أحمد العرامي:
من بين ألوان الحكايات والأساطير الشعبية هناك نوع يمكن تسميته بأساطير المكان، أي الحكايات المرتبطة بمكان معين سواءً أكان طبيعياً، أو من صنع الإنسان. هذه الحكايات لها العديد من الخصائص والدلالات والوظائف، فقد تكون جزءاً من التاريخ الشفاهي، كما يمكن أن تتضمن بعضاً من المعتقدات والتصورات، أو رؤية الإنسان تجاه العالم أو تفسيره لظواهر الطبيعية، بيد أنها مثل كل ألوان القصص الشعبي قد تتضمن أنساقاً ميثولوجية هبطت من نصوص أو أساطير تأسيسية قديمة واحتفظت بها الذاكرة الشفاهية مرتبطةً بالمكان وتحولاته. بيد أنها، مثل الحكايات الشعبية الأخرى قد تتناص مع غيرها من الحكايات والأساطير من مكان إلى آخر، ومن ثقافة إلى أخرى.
في هذا المقال سوف أتناول حكايةً تنتمي إلى هذا النوع من الحكايات وهي حكاية “فتاة مثوة” أو “ابنة معد يكرب الزُّبَيدي”، وتروى في المناطق الوسطى من اليمن مرتبطةً بجبل مثوة في وادي زُبَيْد-عنس-ذمار، هذه الحكاية تبدو ذات جذور قديمة حتى أنها تصلح أن تكون مادة للتاريخ الشفاهي المتصل بالمنطقة نظراً لتقاطعها مع سيرة عمرو بن معد يكرب الزُّبَيدي الفارس والشاعر الشهير، بما في سيرة هذا الرجل من طابع أسطوري، خصوصاً مع ارتباطها بشخصية ريحانة ابنة معد يكرب الزُّبَيدي، التي يقال غالباً إنها أخت عمرو، وهي على نحو ما تتشابه مع شخصية “فتاة مثوة: ابنة معد يكرب الزُّبَيدي” بطلة الحكاية الشعبية. في الواقع سوف يفضي بنا التحليل إلى شخصية واحدة هي مزيج من ملامح فتاة مثوة وريحانة، أي أنهما تكملان بعضهما في رسم ملامح صورة شخصية أسطورية سنطلق عليها “ابنة معد يكرب الزُّبَيدي”، هذه الشخصية أشبه ما تكون بشخصيتي زرقاء اليمامة، وكاسندرا الإغريقية.
وأسطورتا زرقاء اليمامة وكاساندرا معروفتان فقد وردت الأولى في كتب التراث العربي، والثانية ورد ذكرها في ملحمة هوميروس الإلياذة في سياق الحديث عن سقوط طروادة، بالإضافة إلى مصادر الميثولوجيا الإغريقية الأخرى.
أما أسطورة “ابنة معد يكرب الزُّبَيدي” فتوثق وتدرس لأول مرة في هذا المقال.
يتم تداول هذه الحكاية شفاهياً في بعض قرى المناطق الوسطى من اليمن، تحديداً في كل من: عرام والتالبي والجوران، وهي ثلاث قرى قريبة من بعضها تقع في المنطقة الوسطى حيث تلتقي أطراف حدود محافظة إب شرقاً (بني قيس-الرضمة)، بأطراف حدود محافظة ذمار جنوباً (وادي زُبَيْد-عنس)، وهي مناطق ريفية زراعية نمط الإنتاج التقليدي فيها هو زراعة الذرة الرفيعة إلى جانب محاصيل ثانوية مثل الشعير والبر والذرة الشامية، قبل أن تنتشر فيها زراعة القات خلال العقود الأخيرة، وترتبط الحكاية بمكانين الأول جبل مثوة الذي يقع إلى الجوار من كل من قريتي التالبي وعرام التابعتين إدارياً لمديرية عنس والثاني اللبال الذي يقع إلى الشمال من قرية الجوران التابعة لمديرية الرضمة.
ويقع جبل مثوة في وادي زُبَيْد- عنس-محافظة ذمار، على بعد حوالي 35 كيلومتر جنوب مدينة ذمار، وهو جبل شاهق يطل على خارطة واسعة من المناطق الوسطى ويتوسط عددا من قرى وادي زُبَيْد هي التالبي (غرب)، وذي عطاء (شرق)، وعرام (جنوب)، وفي أعالي الجبل ثمة حقول زراعية وآثار سور وحصن ويبدو أن مثوة جبل تاريخي، فعند الهمداني في الإكليل مثوة بن يريم ذي رعين اسم علم وقد أولد مثوة بن يريم ذي رعين: ميتم، وعهر، وعلهان، وشرعة، وأما في صفة جزيرة العرب فيذكر مثوة كمصنعة وحصن، وفي موضع آخر كقلعة، وياقوت الحموي يذكر مثوة كأحد حصون بني زُبَيْد في اليمن، ويبدو أنه ظل كذلك حتى عهد الدولة الصليحية.
