هدى الهرمي*
صدرت مؤخرا عن دار الكتاب في تونس، مجموعة قصصية للشاعرة والقاصة ريم القمري بعنوان «حياة اخرى لعمر مضى» وتضم بين دفتيها 15 قصة طويلة وقصيرة. وتتأبّط القصص في مجملها، حزمة من القضايا الاجتماعية، لينتهي بها المطاف إلى تسليط الضوء على العطب الأخلاقي والانحراف الفكري، وفي كثير من الحالات تتحيز إلى المرأة بشدّة، لتروي معاناتها، وترتكز على الحكايات الأنثوية ذات الأبعاد المختلفة، وتلك التشويهات المتعمدة من قبل المجتمع الذكوري والمنغلق. فقد تطرقّت بجرأة إلى جهاد النكاح في «الجسد الماخور» والهجرة غير الشرعية عبر «سباحة في البياض». وما تزال تصيب العلل وتتحسسها باقتدار، مثل انعكاسات الشبكة العنكبوتية، والعواقب الوخيمة للعلاقات المشبوهة في العالم الافتراضي، واختارت لها نموذجا قصة «واغلق الملف نهائيا».
إذ يمكن القول إن زمن الأحداث في مجمل القصص هو زمننا بكل مكوناته الفكرية وهمومه الإنسانية، بما يجري من صراع وتهميش وانتهاكات في المجتمع. كما اعتمدت القاصة في أغلب نصوصها على السرد الوجداني، فالصيغة التي تخيرها في خطابها، تنتمي إلى البوح الشاعري المتسم بالشجن والمشحون بالعاطفة، كما هو ظاهر على ظهر الغلاف، لتندلع حياة أخرى تتردد أصداؤها في المخيلة، بعد أن تتجاوز صلب الحكاية، لتسلك الوجهة السردية المواربة، بما يحقق مآرب الذات، بين الواقع والتخييل، برصد أحزان وأعباء متشعبة في الذاكرة، وهو ما اختزلته في صيغة الإهداء «الذين تسربت حكاياتهم إلى روحي، كتبتها لأتخفف من أعباء الذكريات. جدي، أبي وآخرون مروا من هنا» فلا أحد ينجو من الحنين مثلما رسمته في عنوان قصتها الثانية عشر. من هنا، استندت الكاتبة إلى الضمير السردي الأنثوي في استحضار أغلب النصوص، واذا كان البعد الذاتي يعمّق ويثري شخصياتها، كضرب من الرؤية التي تودّ ايصالها للقارئ. ولعلّ القمري كشفت عن واجهة سردية، خاصيتها توليد مفارقات زمنية، واحتمالات مفتوحة أيضا على المنظور السوسيولوجي، لتشكّل معناها وترابطها في ما بينها، رغم اختلاف الشخوص، كمجامع من ضروب الاسترجاعات والاستباقات، للتلويح بما تنشده من تعرية للواقع دون ترتيب مسبق.
«مثل كل الرجال الذين يسقطون في فعل الخيانة، تجذبهم في كل مرة أجساد شبقية جديدة، يلهثون وراء لذة يعتقدون أنهم سيصلونها في سباقهم المحموم ذاك، وهم ينتقلون عبر أجساد متعبة، مثقلة، أجساد تنتقل فوق أسرّة مؤقتة، وراء شهوة عابرة، تخلف مرارة دائمة».
استطاعت القاصة أن توزع الضوء على ما وقع من تحولات في المجتمع، والإشارة إلى أبعادها الأيديولوجية والثقافية، من خلال البحث في عالم الشخصيات، بالشق العميق وابتكار دينامية التعبير الحسيّ والوجداني، خصوصا المتعلق بالمرأة.
