صدام أبو مازن
أدب الخيال العلمي” قليل الإنتاج في العالم العربي”، هكذا يقول النقاد كثيرا، لكن يمكننا القول إن رواية “العودة إلى الأرض” إحدى الروايات القليلة التي تتصدى لمسألة الأرض ومعضلات التواجد البشري من منظور مستقبلي علمي خيالي.
الراوية -التي كتبها الروائي العراقي المقيم في إسبانيا عبد الهادي سعدون وصدرت قبل أيام في طبعة جديدة عن “أبجد” للنشر بالعراق- حازت على جائزة “أفضل عمل روائي عربي خيال علمي” في الدوحة عام 2014.
وتمضي الرواية بنا إلى أزمنة بعيدة، ففي المستقبل -قبل أيام قليلة من موتها- تخبر الجدة حفيدتها “علية” بأسرار لا يكشف عنها أحد وهي عن تلك الأرض القديمة التي هجرها الأجداد وحكاياتها وأسرارها. وتُقسم “علية” لجدتها أنها ستلبي أمنية الجدة بنقل رفاتها إلى تلك الأرض.
وتحاول “علية” الكشف عن الحقيقة، لكن كثيرا من الإجراءات والممنوعات في الكوكب الجديد، تصدها عن الحديث أو البحث عن أي خبر حول ذلك الكوكب القديم. وبعد فترة يتواصل معها “روبوت” قديم هارب من “مقبرة الروبوتات المنسية”، وهو الوحيد المتبقي من الإرث التكنولوجي القديم.
مغامرة
“علية” والروبوت، يقومان بمغامرة الهروب من الكوكب الجديد والقفز في فضاء سمائي شاسع بحثا عن حقيقة الأرض القديمة، إذ تعمل الرواية على إعادة تشكيل العلاقات بين البشر، والتي أماتتها الحياة المعاصرة، ومن ثم التذكير بإرثنا الإنساني على الأرض.
وتنجح مغامرة القفز الفضائية غير محسوبة العواقب، فيصل الروبوت و”علية” إلى كوكب يشبه الخرابة بهيئة صحارى قاحلة وأرض ميتة. والمفاجأة أن “علية” وصديقها الروبوت يكتشفان وجود حياة فيها ويعملان على استرجاعها، والأمل بأن يستعيدان ذلك التاريخ القديم عبر حكايات “ألف ليلة وليلة”.
قفزة تفضي إلى الأرض مجددا من بعد شتات بين الأكوان والمجرات، لتبدأ بعدها محاولة زرع “الأرض القديمة” ببذور ونباتات جديدة. ثم يتعزز الأمل بعالم جديد عندما تبزغ أوراق أول نبتة زرعتها “علية” بمساعدة الروبوت وسكان تلك الأرض الأصلية.
ومن ناحية أخرى، تربط الرواية علاقة الحكايات بالأصل الأول، من خلال إعجاب “علية” بـ”ألف ليلة ولية”، التي ورثتها عن جدتها، والتي ستقوم باستعادتها لاحقا مع صديقها “الروبوت” الذي ستطلق عليه اسم “شهرزاد” الساردة العراقية والعالمية الأولى، كمثال على استرجاع الجمال والحس البشري من خلال الحكايات وأثرها في تشجيع النفس البشرية على الصمود وإعادة البناء مجددا.
ويبدأ النص الروائي من “رسالة رقمية تفاعلية” معلقة في الفضاء الشاسع، وبعبارة “كلنا نعرف الحقيقة، لكن لا أحد يهمه قص الحكاية”، وتبرز الأسطورة المتداولة في تراثنا الأدبي العربي، إذ تستعيد الرواية رائعة “ألف ليلة وليلة” وساردة المحكيات والقصص الخيالية “شهرزاد”.
شهرزاد في الفضاء
روبوت (إنسان آلي كان اسمه الأصلي: روبوت 00001) يصبح اسمه “شهرزاد”، أوكلت إليه “علية” إيصال رسالتها إلى الكواكب الأخرى، باعتباره آخر شاهد على “الأرض الجديدة”.