وأما اللبال فشِعْبٌ يقع إلى شمال قرية الجوران، ولاسم المكان علاقة بطبيعته وطبيعة الأسطورة، ف”اللبال” هي الإبال، جمع “أبلة”، والأبلة مفردة خاصة في اللهجة اليمنية وتعني: “الكُدس من كل شيء يجمع، فيتكوّم مناسباً، كالحبوب ونحوها. فالأَبَلَةُ من الزّرع المدوس، هي: العَرَمَة قبل تذريتها. والأَبَلَةُ من الحب، هي: الصُّبْرةُ قبل أن تعاير بكيل أو وزن. وتُجمع الأَبَلَةُ على: أبلات، يقال في موسم الحصاد مثلاً: يوجد في الأجران أبلات من أصناف الحبوب”. ومن هذه الصيغة يبدو أنها تجمع أيضاً على إبال، وأما إدغام الألف بعد ال التعريف في لفظة “اللبال” فظاهرة لهجية معروفة في اليمن، ويتطابق ذلك مع طبيعة المكان أصلاً فاللبال يبدأ بلسان صخري يمضي بالتوازي مع جبل صغير شمال قرية الجوران هذا اللسان الصخري كان يستخدم كأجران لتجميع الحبوب وتنقيتها ما بعد الحصاد، وينتهي هذا اللسان الصخري بمجموعة من الحقول التي تنزوي في باطن الجبل، وإلى جوارها ثمة عدد من الصخور الملفتة للنظر والتي تشبه الأكوام في إحداها شكل لقدم بشرية، يعتقد أن هذه الصخور كانت في زمن بعيد أبلات حبوب، ثم دعا عليها النبي الخضر فتحجرت، ومن هنا تبدأ الأسطورة.
نص الحكاية:
تقول الأسطورة: إن “معد يكرب الزُّبَيدي” الذي عاش في زمن بعيد، وكان يسكن مثوة الجبل الشاهق في زُبَيْد-عنس، وكان يملك الأراضي الزراعية بدءاً من مثوة وحتى مد البصر أي أغلب ما يعرف بـ”وادي زُبَيْد” وحتى قرية الجوران جنوبا، كان له ابنة حادة الذكاء حادة البصر وذات دراية واسعة بالحساب، كانت هي الوريثة الوحيدة لوالدها، وكان هناك رجل يريد الزواج منها، اتضح أنه كان يطمع في ملك أبيها وماله وحسب، فبعد أن صار يشرف على الحصاد وتجميع المحاصيل، كانت الفتاة تجد أن مقدار المحصول من الحبوب أقل من المعتاد، وعندما تسأله يخبرها أن هذا كل ما جادت به الأرض.
كانت الفتاة تعرف أن الرجل يقوم بسرقة المحاصيل بمساعدة بعض معاونيه في العمل، فقد اعتادت دائماً أن تخرج من حصن أبيها في جبل مثوة الشاهق، والمطل على أملاكهم وأراضيهم الزراعية لتراقب سير العمل فيها وذلك بأن تجلس على حافة جبل مثوة الصخرية المسماة “الشانفة”، وكان مما تقوم به مراقبة عملية كيل الحبوب التي كانت تتم عادةً في منقطة اللبال في الجوران حيث أجران الحبوب، وعلى أن هذه البقعة بعيدة وكذلك قد تكون محجوبة بأكمة أو ما شابه، فقد كانت تراقب عمليات الكيل من خلال لمعة المكيال الفضي بانعكاس ضوء الشمس، فكلما لمع دونته عندها، وهكذا كانت تستطيع معرفة مقدار المحصول وتدونه لديها.
ذات يوم وبعد أن رأت تمادي الرجل ومعاونيه في سرقة المحاصيل، قررت أن تخبره بمعرفتها بالحقيقة، انتظرت حتى خرجوا من مثوة واتجهوا صوب اللبال لكيالة الحبوب، وفعلت كما تفعل كل يوم كانت تراقبهم وهم يكيلون وتدون كل شيء لديها، وانتظرت حتى عادوا حاملين أكياس الحبوب، وحين وجدت أنها ناقصة عما دونته لديها، كاشفته بالحقيقة.
