يحيى اليازلي
عبدالمجيد التركي يجيد الكتابة الشعرية بعبقرية. وفي مجموعة “كتاب الاحتضار” يقدم نفسه كموميائي قديم.. لديه معرفة بأسرار الحرف، ويبدو بملكة لا تضاهى في انتزاع اعترافاته الشعرية، ويكاد بها يسير على الماء. ويبدو بثقة الراهب بلا توجس. والكتاب هو المجموعة الشعرية الثالثة للشاعر عبد المجيد التركي، وقد صدر له غيره مجموعتان شعريتان: “اعترافات مائية” و”هكذا أنا”.. تحتوي هذه المجموعة على عدد من القصائد الجميلة، توزعت على أكثر من مائة صفحة صغيرة بعناوين مدهشة منها:
أينا يسكر الآن.. احتضار البخور.. أي فزاعة تطرد اليتم عني.. زمهرير المقابر.. عزرائيل.. خواتم مغمورة بالبكاء.. جنة النعيم.. ولادة أخرى.. أي يوم ستنوي اغتيالي.. واحد متعدد.. أرى الآن ما لا يُرى.. كل شي تلامسه شفتاها يطير.. سجادة العارفين.. قيامة خارج الفهرس.. سأفكر بالموت.. عملية قيصرية.. ورقة من تقويم الذهول.. ما أزال حافياً.. أوهن من قلب العنكبوت.. مليء بالفراغ.. جنازة مؤجلة.
العناوين مرتبطة بالعنوان الرئيسي إلى حد كبير، وسياقات النصوص تؤدي إلى وحدة الموضوع الذي يوازي- كما سنرى في القراءة- ما وراء الحواس. وهناك ارتباطات في ما بينها وانسجام وتناسق كبير في العمل، وفي الترتيب والشكل والمضمون والأفكار تدل على أنه مشروع شعري متماسك.
ويتجلى في “أينا يسكر الآن”.. مسوياً ببراعة بين صدفي عالم السكر وعالم السكرات… لكنه في قصيدة “احتضار البخور” يحاول تطويع اللغة الفصحى لمدلولات عامية، وجعلها قابلة لأن تبدو منتجاً نخبوياً، كأنما يحدِّر كلمات الطفولة من أعالي الكلام:
“كان سِنّ الحليبِ
إذا زعْزَعَـتهُ السَّكاكرُ
نتلو عليه تعاويذنا في خشوعٍ
ونلقي به صوب شمسٍ تقهقه من حلمنا:
هاكِ أيتها الشمس سنَّ حمارٍ
خذيه إلى حيث لا يعرف الحبُّ
سوسَ القلوب
ولا يعرفُ الوردُ زيفَ الندى
قايضينا بسنِّ غزالٍ
فإن الفناء يحاصرنا”.
ويعزز هذا النص ما لاحظناه في “أينا يسكر الآن”؟ أن خياله البعيد عائد إلى محفزات من ذاكرة الطفولة، مما يدل على شاعرية مبكرة.. وتبدو رحلته في ذاكرة الطفولة أجدى محفزات الخيال، مع أن منطق الاحتضار لا ينسجم مع منطق الخيال الطفولي الباذخ في الأمل.. فالشاعر في لحظات شعرية احتضاره يبدو كأنما يعيش عمراً في الواقع.. علينا إذاً لكي نفهم أن نقرأها بتركيز.
تأملنا لفلسفة الاحتضار لعبد المجيد التركي من منظور نسبية اللحظة الشعرية لمفهوم الاحتضار في مخيلته وقدرة تحكم عقله الشعري على إدراك حركته والتحكم في مساره.. ويثبت أن لديه عبقرية تجمع بين خيال الشاعر وعلوم الشعر، وأن ثمة نسبية خاصة للحظة الاحتضار تتجاوز الحواس ولا تخضع لظرف ولا لسلطة، لأن شاعرها يبدو فوق العبقرية وشاعريتها فوق الخيال.
