رامي أبو شهاب*
لأكثر من عقود طويلة تبدو الصّورة التي تتداولها قنوات الأخبار ووكالات الأنباء لجنود الاحتلال الإسرائيلي، المدججين بالأسلحة والهراوات والخوذ في ساحة المسجد الأقصى في محاولة منهم لقمع المصلين المحتجين، في صورة ذات دلالة واضحة لم تتغير أبعادها، ومقاصدها، كما أركانها، ولهذا يمكن أن تقرأ في سياق سيميائي ثقافي، إذ هي تحيل إلى مستويين يبدوان متناقضين للوهلة الأولى: لكنهما في الحقيقة يتقاطعان، حيث تبدو هذه الصورة أبدية تتكرر، إذ نرى فيها أجيالاً من المحتلين مقابل أجيال من الثائرين، تتولى مهمة إنتاج الصورة عينها، وبهذا فإن رمزية الواقع ترى، أن هذا الكيان لم يتقدم خطوة واحدة للأمام، على الرغم من الوهم الذي تحيط به دولة الكيان الصهيوني ذاتها، وينهض على أن وجودها اتخذ طابعاً واقعياً في ظل حقائق الدعم الكولونيالي الغربي، أو في ظل التطبيع، أو الاتفاقيات التي عقدتها مع بعض الدول العربية، أو حتى مع السلطة، فثمة خلف كل ذلك تبقى الحقائق قائمة، والسؤال الأخلاقي لوجود فلسطين يقضّ مضاجع من يعتقد أن فكرة فلسطين يمكن أن يطويها الزمن.
تبدو ساحات المسجد الأقصى، حيث نرى النيران المشتعلة، والحجارة تتطاير أحد أركان صورة بصرية ممتدة في الزمن، أو ذات تشكيل منتظم من الخطاب، هي صورة تتكرر عبر عقود طويلة، وهنا يمكن أن ننظر إلى الصورة بوصفها دالاً ضمن ما يوضحه «أمبرتو إيكو» في سياق مفهوم ضوابط الإنتاج السيميائي، ومعاييره.
فثمة طبقات عميقة من التشكيلات لا على المستوى الواقعي والديني والتاريخي فحسب، والتي لا يمكن أن يطالها الشك، في أي صورة من الصور، إنما على مستوى الخطاب في ما يتعلق بحقيقة أن فلسطين ستبقى قائمة خطابياً، ورمزياً، ولن تتوارى من الوعي الكوني، على الرغم من وجود موجات من الانحسار في بعض الأزمنة، لكن تبقى فلسطين الحقيقة المطلقة، حين تختصر رهان العرب على ذاتهم، بل إن كل الاستحقاقات العربية كأمة، أو كأمم، ودول هشة، لن يكون لها من معنى في ظل السقوط الأخلاقي في امتحان فلسطين، إذ لا يمكن لها أن تهنأ في كيانات طبيعية ما دامت المعضلة الفلسطينية قائمة.
تبدو ساحات المسجد الأقصى، حيث نرى النيران المشتعلة، والحجارة تتطاير أحد أركان صورة بصرية ممتدة في الزمن، أو ذات تشكيل منتظم من الخطاب، هي صورة تتكرر عبر عقود طويلة، وهنا يمكن أن ننظر إلى الصورة بوصفها دالاً ضمن ما يوضحه «أمبرتو إيكو» في سياق مفهوم ضوابط الإنتاج السيميائي، ومعاييره، وأهمها الفعل المادي الضروري لإنتاج العبارات، وهنا يؤكد على آلية التركيز على شيء يتمتع بوجود فيزيقي، فضلاً عن إنتاج نسخ للشيء عينه، وهكذا تبدو صورة المقاومين، حاملة أو تحتمل هذين البعدين، حيث الوجود المادي قائم، في حين أن تكرار الحدث يبدو قائماً عبر نسخ متكررة عبر عقود طويلة، وفيه نرى الشبان أو الفلسطينيين عامة يقاومون في باحات المسجد الأقصى، وحي الشيخ جراح، وغيرها من المناطق جنود الاحتلال عبر إلقاء الحجارة، علاوة على الاشتباك الجسدي، في ساحة تبدو أقرب إلى أرض معركة يؤطرها الكر والفر، كما نرى في الأجواء أعمده الدخان، والنيران تتصاعد، في حين أن أصوات القنابل الصوتية والغاز والطلقات المطاطية تسمع بوضوح.