صدم الرجل وسألها كيف عرفت ذلك فأخبرته أنها كانت تحصي المكيال من خلال لمعة الشمس مع كل مرة يتحرك فيه المكيال، ولم يكن أمامه سوى التآمر عليها، والقيام بسمل عينيها بالنار. (في رواية أخرى أبوها من قام بتكحيلها بالنار).
استمر الرجل في سرقة محاصيل الأرض، وفي يوم من الأيام وبينما كان هو ومعاونوه يكيلون الحبوب في اللبال ويجهزونها للتعبئة والنقل كعادتهم، مرّ النبي الخضر متنكراً في زي رجل فقير متسول، وطلب صدقةً فرفض إعطاءه، فدعا الله دعوةً حولت أكوام الحبوب (الإبال) إلى صخور وحرمهم من الاستفادة منها.
وهكذا أصبحت تلك الحبوب منذ ذلك اليوم على شكل صخور، وأما شكل القدم البشرية التي تظهر على إحدى هذه الصخور فهي “أثر قدم” الفتاة عندما كانت تلعب في هذا المكان.
***
ابنة معد يكرب الزُّبَيدي: بين فتاة مثوة وريحانة!
تنتمي هذه الحكاية إلى ما سميناه أساطير المكان، وتحديداً إلى الأساطير التي تدور حول الصخور التي تشبه أشكالاً بشرية أو ما يتصل بالحياة البشرية، وهي حكايات يتداخل بعضها مع شخصية الخضر في الثقافة الشعبية، وتكاد تتسم هذه الحكايات بشيء من النمطية، كما هو الحال مع صورة الخضر أيضاً، وأتمنى أن يتسنى لي تناول ذلك في مقال آخر قريباً. إذ علي أن أركز في هذا المقال على شخصية فتاة مثوة الشخصية الرئيسية في الحكاية التي تتميز بحدة البصر والقدرة على الحساب. وهي تلتقي بشخصيات كل من ريحانة ابنة معد يكرب الزُّبَيدي، وزرقاء اليمامة، وكاسندرا.
ومنذ البداية يبدو أن فتاة مثورة ابنة ملك أو قيل، كما يمكن أن نستشف ذلك من الحكاية التي تعكس الوضع الاجتماعي والاقتصادي لوالدها، والذي يعززه الاسم “معد يكرب الزُّبَيدي” كما يرد في الحكاية صراحةً، ذلك أن “معد يكرب” أو “معدي كرب” اسم علم يبدو أنه كان شائعاً في اليمن القديم، ويبدو أن للاسم كرب دلالة دينية اجتماعية في نفس الوقت، ولدينا عدة ملوك يحملون هذا الاسم، لكنه لا يقتصر على الملوك فقط فقد يكون اسماً للأقيال أو كبار القوم أو للقادة الدينيين.
في الواقع يخلط الرواة بين شخصية “معد يكرب الزُّبَيدي” والد الفتاة في الحكاية وشخصية عمرو بن معد يكرب الزُّبَيدي الفارس والشاعر المعروف في عصر صدر الإسلام، ويبدو هذا مثيراً للاهتمام ذلك أن المنطقة التي تروى فيها الحكاية ويقع فيها جبل مثوة هي “وادي زُبَيْد” وهي عزلة من مخلاف زُبَيْد الذي يضم أيضاً “جبل زُبَيْد، وسايلة زُبَيْد”، ومخلاف زُبَيْد جزء من مديرية-قبيلة عنس، محافظة ذمار، ويبدو أن عمرو الفارس ينتمي إلى قبيلة بني زُبَيْد في عنس، وليس إلى أي فرع آخر منها، وليس إلى زَبِيد الواقعة غرب اليمن في محافظة الحديدة كما قد يعتقد، وزُبَيْد وعنس بطنان من بطون مذحج، وعمرو هو “أبو ثور، عمرو بن معْد يكرب (أو معْدي كرب) بن عبد الله بن عمرو بن عُصم بن عمرو بن زُبَيْد الأصغر، وهو مُنَبِّه بن ربيعة بن سَلَمة بن مازن بن ربيعة بن زُبَيْد الأكبر، وهو مُنَبِّه بن صعب بن سعد العشيرة بن مذحج”. ويذكر أن أباه كان رئيس زُبَيْد، ومنه آلت السيادة والرئاسة إلى ابنيه عبد الله ثم أخيه عمرو بعد مقتله. وقابل أبا ثور، قرية جوار الجوران، وعُصُم جبل قريب من المكان، وعدد من القبائل المذكورة في سيرة عمرو مثل (بنو قيس)، و(بنو سليم)، و(بنو عامر)، تتكرر كأسماء مواضع وأماكن في المنطقة نفسها التي تروى فيها الحكاية في زُبَيْد عنس أو ما جاورها، فـ(بني قيس) هو اسم العزلة التي تقع ضمنها قرية الجوران في الرضمة، و(وادي سليم) وادٍ وقرية عند أقدام جبل مثوة من جهة الشرق، و(أهل عامر) جبل به آثار حياة يقع إلى جنوب شرق جبل مثوة.