*أينا يسكر الآن..؟*
لا أعي كيف كنت أزيف صدق المرايا
وكيف امتلكت تعابير وجهي،
كنت تعلم أني أخاتل جيبكَ
لكن كفيك أدفأ من شعلة العيد
أسرع من دمعة في عيون الثكالى
وأنجع من جرعة البنسلين.
يبدع عبد المجيد التركي في تذكر مواقف الطفولة وصياغتها بنفس الحداثة التي كانت تدهشه ساعة حدوثها، ويصور كيف كان يتفاعل مع الواقع بخيال طائر.. سنلاحظ في نصوص هذه المجموعة قدرته على التذكر وتفاعله مع ما يتذكر بجناحي ضوء.. فهو ما إن يلتقط ذكرى ما مميزة حتى يسرج مخيلته معها، تاركاً إياها تخلق مشاهد متخلِّقة من تلقاء نفسها، مع حرصه على ألَّا تشرد عنه بعيداً..
“كنتُ أزيفُ صدق المرايا”..
هنا يحكي عن قدرة على سحر يفوق التصديق…
يتميز الشاعر عبد المجيد التركي بقدرته على التخيل إلى مدى بعيد، ودون أن يشرد.. محافظاً على فكرته، ممسكاً بها كبالون في يد طفل، كإمساك طفل يد أمه في الزحام. مع السيطرة على مسار السياق.. كما أن قصيدته متنوعة الأفكار كثيفة الصور، متعددة العتبات:
“إنَّ بي خوفَ سُكَّرة”..
لاحظ كيف صور خوف السُّكَّرة أو خوفه في السكرة.. متقمصاً إياها كأنها ستلعقه.. أو متقمصة ذاكرته كأنه سُكَّرة في خيالها.. وفي نفس الوقت يرسم هالة اللذة المنبثة التي يشعر بها وهو يلعق لحظات التذكر تلك.. يقولها ويخشى أن تخطفها لحظة عابرة أثناء صياغته لها، فهو يخشى أن يدفعها في بخار هجسه بعض من توجسه:
“إن بي خوف سُكرة لا تجيد السباحة”..
“أحزان سنبلة في مهب العصافير”..
“أحزان فمخاوف..!! فنوبات بكاء عنيفة”..
“أي المناديل يا أبتِ سوف تكفي لتجفيفنا”؟..
في البداية ينفي الشاعر حدوث حالة وعي شعري يستهل به القصيدة غير “لا أعي”، التي تنم عن حالة وعي تفضي إلى اعتراف هادر وحالة انهيار بكائي في مشهد أشبه بالوقوف على الأطلال.. لكنه اعتراف المنتحب الذي لا يقدر على التظاهر بشيء سوى اللا تظاهر في عالم الحق وأنت على أهبة الاستعداد للنزول من على سلم الحقيقة للقاء شبيه الروح، تبتدره بكلمات معلقة على كعبة القلب:
“كنت تعلم أني أخاتل جيبك
لكن كفيك:
أدفأ من شعلة العيد
أسرع من دمعة
في عيون الثكالى
وأنجع من جرعة البنسلين”.
إنني سألتقي بالأب الذي كان يقابل إساءاتي الطفولية بالإحسان، ومخاتلاتي الشريرة بالإغضاء.. ذي الكف الحاني، رهيف الفؤاد، دواء الأدواء:
“ترى أي شي يبرر صيغة (نا)
غير ذات تقاسمها النعش والقبر
والاشتهاءُ
وأيدٍ مهللةٌ
تتداول سوق الجنازة
ترجو من الله أجر تزاحمها
في مظاهرة كان فيها المدى
يتفصَّد بالطل والأرجوان”.
مشهد مهيب لحالة التشييع الجنائزي المهول الأشبه بالمظاهرة الكبيرة الذي يشارك فيه الموكل بالشاعر ذاته بعد انسرابه من جسده كالضوء.. كان المدى يتفصد رشاحاً من شدة الزحام وكأنه بهو صالة قريبة السقف، إلا أنها تعبق بالأرجوان:
“أنا الآن مستوحش مثل رأس الحسين،
سآوي إلى حفرة
فالجبال تفتش عن عاصم من أزيز الرصاص”.
