لا يزال حقل المستقبليات متروكاً في الثقافة العربية، وكأنه ترف فكري، فلا يبدو أن السواد الأعظم من المشتغلين بالفكر عربياً منشغلون بقضايا المستقبل ومفاهيمه. يسري ذلك لدى الباحثين ضمن الفلسفة حيث من النادر أن نجد انشغالاً جدياً بالمستقبل.
يأتي كتاب “مدخل إلى فلسفة المستقبل” الصادر مؤخراً عن “الدار المصرية اللبنانية” للباحث المصري مصطفى النشار ليعقد ما يشبه التصالح بين الدراسات المسقبلية والفلسفة.
حول ما يجمع بين الفلسفة ودراسة المسقبل، يقول الباحث المصري في حديث إلى “العربي الجديد”: “إن الفلسفة بالأساس تأملات في الواقع الحاضر لرسم صورة أكثر تطوراً وتقدماً في المستقبل وخاصة في مجال ما نسميه بالفلسفة التطبيقية في مجالات السياسة والاقتصاد والمجتمع والبيئة ..إلخ.
والمعروف أن للفلسفة ثلاث وظائف؛ التفسير والتبرير والتغيير، وهي وظائف منوط بالفيلسوف القيام بها في أي عصر كان. ولست شخصياً مع الوظيفتين الأولى والثانية فليست من مهمة الفيلسوف حقيقة تبرير ما يحدث في الواقع أو التوقف عند مجرّد تفسيره إذ ربما يكون علماء السياسة أو الاجتماع أو الاقتصاد أو البيئة أقدر من الفيلسوف على ذلك ومن ثم تبقى المهمة الأكثر أهمية للفيلسوف هي النظر إلى ما ينبغى أن يتطوّر إليه الواقع المعيش، ومن هنا قيل أن الفلسفة بحث في ما ينبغي أن يكون وليس في ما هو كائن.
وعلى ذلك تكون المهمة الأسمى للفيلسوف هي النظر في المستقبل، وليس معنى النظرة في المستقبل إهمال الحاضر ففي اعتقادي الشخصي أنه لا إصلاح ولا تقدم في الحاضر إلا من خلال التفكير في المستقبل وكيفية التفاعل مع التغيرات والتطورات المتوقعة فيه في كل الاتجاهات وعلى كافة الأصعدة”.
في تقديم الناشر لكتاب “مدخل إلى فلسفة المستقبل”، نجد إشارة إلى كون جائحة كورونا تعيد أسئلة من قبيل هل يوجد تحوّل حضاري خطير نحن على أبوابه؟ فكيف تعالج الفلسفة سؤالا كهذا؟ يقول النشار: “الفلاسفة هم من يسألون قبل غيرهم عن صورة المستقبل ولا شك أن جائحة كورونا بما ترتب عليها من ظروف وأزمات وجودية
خاصة في كبريات الدول المتقدمة سيكون لها تأثيرات واسعة على كل ما يحيط بالإنسان والنظم السياسية والاجتماعية والصحية في هذه الدول إذ أثبتت هذه الجائحة فشل النظم الصحية في هذه الدول كما أثبتت عدم قدرة هذه الدول بسياساتها الليبرالية في البداية على إجبار المواطنين على الإجراءات الاحترازية الصارمة في الوقت الذى نجحت فيه الدول ذات النظم الشمولية أو شبه العسكرية في السيطرة على الوباء وحماية مواطنيها ثم واجهت
تلك الليبرالية المتقدمة وخاصة الغربية منها صعوبات في إجبار مواطنيها مثلا على أخذ اللقاحات في الوقت الذي غابت فيه دعاوى المساواة وحقوق الإنسان وعدالة الإنتاج وتوزيع اللقاحات التي كثيرا ما كان يتغنى بها هؤلاء حيث بدأت أخلاقيات التنافس والصراع والأنانية في الانتشار بدلا من سياسات التعاون والمشاركة.
باختصار بدأت سوءات الرأسمالية البغيضة في الظهور حينما نجحت هذه الدول الأكثر تقدما في إنتاج اللقاحات المضادة لكورونا واستأثرت بها وحينما نجح الآخرون كالصين وروسيا في إنتاج لقاحات أخرى لم تعترف بها هذه الدول. إذن لقد تم تسييس الوباء وطرق التخلص منه”.