ولا يهمنا البعد التاريخي بحد ذاته إلا من حيث علاقة ذلك بـ “موطن الأسطورة” وسياقها، إذ ينبغي القول، قبل أي شيء، إنه لا يمكن تحميل الحكاية الشعبية أكثر مما تحتمل من الناحية التاريخية، فلسنا بصدد مقاربة من هذا النوع، مع ذلك فإن الحكايات الشعبية قد تتضمن رواسب تاريخية، عوضاً عن أنها ربما تكون ذات جذور تاريخية تمت الإضافة إليها، في الواقع إن ما نسميه تاريخاً فيما يتعلق بسيرة عمرو بن معد يكرب الزُّبَيدي، ما هو سوى جزء من الإخباريات العربية التي تنتمي في الأساس إلى التاريخ الشفاهي الذي يحمل في طياته كماً هائلاً من الأساطير والخرافات، وهو حال الكثير من الإخباريات العربية خصوصاً تلك التي تناولت تاريخ اليمن والأبطال اليمنيين.
وإذن، وبحسب القراءة الأولية للحكاية ولسيرة عمرو، فإن ثمة علاقةً بينه وبين فتاة مثوة بطلة الحكاية، ففتاة مثوة ابنة معد يكرب الزُّبَيدي، الذي كان قيلاً أو ملكاً، كما تعكس الحكاية وضعه الاجتماعي، وعمرو هو ابن معد يكرب الزُّبَيدي الذي كان رئيس زُبَيْد كما تذكر الإخباريات صراحةً، فهل معد يكرب الزُّبَيدي (الأب) هو نفس الشخص، بتعبير آخر هل فتاة مثوة أخت عمرو الفارس؟
تشير الحكاية إلى أن فتاة مثوة هي الوريثة الوحيدة لأبيها، أي أنه لم يكن له أبناء غيرها، بخلاف ذلك يرد في الإخباريات أن لمعد يكرب أبناء إلى جانب عمرو، هم كبشة وريحانة وعبدالله، إنما في بعض الإخباريات سوف يرد أن عمرو هو الذي لم يكن له أبناء، يمكننا أن نفهم ذلك على أنه خلط بين الأب والابن، تماماً كما هو الحال مع رواة الحكاية الشعبية الذين لا يفرقون بين عمرو بن معد يكرب الفارس الشاعر، ومعد يكرب والد الفتاة في الحكاية الذي كان يسكن في مثوة.
مثل هذا الخلط سوف يرافقنا على الدوام فيما يتعلق بسيرة عمرو معد يكرب الزُّبَيدي، خصوصاً فيما يتعلق بأختيه، كبشة وريحانة، والأولى ترد في سياقات محدودة إذ ليس هناك الكثير حولها، وأما الثانية، وهي ذات أهمية بالغة بالنسبة لنا، فتكثر حولها المرويات بل وتتشعب وتتناقض وتضطرب، ففي حين يرد أنها أخت عمرو في بعض المصادر وسبيت، يذكر محقق الأصمعيات أنها من مراد، كان قد تزوجها عمرو، وذهب مغيراً قبل أن يدخل بها، فلما قدم أخبر أنه قد ظهر بها وضح، وهو داء تحذره العرب، فطلقها وتزوجها رجل آخر من بني مازن بن ربيعة، وهم الذين يدعون زبيد، وبلغ ذلك عمراً، وإن الذي قيل فيها باطل، فأخذ يشبب بها، فقال:
أمن ريحانة الداعي السميع
يؤرقني وأصحاب هجوع
في العقد الفريد يذكر أن الذي سبى ريحانة هو العباس بن مرداس. وقال البغدادي: إن ريحانة هي أخت دريد بن الصمة، وإن عمراً عشقها وأغار عليها. بخلاف ذلك تشير بعض المصادر إلى أن ريحانة أخت عمرو واختطفها الصمة بن بكر، وأنجب منها الشاعر دريد بن الصمة، بينما في مواضع أخرى يذكر أن من اختطفها هو خالد بن سعيد بن العاص إبان حروب الردة التي خاضها عمرو إلى جانب عبهلة العنسي، وقيل افتداها فأهدى له عمرو سيفه الصمصامة. ويظهر أن هناك أكثر من ريحانة، تتعدد المرويات حولها كما تتعد حول عمرو معد يكرب، في سيرة سيف بن ذي يزن ريحانة هي زوجة سيف بن ذي يزن وأم ولده “معد يكرب”، وكان أبرهة قد انتزعها منه.
