محمد ناصر الدين
«تسلّق الحياة تسلّقاً، احتكّ بالمخاطر، صارع الصعاب… وهو لم يزل في الثانية عشر من عمره، يوم ارتدى أجمل ما عنده من ثياب، قمبازاً جديداً، ومضى مسرعاً. انطلق من مسقط رأسه قرية قصابين إلى مدينة جبلة على بعد أميال قاصداً بلوغ الأفق، لا للمكوث فيه وإنما لتجاوزه إلى آفاق كل همّه أن يكتشفها، أن يسكن فيها أو أن يسكنها عقله وقلبه ويمضي بها. الأفق عنده هو العلم، المعرفة، الانفتاح، وبوصلة الوصول إليه أن يفكّر. أن يفكّر هذا أغلى ما علّمه إياه والده، إلى جانب الشعر العربي، الموزون المقفى. والده الفلّاح السوري ابن الأرض يزرعها، يسقيها، يعاملها فتطعمه كما الأم ترضع طفلها. علّمه الفلّاح ابن الأرض كيف يتّكل على نفسه.
دفعه إلى اكتشاف الفكر، بوابة الحرية، البوابة العظيمة». بهذه المقدمة التي تبرز فيها ثلاثية السيرة/ المعرفة/ الحرية اختار حسن حمادة أن يفتتح العددين ٢٢/٢٣ من مجلة «تحولات مشرقية» المخصّص في قسمه الأول لأدونيس، مع صورة للشاعر السوري في فترة مجلة «شعر» في بيروت مع زوجته الناقدة خالدة سعيد، وبعبارة فوق الغلاف: «أدونيس…طفل في سن التسعين، حياته… خالدة».
إنه الضوء المشرقي، الذي يستعصي موشور الوصف على تفكيكه: الشعر والنقد والفلسفة والتفكير ومحاورة الموروث، والأهم كما في مقدمة حمادة: الحرية التي تعطي الجرأة على الأسئلة، كما لخصها أدونيس نفسه جيداً في إحدى قصائده: «أمضي إلى البعيد/ والبعيدُ يبقى/ هكذا لا أصِل/ ولكنّي أضيء».
يتناول حمادة في المقطع الثاني من مقالته علاقة أدونيس بالدين ويصدرّها بعنوان واضح: «لا عداء للدين». يشرح بإسهاب موقف أدونيس من المؤسسة الدينية وضد «تجار الأديان الذين وضعوا الإسلام جانباً منذ ١٤٠٠ سنة وحوّلوه أيديولوجيا تخدم صراعاتهم من أجل السلطة»، لينهي هذا الفصل بمقارنة موقف أدونيس بموقف فردريك أنجلز الذي أعلن على الملأ أن «محاربة الدين لا تشكّل هدفاً ثورياً من الأساس… فأيّ عامل لا يستطيع إلا أن يميز الفرق الشاسع ما بين سلوك السيد المسيح ونهجه من جهة، وطقوس المؤسسة الدينية من جهة ثانية حيث الانحراف على أشدّه بل يشكّل طلاقاً مكتملاً منجزاً بين المؤسسة والدين».
ينتقل حمادة في المحور الذي يليه إلى تناول العلاقة بين أدونيس والعروبة الحضارية، التي ميز الشاعر فيها بين عروبة أنظمة الفقر والجهل والإيديولوجيا التي تحول دون الحداثة والنهوض، وبين العروبة المتنورة التي ترتبط باللغة كيانياً واستيتيقياً ويكون الشعر رافعتها وعصبها وشريانها الأبهر، لينتقل إلى موقف أدونيس الذي أثار الكثير من السجال حول الربيع العربي، وسلوك «الديمقراطيات الغربية» في
استبدال نظام بآخر يشبهه في ظل هذا الربيع، من دون أن يطال التغيير البنية العميقة للمجتمع في الثقافة والتفكير والسلوك، كما أشار أدونيس في جملته الإشكالية حول ثورة تخرج من الجامع أو من الجامعة. يتناول حمادة من بعدها انفتاح الأفق الأدونيسي على التجارب الغربية، ورفضه معادلة: «الشرق مسلم والغرب مسيحي»، معتبراً فيها إهانة توجّه إلى الشرق وإلى الغرب معاً، «إذ تلصق بالإسلام كدين،
مسؤولية انحطاطنا وتحللنا وجرائمنا بحق بعضنا البعض، كما تلصق بالمسيحية، كدين، مسؤولية الحضارة المادية والجرائم الاستعمارية العنصرية»، فشبكة علاقات أدونيس الثقافية الغربية، لم تتحول إلى أشباك تقيّد حريته في المبدئيات. ينهي حمادة مقالته بمقطع يتناول أوجه الشبه بين بيكاسو وأدونيس: الأول يرسم باللون والآخر بالكلمات. ويستشهد الباحث بجملة في مذكرات بيكاسو: «كان همّي الأول أن أصبح ثرياً،
ولكي أصبح ثرياً يجب أن أكسب الشهرة»، بينما تفترض مجانية الشعر وغسله بيديه جسد الكون بحمادة أن يستحضر جملة أدونيس: «الله والشاعر طفلان ينامان على خدّ الحجر»، مفنّداً كل من يطعن على أدونيس في قضية طرح اسمه لجائزة نوبل، «بات من الواضح أن ثمة خطوة ما تريد أوساط خفية أن يقدم عليها أدونيس، أن يسير مع الركب العربي الرسمي في مجال التناغم مع الصهيونية… لكن موقف أدونيس ظلّ كما هو، سيداً محترماً، موقف من يحترم نفسه ولا يسقط في أشباك المغريات»، يشير حمادة.