يضيف: “إن الفيلسوف معني بسؤال المستقبل بشأن هل تبقى هذه النظم السياسية والاجتماعية والصحية والاقتصادية قائمة على حالها على أم من الضروري إعادة النظر فيها؟ وفي أي اتجاه ستتطور هذه النظم؟ لقد اتجهت بنا هذه الجائحة إلى نوع من التفكير السياسي المختلف، إذ لم تعد الليبرالية المطلقة بنظامها الديمقراطي هي النظام الأمثل! ولم تعد الليبرالية الاقتصادية وحرية التبادل التجاري كذلك، إذ أثبتت الأزمة أن كل دولة انكفأت على نفسها لحل مشكلات مواطنيها دون اهتمام بما يجرى في العالم”.
مصطفى النشار
عُرف مصطفى النشار في إصداراته الأولى باهتمام بالفلسفة القديمة، اليونانية والعربية، فهل يمثّل الكتاب الأخير نقلة في الاهتمامات؟ يجيب الباحث المصري بالقول: “كانت مؤلفاتي الأولى حول الفلسفة القديمة عموماً نظراً لأن هذا هو تخصّصي الدقيق حيث كانت رسالتي للماجستير والدكتوراه في فلسفتي أفلاطون وأرسطو حول الألوهية عند الأول وحول نظريتي المعرفة والعلم عند الثاني، وكان من الطبيعي في إطار ذلك أن أهتم في ذات الوقت
بأصولهما الشرقية وبالشروح العربية على فلسفتيهما إلى جوار كل ما كتب عنهما في التراث الغربي. وقد اتسعت دائرة اهتماماتي بعد ذلك منذ كتبت “فلاسفة أيقظوا العالم” الذي نشر لأول مرة عام 1986 بعد حصولي على درجة الدكتوراه مباشرة للرد على سؤال جدوى الفلسفة ومدى ارتباطها بالواقع ومدى تأثير آراء ونظريات الفلاسفة في حياة الإنسان.
وقد قادتني هذه الاهتمامات لأمرين كانا في غاية الأهمية؛ أولهما أنني اهتممت بدراسة الفلسفة في الشرق القديم ومن ثم أمكنني دحض المعجزة الغربية في نشأة وتطور الفلسفة، وقد ساهمت كتاباتي في هذا الاتجاه في أن يصبح تخصّص الفكر الشرقي القديم ودراسة فلسفات الشرق ضمن اللوائح الدراسية في مصر والعالم العربي.
وثانيهما أنني اتجهت إلى الاهتمام بالفلسفة التطبيقية التي تُعنى بدراسة مشكلات الواقع مستفيدة بالطبع من التأملات والنظريات الفلسفية المجردة وقد كانت العلامة الفارقة في هذا التوجه المؤتمر الدولي الأول الذي عقدناه في قسم الفلسفة بآداب القاهرة عام 2004 ونشرت أبحاثه عام 2005 في كتاب “الفلسفة التطبيقية: الفلسفة لخدمة القضايا القومية في ظل التحديات المعاصرة ” وكذلك في المؤتمر الذي عقد بالمجلس الأعلى للثقافة عن ” الفلسفة التطبيقية وتطوير الدرس الفلسفي” الذي ترتب عليه صدور كتاب ضخم تضمن أبحاث المؤتمر مضافاً إليها أبحاث أخرى ذات صله بعنوان “الفلسفة التطبيقية وتطوير الدرس الفلسفي العربي”.
يضيف محدّثنا: “وبالطبع وفي ظل هذا التوجه نحو الفلسفة التطبيقية بدأت الاهتمام بكل فروعها من فلسفة التاريخ والحضارة إلى الفلسفة السياسية والاجتماعية حتى الفلسفة البيئية وفلسفة القانون.
والاهتمام مؤخراً بفلسفة المستقبل يسير في نفس الاتجاه حيث إن اهتمامي بقضايا المستقبل بدأ منذ عام 2000 حينما صدر كتابي “بين قرنين: معا إلى الألفية السابعة” ثم كتاب “ما بعد العولمة: قراءة في مستقبل التفاعل الحضاري وموقعنا فيه”. وقد حاولت بعد ذلك وفي هذا الإطار أيضا تجاوز المشاريع الفكرية العربية النظرية بمشروع مستقبلي تطبيقي في كتاب “الأورجانون العربي للمستقبل”.
