الوحدة نيوز/متابعات:
ليس سؤال الآخر، أو الآخرين، بموضوع هامشي في الفلسفة الأوروبية المعاصرة، بل يكاد يُعَدّ اليوم من بين المشكلات الأساسية التي تتوقّف عندها مدوّنات فلسفية أساسية، وتحت زوايا مختلفة، تمتدّ من الأخلاف (كما هو الحال عند إيمانويل ليفيناس) إلى الفينومينولوجيا (برنارد فالدنفلس) وصولاً إلى التفكيكية (جاك دريدا وجان لوك نانسي).
على أنّ الاهتمام بالآخر، بالشكل الذي يأخذه اليوم، لم يكن واحداً من ثيمات الفلسفة الأساسية، بل تأخّر ظهوره بشكل لافت حتى القرن التاسع عشر، مع نيتشه، ومع اكتشاف فرويد للاوعي ودور الآخرين في الذات، وقبل كلّ شيء مع ازدهار الأنثروبولوجيا والإثنولوجيا كحقلين جديدين وأساسيين، في ذلك الوقت، فيما يخصّ تزويد الحقل البحثي بالإشكاليات والثيمات الجديدة.
بكتابه “معرفة الآخرين”، الصادر حديثاً لدى منشورات “سير” في باريس، ينضمّ الباحث الفرنسي في الفلسفة، فريديريك فروتو دو لاكلو، إلى قائمة المشتغلين بهذه المسألة. لكن بخلاف ليفيناس ودريدا وفالدنفلس ونانسي، الذين يتناولون الآخر من وجهة نظر فلسفية بحتة، فإنّ دو لاكلو يطرح الموضوع على أرضية تجمع بين الفلسفة ونظرية المعرفة والأنثروبولوجيا والإثنولوجيا.
وتتلخّص أطروحة مدرّس الفلسفة في جامعة “باريس الأولى بانتيّون ـ سوربون” بالقول بأنّ التفلسف ليس حكراً على الغربيين فحسب، بل إنه شيء مشترَك بين البشر، تُثبته دراساتٌ (لطالما جرى تجاهُلها) في الإثنولوجيا وعلم النفس وفلسفة العلوم.
وللتدليل على هذه المقولة، يعود المؤلّف إلى أعمال الأنثروبولوجية الفرنسية (شبه المنسية) جاكلين رومغير إيبرهارت (1927 ـ 2006)، التي وضعت كتباً حول قبائل البانتو جنوب الصحراء الأفريقية، وأعمال الإثنولوجي أندريه فارانياك حول أساليب وطُرق تفكير مختلفة عن تلك السائدة، إضافة إلى كتابات الفيلسوف واللاهوتي الفرنسي إدمون أورتيغ (1917 ـ 2005) حول منطق الاكتشاف العلمي انطلاقاً من إقامة له في القارة الأميركية.
ورغم نُبل المسعى الذي يحرّك كتاب دو لاكلو، إلّا أن القارئ يُفاجأ بأن “معرفة الآخرين”، كما يقدّمها لنا، لا تكاد تختلف في بُنيتها عن تلك المعرفة التي كان يقدّمها أوائل الأنثروبولوجيين، حيث يُدير الخطاب ــ من ألفه إلى يائه ــ باحثٌ أو كاتب أو مفكّر غربيّ يحدّثنا، بلغته ومن وجهة نظره، عن “إمكانية” وجود فكر وفلسفة عند “الآخرين”، من دون تكبّد عناء دراسة هذا الفكر بشكل مباشر، أو محاورته فلسفياً، من دون المرور بملاحظات “المختصّين” من إثنولوجيين وأنثروبولوجيين.