رسالة، يتولى روبوت إيصالها بطريقة رقمية كونية مبتكرة جدا، ويأمل أن يلتقط أحد في كوكب آخر تسجيله الصوتي أو يلمح الصور التفاعلية المرافقة للتسجيل، وكلاهما يتشكل منه مضمون رسالة أو حكاية “علية”، التي حرصت على أن تصل للآخرين، سواء في الأرض أو على أي كوكب.
ويُمنح للروبوت وظيفة مبتكرة لم نعهدها في وظائف الروبوتات المنجزة في زماننا الراهن، هنا أو هناك، فليس هناك من حكاية أو تاريخ في كل ما يقوم به الروبوت، فهو مجرد ناقل لحكاية كاملة تركتها صديقته “علية”، وأرادت إيصالها إلى سكان الكواكب المتناثرة في فضاء المجرة الواسعة.
ومميزات هذا الروبوت أنه عنيد لا يكل ولا يملّ، يرسل الرسالة (الحكاية) إلى أقصى مسافة ممكنة في الفضاء وعبر أقصى مسافة زمنية افتراضية متخيلة، وغاية أمله أن يلتقط الرسالة أحد ما في كوكب بعيد فيدرك حجم جهلنا ولامبالاتنا بما يجري في أماكن أخرى.
وتنشر الرواية رسالة مهمة ضمن سياق سردي يعتمد على الخيال ويجترح مشاهد وأدوات وأفكار وممارسات تدعو لمحبة الآخرين والاهتمام بهم والقلق من أجلهم، حتى لو كانوا في كواكب مجهولة بعيدة لا نراها ولا نسمع عنها.
الروبوتات والمستقبل
وتفترض الرواية أن مهمة البشرية -في زمن الرقميات والفتوحات التكنولوجية- نشر قيم التكافل والحب مع كل شيء في المجرة، فليس منطقيا أن نهتم بأنفسنا فقط، بل علينا أن نهتم بالآخرين، فكلنا ننتمي لبعضنا، ولا أمل بالخلاص والنجاة واستمرار الحياة إلا بمساعدتنا لبعض والبقاء واحدنا جوار الآخر.
ويقدم عبد الهادي سعدون -في “العودة إلى الأرض”- رواية خيال علمي تبتكر سياقاتها وتنجز يومياتها في المستقبل الذي يشهد ثورة الروبوتات، وذلك عندما يصبح الروبوت هو البديل الحتمي للإنسان في عمارة الأرض وحراثتها وتنمية الحياة عليها.
وتبرز الوظيفة الآلية بديلا للوظيفة المعتادة في كوكبنا الآن، إذ تنتقل وظيفة “شهرزاد” الساردة الشهيرة في فن المحكيات والقصص الخيالية إلى الساردة الرقمية الملغزة بروحها الجديدة، ومن ثم تنتقل وظيفة الروبوت التي عرفتها البشرية في صناعة الآليات والمركبات وغيرها إلى وظيفة في الفضاء ومهمة تبدو مستحيلة وصعبة التنفيذ والتحقق على الأرض.
وعلى الأرض، لطالما تشبثت “شهرزاد” بالأمل، كي تضمن استمرارها حية، ما دفعها لابتكار قصة جديدة إلى أن بلغت ألف حكاية وحكاية، شكلت -لاحقا- محتوى كتاب القصص الخيالية العربي الشهير “ألف ليلة وليلة”.
وفي الفضاء البعيد الذي ابتكرته رواية عبد الهادي سعدون “شهرزاد” أي “الروبوت”، توجب عليه أن يستفيد من إصرار “شهرزاد” الأصلية، فأخذ يتسلح بالأمل بكل ما أوتي من صبر وبسالة، عندما واصل كل صباح إرسال مليون رسالة جديدة، على أمل أن يلتقط أحد الرسالة في كوكب آخر، فيسهم بدوره في حماية الأرض من الأخطار لضمان ديمومة الحياة عليها.
ويُعرف “الراوي” الروبوت بأنه لم يتلق جوابا برغم انقضاء السنين، غير أنه لم يفقد الأمل، تماما كـ”شهرزاد” في “ألف ليلة وليلة”، فلا همّ له ولا شغل غير إيصال ما بلّغته به “علية”، صديقته البشرية. إنها حكاية لا يمكن أن تُنسى أو يتم مسحها أو تتعرض للتلف والاندثار.