أنا الآن كمقطوع رأسي، عائم في أمواج متلاطمة من الثوران الآسي والأسى الناعي.. كرأس الحسين أشعر بوحشة شديدة لنفس الدواعي الحسينية.. الرأس الممتلئ به روحي، المتداعية به جسدي.
سأشرب نخب التراب.. هنا، وبعد تلك الوحشة المتشبعة بسيرة الأشلاء المتخللة في حدقات الرواة المضمخة بها أوداج التاريخ يصبح الارتماء في حضن التراب هو الوسيلة الوحيدة للشعور بالأمان، حيث يمكن احتساء كأس من صلصال يعدل المزاج:
“ويمشي الموكَّل بي تحت نعشي حزيناً كأمي
يردد كالناس ما تقتضيه المصائب،
ينسى خميرته في دمي
ثم ينسج لي
من محاسن غيري قميصاً
ويرحل صوب مواعيده
ليس يكذب
كالأصدقاء”.
ينسى خميرته في دمي.. هذه الجملة من الجمل التي أريد التركيز عليها في قراءاتي الأخيرة للشعر.. حيث تحضر بجدلية رياضية الهندسة الشعرية والفن المعماري الوجداني.. وحيث نحن نلتمس فيها التأثير العالي في ذهن المتلقي، والذي يأخذه إلى تصور مناسب.. فالخميرة التي ينساها الموكل في دم الشاعر تعبر الأفهام كلاً حسب قوته الاستعدادية.. أنا أفهم أن خميرة الموكل شيء من ضوء، هذا الضوء يشكل إضاءة عميقة إلى آخر النفق.
وفي حين يتصور الناس سكرات الموت شفرات سكاكين تقطع الأوداج وتنتزع النفس تاركة آلاماً عنيفة في الجسد، إلا أنها مجرد نخب كأس تشرب، يعقبها ثمالة أشبه بثمالة الخمرة كان يرتقب تقريبها الشاعر بفارغ التعب:
“كنت أراقب سكرته كارتقاب العشار لميقاتها
كارتقاب السجين
لشمس الخلاص،
أناديه:
يا آخر الميتين أفق..
أينا يسكر الآن”؟
يتقمص الشاعر الموكل ويبادله الدور لكي يؤدي المشهد المعبر عن الحالة الاحتضارية ذاتها بدقة.. صار الموكل به هو من يتعاطى الكأس الذي يقدمه له الميت.. وصار الموكل به يتقمص دور المشيع في مشهد درامي بديع.. أليس الموكل به قد نسي في دم الشاعر خميرته.. وبدا الشاعر وقد أخذ من تلك الخميرة لا بنية السامري، إلا أنه أخذ قبضة من أثر الرسول ليصنع من ذلك الأثر سحراً له احتضار.. ثم يتساءل محتضراً: “أينا يسكر الآن”؟.. هنا شاعر يستطيع تكثيف العبارة الشعرية، وفوق ذلك لديه قدرة عالية على تفجير طاقات الخيال في صور شعرية داخلها صور شعرية أثرى باطنة، في عبقرية خلاقة لا يجيدها إلا شاعر قادم من معبد فراعنة القصيدة.
الشاعر عبد المجيد التركي يكاد يقول: بصرت بما لم يبصر به الشعراء.. ويملك القدرة على أسطره القصيدة كموميائي سبأي قديم يقدمها كمومياوات محاطة بالأسرار، يحار حولها الباحثون بكل آلات الاستقصاء الحديثة فلا يستطيعون فك شفراتها:
“يا عنباً عتقته المشيئة في لحظة
لا حساب لها في تقاويمنا،
ها أنا دون شك
أفارق
في غمرة السُّكر جلدي
كأني أجنحة من ضياء
وألمح ظل الموكل بي مستريباً
يعقم مشرطه
من ذنوبي البريئاتِ.
يقطع بيني
وبين أصابعه المطمئنات
خيط الذهول”.