثر سُخونة في الحمام، حيث تصل الحرارة فيها إلى 35  و48 درجة مئوية. لكلّ غرفة من غرف الحمام العربي قبَّةٌ دائريةٌ، أُقيمت عليها شبابيك صغيرة مُدوَّرة أو مستطيلة مغلقةٌ بإحكام بواسطة زجاج سميك مدخَّلٍ في الجدران، أو بواسطة ألواحٍ من الجبس، لذلك لا يدخل منها إلا نورٌ خافت، وفي غرف الحمام، نجد بركتين أو أكثر حسب حجم الغرفة مبنية من الحجارة وتُملأ بالمياه الساخنة بواسطة حنفياتٍ معدنيّة، وهي استيرادٌ مستحدث من أوروبا إلى عدن”.

ويسترسل مانزوني في وصف هذا الطقس الساحر، فيتحدث امتزاج البخار بالروائح الزكية من خشب الصندل، والبخور، وخشب الصبار، ويشير إلى الكلفة الرخيصة لهذا الحمام الممتع.

ويفرد رحالتنا حيزاً لوصف حي اليهود في المدينة والذي يسمى “قاع اليهود” ويشبهه بحي الملاح الشهير في المغرب، ففيه سوقَهم ومعبدهم ومنازلهم وورشاتهم، ويلفت النظر إلى الشكل الفقير لبيوتهم، ويقول: “كم هو شاسعٌ الفرقُ بين يهود المغرب ويهود اليمن”.

ويشيد رحالتنا عالياً بالعربي الصنعاني، ويصفه باللطف، “فهو ليس مُتعصِّباً أبداً، ولا يحملُ أيةَ ضغينةٍ، ولا يحب مضايقة اليهود كما يفعل المغاربة، ففي صنعاء، تُحسن المعاملةُ مع اليهود عندما يتواضعون أمام العرب، ولا يمتطون الخيل ويحتشمون بتصرفاتهم. كما أن أرستقراطية العربي لا تسمح له بالتصادم مع اليهودي، إذ إنه لا يكترث لوجودهم، والغضب مع اليهودي يعني إعطاءه أهميةً لا يمتلكها في نظره”.

بين الصنعانيين والبدو

يعقد مانزوني مقارنة بين سكان المدن والأرياف والبدو، ويقول: “يأخذ سكان المدينة اسم “عرب” بامتياز، مقارنةً بتسمية “قبيلي” و”بدوي”، التي تُطلق على عرب القرى وسكان الصحراء، وبما أن المدينة تحتوي معظم وسائل الراحة لحياة الإنسان، وأكبر الثروات، والمدارس القليلة الوحيدة حيث بإمكان الأطفال تعلّم شيء ما، فإن العرب وإن تشابهوا مع القبيليين من حيث الخصال المعنوية والدينية، ولكنهم أكثرُ ثقافةً وذكاءً منهم، وأكثر رحمةً. إنَّ حياة المدينة الهانئة وعدم التعرُّض باستمرار لأشعة الشمس أو الطقس السيئ يجعلُ “العرب” ذوي بشرة أفتح وبنيةٍ جسدية أكثر سمنةً وتَرَهُّلاً من بُنيةِ القبيليين. يُظهر “العرب” والقبيليون في الحالات العادية حذراً كبيراً، فقد يبدون شبهَ خائفين من المخاطر، لكن متى ما أصبحوا في خضمها، تستيقظ بشدة شجاعتُهم وطاقتُهم الكبيرتان. يتمتَّع العرب بطبيعة ساخرة وغالباً ما يكونون خفيفي الدم بسبب تقبل لغتهم العديد من المعاني المترادفة”.

ويتابع واصفاً سكان صنعاء الذين يسميهم العرب: “العرب اذاً نظيفون جدّاً، حيث بالإضافة إلى التطهيرات الخمس الإلزامية التي تسبق الصلوات، يرتادون كثيراً الحمام، ويحلقون جميعهم القسم السفلي من اللحية، تحت الذقن والعنق وكل الشعيرات الغير منتظمة على الخدين، ولا يتعدّى طول لحيتهم الأربع أصابع، ويقصون شعر شوارب الشفة العُليا، ولا يبصِقُ العربُ بتاتاً في البيوت أو المساجد، لكن يسمحون لأنفسهم أن يتجشؤوا عندما يأكلون أو يتكلَّمون، ويبدو أنهم يستمتعون بالقيام بذلك إذ يُعبِّرون بعدها عن رضاهم هاتفين “الله، الله!” شاكرين الله لكونه أزاح عن معدتهم حملاً ثقيلاً. ولأن العرب يغسلون فمهم مرّات عديدة يوميّاً، فلهم أسنان جميلة جّداً وذات بياضٍ كامل، ويستعملون المسواك كفرشاة أسنان، وعندهم عادة أنَّهم كلما جلسوا متربعين، أخذوا بمداعبة باطن الرجل، وهذا انشغال ممتع بالنسبة لهم”.

Share

التصنيفات: أخبار وتقارير,ثقافــة,عاجل

Share