نخلص من كل ذلك إلى أن لدينا شخصية أسطورية غالباً اسمها ريحانة ابنة معد يكرب الزُّبَيدي، فما علاقتها بفتاة مثوة: ابنة معد يكرب الزُّبَيدي بطلة الحكاية الشعبية؟ بمعنى هل هذه الحكاية الشعبية هي من بقايا المرويات المتداولة حول شخصية ريحانة الأسطورية؟
ثمة شيء مهم للغاية يتكرر في الإخباريات حول ريحانة، ويبدو ذا صلة واضحة بسياقنا، إذ يذكر أن لريحانة أخت عمرو ذكر، كذلك أن لريحانة إدراك، والذكر أي أن سيرتها شائعة ومروية ومحكية بين الناس، وأما “الإدراك” فبمعنى الكهانة والكهانة من وظائفها التنبؤ والبصيرة، ومن الواضح أن هاتين السمتين: الذكر، والإدراك، تتحققان تماماً في شخصية فتاة مثوة فهي شخصية محكية (بطلة حكاية شعبية)، وهي امرأة ذات قدرات كهانية، فما حدة البصر والقدرة على الحساب سوى معرفة كهانية من نوعٍ ما في الفكر القديم، هذه المعرفة الكهانية تتجسد في عالم الأساطير كثيراً متصلةً بمستقبل الشعوب/ الأمم، الملوك، مثلاً التنبؤ بخطر داهم تتعرض له المدينة الأمة وتحذر منه العرافة حادة البصر: البصيرة فيكذبها قومها، شيء من هذا القبيل سوف يتحقق لدى فتاة مثوة وريحانة، بما يجعلهما تكملان بعضهما في تجسيد شخصية “ابنة معد يكرب الزُّبَيدي” التي تشبه إلى حد كبير شخصيتي كل من زرقاء اليمامة وكاسندرا.
ابنة معد يكرب: من زرقاء اليمامة، إلى كاسندرا
تتمثل أبرز ملامح شخصية بطلة حكايتنا فتاة مثوة (ابنة معد يكرب الزُّبَيدي)، في كونها حادة الذكاء قوية البصر على دراية بالحساب وانتهى بها الأمر إلى سمل عينيها وموتها، وهي أنساق تحيلنا مباشرةً إلى أسطورة زرقاء اليمامة الشهيرة في التراث العربي، فأساس حكاية زرقاء أنها كانت حادة البصر، تدرك الشعرة البيضاء في اللبن وترى الراكب على مسيرة ثلاثة أيام، وباسمها سميت اليمامة التي كان اسمها “جو” أو “جوا” ويقال إن حسان تبع وجه جيشاً إليها “فلما خافوا أن تبصرهم قطعوا الشجر وجعل كل واحد منهم بين يديه شجرة. فنظرت إليهم اليمامة فقالت: يا جديس لقد سارت إليكم الشجر وأتتكم حمير. فقالوا: وما رأيت؟ فقالت رأيت في الشجر رجلاً معه كتف يأكلها ونعلاً يخصفها، فكذبوها. فصبحتهم حمير فأوقعت بهم وقعة أفنتهم إلا يسيراً”. ويقال إن حسان ظفر بها فسألها: بم كنت تكتحلين؟: قالت: بالإثمد، فأخذها وشق عينيها فرأى عروقاً سوداً من الإثمد. في رواية أخرى يذكر أن حسان لم يقتلها بل اختطفها بحسب الشريشي.
وعلى اختلاف المرويات حول زرقاء وأصلها وموطنها إلا أن لحكايتها علاقة باليمن على نحو ما، فهي تأتي مرتبطة بشخصية الملك اليمني حسان تبع وهو (ابن الملك أبي كرب أسعد)، المشهور باسم أسعد الكامل، وقد ورد اسم حسان في العديد من النقوش المسندية، بما يؤكد أنه شخصية تاريخية، وقد نسجت حوله الأسطورة الشعبية فيما يعرف ب “التبع اليماني”، وذكر عبيد بن شريه أن لحسان بن تبع الحميري، أخاً اسمه معد يكرب! سوف يستخلفه بعد وفاة أبيه ويذهب إلى الجبل ليحقق الوصية ويلتقي هناك بكاهنة. بخلاف ذلك يذكر ابن كثير في البداية والنهاية إن “حسان بن تبان أسعد هو أخو اليمامة الزرقاء وعند الطبري حسان بن تبع واليمامة الزرقاء ليست أخته بل هي أخت رياح بن مرة رجل من طسم هرب من اليمامة وأخبر حسان بخبر أخته اليمامة. وفي نهاية الأرب للقلقشندي: سبأ بن سعد صاحب الحادثة. وأما الجاحظ فيذكر إن اسمها هو عنز وهي إحدى بنات لقمان بن عاد، والبعض يجعلها ملكةً كما قيل إنها من حمير.. وقيل اليَمامة من بني جَديس بن جاثر (أو عامر) بن إرم بن سام بن نوح. وقيل: هي بنت لقمان بن عاد بن عوص بن إرم بن سام.