وجاءت الكتابات التالية التي كان آخرها “مدخل إلى فلسفة المستقبل” محاولة لدفع الدرس الفلسفي العربي نحو اتجاه جديد وهو “فلسفة المستقبل” فقد أصبح لديّ اعتقاد راسخ بأن التقدم الحقيقي يبدأ ليس من التفكير في الحاضر برؤى ماضوية تراثية بل التفكير فيه من منظور قراءة ما سيحدث في المستقبل، فالانشغال بسؤال المستقبل هو الذي به يمكن تطوير الحاضر وحل إشكالاته”.
وحول اهتمام الباحثين العرب في مختلف المعارف بالمستقبل كقضية وكمفهوم، يقول النشار: “الحقيقة أنني لاحظتُ أن معظم كتابات المفكرين العرب مهتمة بقضية التراث والتجديد أو قضية الأصالة والمعاصرة والإشكالية التى دارت وتدور حولها كتاباتهم هى كيف نتقدم مستلهمين تراثنا الفكري من ناحية ومستفيدين في ذات الوقت من آليات التقدم الغربي والتجربة النهضوية الغربية من ناحية أخرى.
وكان السؤال الذي يشغلني كما يشغل الجميع الآن هو: لماذا لم تنجح هذه الرؤى الفكرية التى تجددت وتكرّرت على مدار قرنين من الزمان في إحداث التغيير المطلوب؟ وكانت إجابتي التي عبرت عنها في كتابات كثيرة تبلورت في “الأورجانون العربي للمستقبل” أننا وقعنا أسرى لأوهام أربعة هي: وهم التوفيق بين الأصالة والمعاصرة أو بين التراث والحداثة، وهم المعجزة الغربية قديما وحديثا، وهم الديمقراطية كنظام سياسي أمثل، ووهم التنمية والتقدم بمفهومه الكمي الغربي. وطالما ظلت هذه الأوهام مسيطرة على عقولنا سنظل ندور في حلقة مفرغة محاولين تقليد التقدم الغربي دون جدوى!
ومن هنا أرى أن سبيل التقدم يبدأ من تفكيرنا المستقل في مستقبلنا نحن وبإمكاناتنا نحن بدون السؤال ماذا أخذ من التراث وماذا آخذ من الآخر؟ فالسؤال هو كيف أتغلب على ما يواجهني من تحديات وماذا يقف في طريقي من معوقات إن تخلصت منها بدأت مسيرة التقدم المستقل.
وقد عبرت عن كل ذلك في كتاب الأورجانون فحددت عشر معوقات تعيق التنمية والتقدم العربي ثم حددت خمس ركائز للنهوض. وربما يكون الوقت مناسبا الآن، وخاصة في ظل ما يعيشه العرب ومفكروهم من تحديات طاولت الوجود العربي نفسه، أن تتضافر الجهود للتفكير في كيفية مواجهة تلك التحديات من منظور: أن ممكنات المستقبل لا تزال في يدنا ولا بد من إدراكها والعمل بموجبها بعيداً عن الخوف من سطوة الآخر وعدوانيته وبعيداً عن تقليده والسير مغمضى العينين في تبعيته”.
هذه المواضيع غير المعتادة ضمن الكتابات الفكرية هل تجد قبولاً حسناً لدى الناشرين أم العكس أصح؟ يجيب النشار: “هذا أمر يُسأل عنه الناشرون أنفسهم لكنني أعتقد أن الأعمال الفكرية الجادة أيا كان توجهها تكون محل ترحيب من الناشرين الحقيقيين الذين يعتبرون أن النشر رسالة للتنوير والتقدم وليس مجرد ركض وراء مكاسب مادية. وليس أدل على ذلك من أن كتاباتي الأخيرة عن المستقبل عموماً والمستقبل العربي خصوصاً قد وجدت ترحيباً من “الدار المصرية اللبنانية” التي نشرت لي بلا تردد “الأورجانون العربي للمستقبل” و”مدخل إلى فلسفة المستقبل”. والبقية تأتي، فهناك كتابان في ذات السياق هما “حياة القرن الحادي والعشرين” و”في الحداثة والتحديث: مفاهيم وتطبيقات” أعدهما للنشر الآن”.