النظام الجديد يمنعُ الغش وتسريب الامتحانات.. ولكن العملية التعليمية بائسة..
لم يمُتْ أينشتاين قبل أنْ يتركَ للعرب، واليمنيين خصوصًا، الحكمة العظيمة التي تقول: (إذا كان المعلّم يأخذُ أقل من السبّاك فلن يكون هناك معلّم أو سبّاك أو مهندس..)، أما الخصوصية اليمنية بعد سنواتٍ من التدمير والصراع والأزمات والاحتراب وانقطاع المرتبات بالباطل قبل الحق، وتأثير ذلك في المعلمين خصوصًا، فقد جعلني أُحاكي أينشتاين، ولكن بدماغٍ مرتعش، فأزيدُ من عندي بأنّ المعلّم اليمني فقَدَ هيبته،ٍ وحلّت عليه حكمة غضبٍ مُضَرِيَّة قاسية (فاقد الشيء لا يعطيه).
وأما وشباب وصبايا اليمن خاضوا، ويواصلون خوض معركة امتحانات الشهادتين الأساسية والثانوية، فإنّ في الحال ما يجعلني أُسارِعُ إلى القول: اتبعوني…
تلقّت خريجة الترجمة، التي لا تعملُ في مهنة التدريس، مكالمة هاتفية من مديرة مدرسة بنات، تقولُ لها فيها:
تعالي الآن، وبسرعة.. سنوزِّعُ بعد قليلٍ امتحانات الإنجليزي، وليس عندنا مُدرِّس إنجليزي يتولى قراءة الأسئلة على الطالبات.
أدخلتني هذه المكالمة في دوامة من (الحيص والبيص) التعليمي، وتساءلتُ كيف حصلت الطالبات على تعليم المادة خلال عامٍ دارسي كامل ليصلَ الحال درجة عدم وجود من يقرأ أسئلة الامتحان..؟
وكانت الإجابة أنّ العجز في توفير معلّمة لهذه المادة حلّ على الطالبات من بداية العام الدراسي رغم المساعي الإدارية الطيبة التي غطت العجز بمن يملأُ الفراغ في شهرين من التدريس المكثَّف نهاية العام..!
(كتبَ الله أجر كلّ معالج للقصور..)
في تلك الأثناء كنتُ أكملت قراءة شكوى أستاذة تقول فيها، وهي تصفُ أسئلة العام الدراسي الجاري:
(مسائل خاطئة، وطباعة غير واضحة، ونماذج حظ يانصيب، وبعضها يستعصي على الحل..)، وهي شكوى تحتاجُ لمن يتلقّفها ويُحقق فيها بدماغٍ مفتوح على الشمس والهواء..
ومن عدم الإنصاف انتقاد صور النقص والعوار في تفاصيل العملية التعليمية والامتحانية دون الإشارة إلى ما قاله لي معلمون مِن أنّ الشكل الجديد لامتحانات الشهادات العامة للتعليم الأساسي والثانوي اعتمدَ على عشرات من نماذج الأسئلة داخل اللجنة الامتحانية الواحدة، الأمر الذي (فَرْمَلَ) عمليات الغش الفاضح التي كانت تظهر في تبادل أوراق الإجابة دون أيّ حمرة للخجل، والمعنى أنّ الامتحانات بصورتها الجديدة تدفعُ كلّ طالب للإجابة على أسئلة لا تُشبه أسئلة رفاقه، لأنّ ورق الأسئلة تحملُ اسم الطالب وصورته، ما يمنعُ استفادة الغشاشين من فرص تدوير الأوراق في ما بينهم، وهو ما يضمنُ إلى حدٍّ بعيد مبدأ تكافؤ الفرص.
وأنْ يهتدي القائمون على امتحانات الشهادة العامة إلى طريقةٍ تمنعُ الغش ولو بنسبة معقولة، فهذا طيّب، خاصة إذا كان وراء التغيير إرادة جادة ونافذة، لأنه ليس أخطر على العملية التعليمية من غشٍّ يجعلُ الطالب المجتهد يخرجُ من كلّ امتحانٍ مكتئبًا حتى لو أجاب عن الأسئلة، لِأنّ آخرين مهمِلين لم يكن هناك ما يحُولُ بينهم وبين الحصول على الإجابات الكاملة، بتواطؤٍ وإشرافٍ من مسؤولين عن نزاهة وعدالة الامتحانات، فيشعرُ المجتهدون والأذكياء بالغبْن وبغياب العدالة، ويشجّعُ المهمل والكسول على ممارسة باطل الركون إلى الغش.