هذا الارتباط باليمن يصبح له أهميته الخاصة حين نجد في الأدب الشعبي اليمني شخصيةً تشبهها تتمثل في شخصية فتاة مثوة.
والتشابه بين شخصيتي فتاة مثوة وزرقاء يتمثل في حدة البصر، بل يمضي إلى التفاصيل ففتاة مثوة كانت تذهب إلى الشانفة، وهو مكان في أطراف الجبل يطل على ما تحته، وكانت زرقاء تفعل شيئاً مشابهاً، فقد جعلتها المرويات علت الزرقاء منارة، وقيل أُطماً يعرف باسم «الكلب»، فرأت القوم يتحركون، وعند الهمداني اعتلت بتلاً، أضف إلى ذلك تشابه مصيرهما المترتب على التنبؤ: (فقأ العينين، الموت)، ثم في تخليدهما بعد ذلك، إذ تسمى الشانفة باسم فتاة مثوة، وتسمى اليمامة باسم زرقاء (والمثير للدهشة أن في الرياض (اليمامة سابقاً) ثمة مكان اسمه شانفة)، وأما إذا كانت حدة البصر في حكاية فتاة مثوة ترتبط بالقدرة على الحساب، فإن هذا ما يتحقق في أسطورة زرقاء، لكن في حكاية أخرى تعرف بحكاية اليمام أو الحمام، وإن كانت تتنازعها مع شخصية أخرى، هي ابنة الخس، يقال لها أيضاً الزرقاء ويخلط الرواة بينها وبين زرقاء اليمامة، وقد نقل صاحب بلوغ الأرب عن الجواليقي ما يلي:
“قال الأصمعي سمعت ناساً يحدثون أن ابنة الخس كانت قاعدةً في جوارٍ فمرَّ بها قطا واردة في مضيق من الجبل. فقالت:
يا ليت ذا القطا لنا ومثل نصفه معه إلى قطاة أهلنا إذا لنا قطا مائة.
فاتبعت القطا فعدت على الماء فإذا هي ست وستون.
ويعقب صاحب بلوغ الأرب على الحكاية بقوله “والصواب أن صاحبة القطا زرقاء اليمامة”، وقد رواها آخرون عن زرقاء اليمامة.
وفي هذه الحكاية، حكاية “اليمام”، والتي يبدو أن لها علاقة باسم زرقاء “اليمامة”، تتضح القدرة على الحساب وحدة البصر معاً لدى زرقاء، تماماً كما في حكاية فتاة مثوة، مع اختلاف الموضوع المرئي الذي يعكس في حكاية فتاة مثوة الحياة اليومية في منطقة تمثل الزراعة، وزراعة الحبوب تحديداً، نمط الإنتاج التقليدي فيها. في الحقيقة تبدو حكاية فتاة مثوة مكثفة جداً، حتى لكأنها تتضمن أيضاً نسق التحذير من الخطر الذي يهدد القبيلة/ المدينة، والذي يتركز حوله فعل التنبؤ مع أنه لا يحضر صراحةً على النحو الذي يبدو عليه في حكاية زرقاء الرئيسية، إلا أن الرغبة في الزواج من الفتاة طمعاً في ملك أبيها، كونها الوريثة الوحيدة له، ليس سوى خطر يتهدد المدينة/ الملك، بيد أن محاولة سرقة المحاصيل تذكرنا بالهجمات التي تعرض لها جنوب شبه الجزيرة العربية الزراعي من قبل البدو، وقد تضمنت الإخباريات المتعلقة بعمرو بن معد يكرب الزُّبَيدي شيئاً من هذا القبيل، من خلال حضور الغزو المتكرر لبني زُبَيْد، في إحداها يأتي بنو زُبَيْد نبأ الغزو كما لو كان ذلك نسقاً باهتاً لتحذير لا يذكر مصدره، لكن أخت عمرو تحضر في القصة في مقابل تقاعس عمرو. كأن ذلك تحول عن نسق التحذير الذي يواجه بالتكذيب في حالة زرقاء، بيد أن الأكثر وضوحاً من ذلك هو نسق الاختطاف، هذه الحادثة المتكررة التي تتعرض لها ريحانة بصور وأشكال مختلفة وتكاد تكون حدثاً مركزياً ثابتاً في كل ما يروى عنها، ما يجعلنا نرجح أن هذا النسق يتعدى كونه نتيجةً حتمية يفضي إليها، من بين ما يفضي إليه، تكذيب الناس لنبوءة الكاهنة، إلى كونه نسقاً ملحمياً ميثولوجياً.
