شهباء شهاب*
ما كان يجب أن تخبريه أنك لا تريدين إلا قلبه، دون أي شيء آخر في هذه الدنيا. ما كان ينبغي أن تقولي له إنك زاهدة في كل شيء على الإطلاق، وإن كل شيء سيكون ناقصا دونه هو، بل ما كان ينبغي لك أن تخوني نفسك وتقفين في صفه، وتغنين له ليأخذوا كل ما يريدون، كل هذا الكون الشاسع، بكل ما فيه، ولا يتركون لي إلا قلبك، لا يمسونه أبدا، لأنه ملكي أنا وحدي.
هذا الرجل أساء الظن بك، وربما ظن أنك مجنونة فعلا، بل ربما ظن أنك امرأة مستغنية، ولست بحاجة له، ولا حتى لأي رجل آخر، فإدراكه لم يصل به للدرجة التي تجعله يفهم أنك لست بحاجة ملِّحة له، ملِّحة إلى الحد الذي يجعلك تتنازلين عن أي حاجة أخرى على الإطلاق من أجل أن تكوني فقط معه وقربه هو، وليس أي أحد آخر. فلا توجد امرأة في العالم لا تريد شيئا إلا قلب رجلها. لقد ولّى منك الأدبار فاراً، مغادراً مذعوراً، لأنك امرأة لا تشبه الأخريات. فهو لم يتعود إلا على ما مشاهده من أمه، وأخته، وقريبته، وجيرانه، وزميلاته، ومعارفه.
كيف لا تطلبين مالاً وذهباً وجواهر وعطوراً وفساتين وأملاكاً. كيف لا تريدين ما تريده جميع النساء، في جميع الأماكن والعصور. هذا الرجل لم يفهم أبداً أنك كنت تبحثين عما حرمت منه دائماً، وأنه لشدة حرمانك تطرفت في طلبه، فأصبحت مصابة بنوع نادر من عمى الألوان، عمى يجعلك لا تبصرين الألوان التي لا تحتاجين لها. حرمانك من لون الحب القرمزي الدافئ جعلك متطرفة في طلب حاجتك، حد العمى الذي يجعلك لا تبصرين ألوان الحياة الأخرى. الألوان التي حدثك هو عنها، عندما أخبرك عن زوجته التي بقي معها رغم أنه لا يحبها. فالحياة، كما يظن هو، ليست حبا أو عدم حب، فبدلا من الحب توجد الرفقة والعشرة والتعود وربما الصداقة.
الحرمان المتواصل عبر عشرات السنين من أي لون من ألوان العاطفة، هو الذي علمك الاستغناء، الاستغناء عن الألوان التي تستقتل النساء للحصول عليها، وتزهدين أنت بها حد البلاهة والعته، تماماً كما يفعل الزهاد المتعففون، تماماً كما يفعل الملوك الرومانسيون، الذين تنازلوا عن عروشهم، مقابل قلب واحد منحهم شعاع المحبة الصادقة، تماما كما فعل المجانين من العشاق الذين هجروا عقولهم وعاشوا في دنيا القلب. هل تدرين ما سيظن بك اليوم، وهو رجل الحسابات، رجل كمعظم الرجال، يظن أنك لست بحاجة لشيء، وأنك مكتفية من كل شيء، وبالتالي فأنت لست بحاجة له، وأنه لا يملك أن يقدم لك أي شيء البتة. العلاقة مع المرأة بالنسبة له عبارة عن عرض وطلب. ومن لا تطلب شيئاً، فهي امرأة مكتفية، وليس بوسع أي رجل إرضاؤها، بل إنها ليست بحاجة لأي رجل، فهذه المرأة، حسب رأيه، ليست بحاجة لرجل، وأن بإمكانها أن تعيش الحياة بمفردها، وليس للرجل فائدة في مثل هذه الحالة، هكذا عقد الظن بك، وهذا ما دار في خلده.
العمى الذي تعرضت له منذ الطفولة الغضة، هو الذي جعلك لا تلتفتين، إلا للون واحد من ألوان الحياة الكثيرة، المتناثرة هنا وهناك، عمى الألوان هذا هو الذي جعلك لا تبصرين إلا لونا واحدا، هو لون شعلة العاطفة المتوهجة الدافئة، التي لم تتذوقي حلاوتها ونكهتها، لكن هذا العمى لا يفهمه الرجال، بل لا يفهمه إلا رجل لم يعد على قيد الوجود. رجل عاش في دهور ماضية قد اندثرت، قبل أن تولدين أنت بزمن بعيد، يوم كان الفرسان النبلاء يتسابقون للفوز بقلب امرأة يهيمون بها ولهاً ووجدا. يوم كانوا يخوضون شرف المنازلة الدامية من أجل امرأة عشقها القلب، بل يخوضون غمار الحرب من أجلها.
ولّى زمنك وغادر كارهاً ما وجد من غلظة الأرواح وشحتها، ولّى بعدما علم أن الحسابات قد بدأت تجد لها موضعاً في كل بقعة ممكنة، حتى في بقعة العلاقات البشرية بين أقرب الناس، ومن هم من اللحم والدم نفسه. يقولون إن الإنسان لا يخشى إلا ما لم يألفه، وهذا الرجل قد خشي ما لم يألفه من النساء. هو الذي خبر أصناف النساء كلها، هو الذي لم يترك سمراء، أو بيضاء، في مشرق الأرض وفي مغربها، إلا واقترب منها. كيف تريدين له ألا يخشاك. أنت المتفردة التي هجرت الأرض لتعيش محلقة فوق الغمام. أنت التي لا تريدين جسده، ولا ماله، ولا هداياه. هزمتك المرأة الاخرى شر هزيمة، لأنها كانت تعيش على الأرض، تعيش الواقع الذي يعرفه ويألفه، والذي لا يخشاه. المرأة الأخرى كانت بغبائها النسوي، ومكرها الأنثوي أذكى منك أنت، المتعالية عن الأرض ومادياتها وحساباتها. هذا ما يريده تماما امرأة عادية، بحاجة ماسة لجسده، وماله، وبيته. هو لا يريد امرأة مستغنية، ليست بحاجة إلا لقلب متوهج دافئ مضاء بمحبة قرمزية مشعة، كمصباح في ليلة شتوية قارسة البرد. هذه امرأة تطلب الكثير. نعم، المحبة كثير، وكثير للغاية أيضاً. وهو ليس قادرا على تقديم هذا الكثير الذي تريدينه.
لماذا تظنين أنه قادر على ما قدرت أنت عليه. هل تظنين أن بوسع الجميع استيعاب هذه الطاقة المهولة العملاقة التي تسمى الحب. هذه طاقة ليس بوسع أي أحد أن ينوء بمشقتها وأعبائها. الحب دفق من نور، لا تدركه حواس معظم البشر، لأنها حواس محدودة وقاصرة. الحب جبل شاهق، عملاق، أَشَمّ، مترامي الأطراف جهداً وعناء ومَشَقَّة، لا تقدر جميع القلوب على حمله، ولا تصبر جميع النفوس عليه. الحب هو بناء صرح شاهق، بل هو سيل من الهموم. لا تلوميه أنه لا يتحدث بلغتك، لا تعتبي عليه قصور الحواس. فإدراكه لم يصل به، إلا لذلك الحد الذي وصل له، لذلك الحد وحسب.
- كاتبة من العراق