وتذهب القاصة إلى توظيف الجسد كثيمة استثنائية ومهيمنة في أغلب نصوصها، بحسّ دراميّ وخلاّق، وهذا النهج قوامه حضور طاغ في السرد، ليستوعب طاقة الفكرة الجنسية بصفة فاعلة ومنتجة، وغير منفصلة عن قوانين القصّ المتجانس بين مشاعر الحب والغرام والتدفق الحسيّ، ما يجعل الفكرة جزءا أصيلا من نسيج السرد وليس مقحما، بل يتراءى القصد إلى استدعائه، من قبيل الاستثمار الإبداعي داخل منظومة العمل القصصي، خصوصا على صعيد القيمة التعبيرية، التي تبدو جريئة وصريحة، لكن دون إثارة سطحيّة، وفوق الفهم الإيروتيكي. وربما ضرب أمثلة من شأنها أن تبين الأمر «كنت مثل قطعة خشب متجمدة بينهما، بلا روح، أحدق في سقف الكهف وأسمع وحوحتيهما، تمدد أحدهما وأولجه فيّ من الخلف، ثم باشرني الثاني من الأمام، وشرع الاثنان في الرهز بقوة، حين انتهيا خرجت اركض نحو كهفي منكسرة، يتناهى إلىّ أنين امى وبكاؤها». «كانت تجهل الطاقة الكامنة داخلها، اللذة النائمة تحت جلدها، النشوة الساكنة في اعضائها، استسلمت له، وكانت كلما التحم جسدها بجسده أحست انها تخلق من جديد، وتحلق عاليا خارج المكان والزمان».
وفي رصد لمعظم الشخوص، تعبر عن تمظهراتها الجنسية من خلال معطيات ثقافية وإنسانية، إذ لا يتنكّب الجسد وحده تلك الفاعلية، بل تبتكر له خلفية فكرية، وجغرافية حسيّة، باعتبار الجسد الأنثوي عنوانا لهوية المرأة، وأساس كينونتها ووجودها، لينعتق من وظائفه البيولوجية، ويتوحّد مع منطق تحرير الذات وإقامة علاقة جمالية مع الأشياء والعالم، فكان اشتغال القمري المكثف والعميق على موضوع الجسد الأنثوي لارتباطه الوثيق بقضايا المرأة «المنتهكة» والواقع الذي يستبيحه عبر تمثلات المسخ الإنساني، ليركن إلى زاوية الاغتراب والمتاهة.
وهذه الرؤى المهيمنة في المنجز السردي ظهرت جليا في قصصها «شكرا للصور» و«البصل» لاسيما في قصّة «حياة أخرى لعمر مضى» (كنت رائعا في لهفتك، أنت عشيق مثالي، لكنني امرأة معطوبة جدّا، إنّي مستهلكة. لم أملك يوما حياتي أو قراري، كان يجب أن ألتقيك لاسترجع أنوثتي، قبل أن أستسلم نهائيا لفكرة شيخوخة جسدي). لكن ما يلاحظ أن القاصة نحت منحى انهزاميا قائما على العطب والانكسار، فأغلب الشخوص مهزومة ومستسلمة لقدرها وعاجزة، لذلك كثرت شواهد الموت ومنطق الاضمحلال، بدل مواجهة الواقع وتغيير المصير.
«قبل ان ينفجر اللغم ويحوّل جسدي إلى أشلاء، كنت أبتسم للفكرة بسعادة وبدأت في كتابة الرسالة لك». «ابتسم لي في لا مبالاة، وكانت نظرته غائمة، تنهّد وقال في ما يشبه الهمس: عمر الزهور قصير يا بنيّ، ربما هذا قدرها ولا نملك حيال ذلك أي حيلة».
لكن استطاعت القاصة أن توزع الضوء على ما وقع من تحولات في المجتمع، والإشارة إلى أبعادها الأيديولوجية والثقافية، من خلال البحث في عالم الشخصيات، بالشق العميق وابتكار دينامية التعبير الحسيّ والوجداني، خصوصا المتعلق بالمرأة. لكنها عادت بنا أيضا إلى الجذور الحقيقية، وكشف سوابق الذات الإنسانية قبل أن تعتريها اللواحق وتجتثّها من عالمها الحيّ، كضرب من التحدي الوجوديّ من أجل الهوية وتحقيق الذات.
- كاتبة تونسية