أليس في هذه اليقظة، وهي تتم باسم الحرية، ما يزيد على نحو تناقضي إشكالية الحرية؟
في المقالة الثانية بعنوان «أدونيس تجاوز التسعين وعبر إلى الزمن الآتي»، يركز الباحث سركيس أبو زيد على حضور ثلاثي الأبعاد في شخصية صاحب «أغاني مهيار الدمشقي»: أدونيس الذات الجسد الأسطورة، وحضور الإمام علي، الذات الصوفية والجماعة، وتأثير أنطون سعادة الذات القومية وهوية «من نحن؟»، والتركيز على محورية أدونيس في الثقافة العربية، إلى درجة أن «انقسم العالم بين من هم
مع أدونيس ومن ضده، وهو لا يترك لك خيار الحياد أو التجاهل». يركز أبو زيد في مقالته على عبور أدونيس من القرية الريفية لاكتشاف القرية العالمية، بعنوان كبير: التجاوز؛ «تجاوز الأبوة السلطوية إلى محبة الأب، وتجاوز حدود الطائفة والمحلة والعشيرة إلى رحاب الحزب القومي بفكره العلماني والنهضوي، وتجاوز المؤسسات الدينية والحزبية، لأن السؤال عنده دائماً أقوى من الأجوبة الجاهزة، تجاوز الكتابة التقليدية القائمة على التبشير والتدجين وإعادة النظر بشكل دائم، تجاوز الثقافة الموروثة من الماضي والإقامة في الثقافة-الثورة، وتجاوز الصراع بين الشرق والغرب ليصير الآخر امتداداً للذات ووجهها الآخر».
إنه تجاوز المتحوّل للثابت، والدعوة إلى امتصاص الأصيل والجميل والإبداعي في كل الثقافات يقوم بها عقلٌ «مفردٌ بصيغة الجمع»، يرفض كل ما التصق بالجماعة-المؤسَّسة من قمع وفتك وبتر، إلى قدرة الشاعر الرائي على الخلق والابتكار ومداد الرؤية الذي يفوق مداد البحر كما في آخر سورة الكهف. إنه تجاوز النص في العقول الصغيرة، «فالنص يكبر في العقول الكبيرة ويصغر في العقول الصغيرة»، كما قال أدونيس يوماً.
المقالة الثالثة في المحور هي لأدونيس ذاته، إذ أعادت المجلة نشر مقالة «الهوية والآخر» التي نشرت في مجلة «تحولات»، العدد الأول، في أيلول (سبتمبر) ١٩٩٠، يتناول فيها ما كان يشهده العالم حينها من يقظة في الهويات، ويقرنها بسؤال مركزي: «أليس في هذه اليقظة، وهي تتم باسم الحرية، ما يزيد على نحو تناقضي إشكالية الحرية؟».
وبعد عرضه تاريخ الحرية، وبخاصة في الشرق العربي-الإسلامي، ينتقل إلى استشرافها على مستوى العالم لينتهي بخلاصة مدوّية موجّهة إلى الغرب، ما زالت راهنة حتى اليوم، وتحديداً حين نرى ما تفعله ثكنته-المسخ المدجّجة إسرائيل في لحم أطفال غزة: «التوكيد على أنّ السياسة جزء من كلّ هو الثقافة، وعلى أن الأولى تابعة للثانية، وعلى أنّ العمل السياسي وسيلة لتعميق التفاؤل والتثاقف بين الذات والآخر، وعلى أن السياسة تابعة لهذه الإرادة الثقافية في الحوار بين الذات والآخر، وتكاملهما. إن على السياسة، وبخاصة في الغرب، أن تبدع هي الأخرى، أعمالها الجميلة، الرائعة، توكيداً لعبارة سان-جوست: «أنتجت جميع الفنون روائعها، ما عدا فن الحكم، فهو لم ينتج إلا المسوخ».