في الإلياذة لهوميروس تنبني سلسلة الأحداث الأسطورية على حدث اختطاف رئيسي يتمثل في اختطاف هيلين، لكن هذا ليس كل شيء إذ تمضي الأحداث في متوالية من فعل “الاختطاف”، لكن الأكثر صلةً بسياقنا هو اختطاف كاسندرا، وقبل ذلك، شخصية كاسندرا وحضورها في الإلياذة ككاهنة متنبئة. وكاسندرا هي ابنة بريام وهيكوبة، ملك وملكة طروادة في الأساطير اليونانية. لشدة جمالها وقع في عشقها أبولو ومنحها القدرة على التنبؤ ورؤية المستقبل، ولسبب ما لم تبادله كاسندرا الحب، فكان أن أنزل عليه عقوبة إزاء ذلك بأن جع الناس لا تصدقها فيما تقول من نبوءات. ولذلك وإبان غزو طروادة، حذرت كاسندرا قومها وطالبتهم بعدم إدخال حصان طروادة داخل أسوار المدينة لأن ذلك سيجلب الشر، لكن أحدًا لم يُلْقِ بالاً لما تقول. وصدقت نبوءتها، حسب الأساطير، فسقطت طروادة في أيدي الأعداء. واستعبدها أجاممنون وأخذها إلى مسيني حيث قامت كليتمنسترا وأيجستوس بقتلها.
وفيما عدا كونها لا تتمتع بحدة البصر صراحة مثل زرقاء أو ابنة معد يكرب الزُّبَيدي، فإن ما تتميز به كاسندرا هو نوع من الإدراك أو البصيرة: القدرة على رؤية المستقبل وهو نسق كهاني أكثر جلاء ووضوحاً منه في حالتي زرقاء وابنة معد يكرب، مع ذلك يقال إن حاسة السمع لديها كانت خارقة، فقد هذبت آذانها الثعابين فكانت تسمع الغيب والمستقبل. كذلك يقال إن أبولو هو من يمنحها القدرة على رؤية المستقبل، بعكس زرقاء وابنة معد يكرب الزُّبَيدي اللتين لا يذكر مصدر قدراتهما الخارقة، مع ذلك فإن الكهانة أو البصيرة هي النسق الجامع بين هذه الشخصيات، وما حدة البصر والقدرة على الحساب لدى كل من زرقاء وفتاة مثوة سوى نسق كهاني، في حالة ريحانة يذكر ذلك صراحة “كان لها إدراك”، كما أن اسم ريحانة نفسه له صلة بالكهانة في الثقافة الشعبية اليمنية. أما في الإخباريات فثمة ما يشير وإن بشكل باهت إلى حدة بصر ريحانة، أو علاقة أسطورتها بذلك، ففي قصيدة: “أمن ريحانة الداعي السميع” لعمرو التي يقال إنه وجهها لريحانة بعد اختطافها نلاحظ تركيز النص على إشارات ذات علاقة بالبصر: الإثمد الذي يسيل، بالإضافة إلى أنساق أخرى ذات صلة مثل الأبكار، وأمامة، وزحف الكتيبة.
لا يقتصر الأمر على ذلك، فالشخصيات الثلاث ابنة معد يكرب زرقاء اليمامة كاسندرا تلتقي في العديد من الأنساق تكاد تمثل بنية أساسية لحكاية كل منها، يمكن توضيح ذلك من خلال الجدول:
الكاهنة المتنبئة كنسق ميثولوجي:
يتضح من خلال الجدول السابق كيف أن شخصيتي ريحانة وفتاة مثوة تكادان تكملان بعضهما في تجسيد شخصية أسطورية واحدة أسميناها “ابنة معد يكرب الزُّبَيدي”، هذه الشخصية تكاد تشبه إلى حد بعيد شخصية زرقاء اليمامة في التراث العربي، وشخصية كاسندرا في الميثولوجيا الإغريقية. والشخصيات الثلاث تجسد مجتمعةً شخصية “الكاهنة المتنبئة” لكن تناولنا لها كان مقتصراً عليها في حد ذاتها أي منزوعةً من سياقاتها الطبيعة أو المفترضة، ونعني أن بإمكان النقاش أن يتعمق أكثر إذا ما وضعنا كلاً منها في سياقها الخاص، كاسندرا في إطار ملحمة الإلياذة، وابنة معد يكرب في إطار الإخباريات حول عمرو، وحروب الردة، وربما أبرهة، وسيف بن ذي يزن، وزرقاء في إطار أسطورة تبع اليماني، وربما أساطير أقدم، مثل هلاك قوم عاد، وانهيار سد مأرب.