وهنا يمكنُ التأكيد على أنّ الامتحانات في شكلها الجديد تمنعُ تسرّب الأسئلة، وتحُدُّ من الغش.
ولأنّ الشيء بالشيء يُذْكر، ما زلتُ أتذكّر امتحانات في أحد المراكز الريفية في محافظة صنعاء قبل سنين.. فقد كان هناك من يُرسِلُ الأسئلة إلى إحدى المدن، ويتلقى الإجابات من معلّمٍ هناك، لتجري بعد ذلك عملية توزيع الإجابات على الطلاب في عملية غشٍّ جماعي واضحة فاضحة، مقابل مَبالغ يدفعها الطلاب مسبقًا..!
ولقد سألتُ معلّمين عن الشكل الجديد للامتحانات، مميزاتٍ وعيوبًا، فقالوا بأنّ نظام (الأتمتة) هذا يمنعُ الغش، ويريح المراقبين، ويسمحُ للطالب بتجربة ألعاب الحظ عند تضليل الإجابة، لكنه لا يتناسبُ مع طبيعة امتحانات الرياضيات.. كما قال لي طلبة شهادة تعليم الأساسي.
وحتى في وجود وزارتين للتربية والتعليم، كما هو حال كلّ شيء في بلد تمزِّقه الحرب وتفاصيل الأزمات والصراعات، ليس من المكايدة أو حتى الترف في شيء أنْ يرفع كلّ عاقل وتيرة المطالبة بعملية تعليمية سليمة من خلال منهج دراسي يُجسّدُ الوحدة الوطنية، ويكرّسُ قيم وأخلاق وروح اليمن الكبير.. لأنّ الذي يحدثُ لعناوين وتفاصيل التعليم يجعلك كأبٍ تعرفُ معنى أنْ يكون هناك عجز في معلمين بلا معاشات، وآباء بلا مرتبات، تلتمسُ العذر للأولاد والبنات حتى لو تركوا ورقة الإجابة بيضاء من غير فكرة أو حبْر.
إنّ المشاكل الحياتية للمعلّمين مع العيش المر تعكسُ نفسها في صور تهرُّب أو عدم إتقان المهمة والدور، وكلفتة المنهج والبحث عن أعذار ومبررات الغياب، وسوء توصيل المعلومة إلى فصولٍ مزدحمة، وبقية الحال المائل معروفة.
ابعدوا التعليم عن الصراع السياسي والجهوي.. اهتموا بالمعلم.. اعطوه اهتمامًا خاصًّا؛ لأنّ وجوده داخل المدرسة دون شكاوى صارخة هو الحدّ الأدنى لإثبات أنّ المستقبل يعني لنا شيئًا (أيّ شيء).
أوقفوا الحرب.. اجنحوا للسلام.. أو حتى واصِلوا الجنون، ولكن اجعلوا التعليم واقفًا على أرض ومعطيات وطنية سليمة، ولا تجعلوه كقضاء ومَحاكم بائسة أو عدالة مغمضة العينين، فليس من المعقول السماح بتسرُّب المستقبل من بين أصابعنا، وليس المستقبل إلا أبناء وبنات اليمن في المراحل الدراسية المختلفة.
وكما أنّ اليمن يحتاجُ للسلام والأمن المنتظَر من زعامات حزبية وجهوية مطالَبة بتجديد انتمائها إلى اليمن، بعيدًا عن مؤثرات خارجية مدفوعة أو حتى مجانية خرقاء، فهو قبل وبعد ذلك يحتاجُ إلى الإبقاء على قطارٍ تعليمي دون تقصيرٍ أو غش أو تكاذُب.. تعليم صائب خالٍ من الأدران والشوائب..!
عن :”اليمني الأميركي”