يمكن لذلك أن يسلط الضوء أكثر على ملامح الأصل الأسطوري المفترض الذي ربما تكون حكاية فتاة مثوة انحدرت منه، وعلى نحو ما أسطورة زرقاء اليمامة، وبتعبير آخر فإن شخصية الكاهنة المتنبئة على هذا النحو الذي تظهر فيه في النماذج الثلاثة، قد تكون ثيمة ضمن بناء ملحمي ميثولوجي أوسع، تماماً كما هو الحال في حضور كاسندرا في الإطار الملحمي المتمثل في الإلياذة، قد يحتاج ذلك للمزيد من النقاش، وفي ضوء محاورة دراسات سابقة ذات صلة (على سبيل المثال دراسة لويس عوض حول أسطورة أوريست والملاحم العربية وأطروحة داوم حول الميثولوجيا اليمنية)، وليس ثمة متسع لذلك بالطبع، ولكن لا بد من الإشارة إلى أن ثيمة الكاهنة المتنبئة تتكرر في أقدم الأساطير اليمنية، مثل قصة انهيار سد مأرب التي يرد في الإخباريات أن كاهنة تدعى ظريفة تنبأت بذلك. وفي أسطورة هلاك عاد “أول من تبين به أنه ريح عقوبة من الله جارية يقال لها مهد فإنها رأتها صاحت، ثم صرخت، ثم غشي عليها فاجتمع إليها قومها. فلما استفاقت قامت تنوح.. ويقال: إنها أول نائحة ناحت في الأرض، فقال لها قومها ماذا ترين وماذا دهاك؟ قالت: الويل لعاد التي طغت في البلاد فأكثروا فيها الفساد. أرى ريحاً كأمثال الجبال لها لجم بأيدي رجال كأن في وجوههم شهب النار”.
يمكن اعتبار أسطورة هلاك عاد تتحدث عن قصة “أول نائحة في الأرض” مثلما يمكن اعتبارها تتحدث عن قصة تحول مس أمة أو حدث محوري ومفصلي في تاريخها، نفس الشيء يمكن قوله إزاء حكاية فتاة مثوة التي تبدو حكاية مختلفةً عن الحكايات الشعبية المألوفة، فهي لا تنتهي نهاية سعيدة، بل بحدث مأساوي، يتحقق ذلك أيضاً في شخصيتي زرقاء وكاسندرا، إذ في نهاية المطاف يتم تدمير عيني و/ أو اختطاف، و/ أو قتل/ موت الشخصية البطلة، ولكن هذا ليس كل شيء، إذ يبدو أن الحكايات الثلاث تؤرخ على نحو ما لسقوط مدن تاريخية وأسطورية عظيمة وصعبة المنال، لم تكن لتسقط لولا الخديعة أو الحيلة (السرقة، التخفي خلف الأشجار، حصان طروادة)، تحضر الكاهنة في كونها تتنبه لذلك ولكن نتيجة لتكذيبها تمضي الأحداث نحو هذه النهاية الأليمة، ليس فقط على المدينة/ السكان الذين كذبوها، ولكن على الكاهنة نفسها أيضاً، ومع ذلك فالأسطورة تكرمها، إنها تدور حول قصة خلود أو تخليد هذه الشخصية أي التحول من صيغة بشرية عادية إلى صيغة رمزية مقدسة، سواءً في شكل مادي (مكان)، أو غير مادي (العالم السفلي)، في حكاية فتاة مثوة يتجسد ذلك في صخور اللبال وما يقال إنه قدمها، أو في الشانفة التي كانت تطل منها الفتاة، وسقطت منها لاحقاً وماتت، فسميت باسمها، بالنسبة لزرقاء فتسمى اليمامة باسمها، في رواية أخرى بعد أن شق حسان عينيها (صلبها على باب مدينتها (حَجْر) وهي قصبة اليمامة). أما كاسندرا فيقال إنها عندما توفيت، تم إرسال روحها إلى الحقول الإليزيه والتي توجد في العالم السفلي والمخصص لاستراحة النفوس الجديرة.
عن”المدنية”