هذه الصورة لن تنتهي طالما الاحتلال قائم، وسيعاد إنتاجها مرارا وتكراراً، وهذا يعود إلى خاصية تبديد وهم أن حقيقة فلسطين يمكن أن تتلاشى، وأن مواجهة الموقف الأخلاقي يمكن أن يخرج من المعادلة، لاسيما في ظل رهانات محرجة لدى البعض من جهة، ومن جهة أخرى فإنها تحتمل صيغة من صيغ الإحالة إلى أن المهمة لم تنجز بعد في وعي نظام الفصل العنصري الصهيوني، الذي بقي قائماً من مخلفات الحقبة الاستعمارية، وهذا يبدو واضحاً في وعي بعض المفكرين والمثقفين الإسرائيليين الذين ينتقدون النموذج الصهيوني الكولونيالي بوصفه نموذجاً عنصرياً «أبارتهايد» كما يذكر أوري رام أحد دارسي علم الاجتماع في جامعة بن غوريون، في دراسة ترجمت ونشرت في مجلة «الكرمل» الفلسطينية بعنوان «الموقف من الكولونيالية في علم الاجتماع الصهيوني». وفيها يحلل «رام» وصمة الكولونيالية لدى مكونات المجتمع الإسرائيلي، أو لدى الأنتليجنسيا الإسرائيلية، من مبدأ أن هذه الحقيقة تتناقض مع منطلقات اليسار واليمين، على حد سواء، كونها تبطل مقولات اليسار المثالي حول فكرة قيام إسرائيل، ووجودها من خلال الكدح والعمل، كما التحرر الذاتي، في حين أنها تبطل مقولة اليمين التي تتمثل بأن فلسطين أرض بلا شعب لشعب بلا أرض، كما أنها تبطل أيضا مقولة أرض إسرائيل بأكملها ملك الشعب اليهودي تبعاً للحقائق التاريخية، وبذلك فإن صورة الفلسطينيين في باحات المسجد الأقصى، بالتجاور مع مقاومة الاستيلاء على بيوت الفلسطينيين في حي الشيخ جراح، تدفع إسرائيل إلى أن تبقى في مواجهة صورتها المقيتة، بوصفها دولة كولونيالية تعتمد المبدأ الاستيطاني في تكوينها، وهنا لا يمكن للعالم أن يبقى على الحياد في مواجهة هذا الوجود الذي وسم قرونا طويلة من الوجود البشري حيث عملية الإحلال تبدو صيغة مستعادة، فيعاد إنتاجها في عالم يدّعي الأخلاق، ولاسيما في العصر الحديث؛ من مبدأ أن هذه الممارسات غير مقبولة مع تقدم البشرية، وادعائها تبني نموذجا ينهض على منظومة قيمية وأخلاقية وقانونية، ولعل هذا يجعل من المعضلة الأخلاقية ربما السؤال الأكثر مركزية في وعي المجتمع الدولي، لكن الأهم في وعينا نحن العرب على مستوى رمزي وثقافي.
لعل ما حصل في الآونة الأخيرة، قد أعاد صورة المقاومة الفلسطينية التي تسعى العديد من الأطراف إلى تصفيتها واقعياً وخطابياً ورمزياً، فهندسة هذا التخطيط قد باءت بالفشل، كون هذه المقاومة أخلاقية لا يمكن تنحيتها من الوعي الجمعي عبر الرهان على خلق أجيال منبتة الصلة بحقيقة وجودها.
نلاحظ في السنوات الأخيرة، ولاسيما مع بدء الثورة الصناعية الرابعة أن ثمة تغيراً في طريقة التعاطف مع المشكلة الفلسطيني لدى الشعوب العربية، أو المسلمة على حد سواء، وكأن ثمة تحولا بنيوياً عميقاً في ميكانيكية تشكل الأخلاق لدى هذه الشعب، التي كانت تثور لنصرة الحق الفلسطيني، وهنا يمكن البحث عن عوامل محددة وسمت مطلع الألفية الثالثة، أو مع بدء الثورة الصناعية الرابعة، حيث بدت البشرية أشبه بمسخ معطل نتيجة نموذج استهلاكي إعلامي غير قادر على أن يحدث وعياً تأملياً بحقيقة ما يجري، في ظل تسارع الحدث، لكن ثمة أيضاً إخفاقات عميقة لدى معظم تلك الشعوب عبر انشغالها بقضايا داخلية وخارجية، بدت في بعض الأحيان أكثر قدرة على استهلاك مدركاتها، نتيجة تغول النماذج السلطوية، بالتوازي مع لعبة الاستقطاب الطائفي في منطقة الشرق الأوسط، بالتّضافر مع شيوع الفكر المتطرف الذي يبدو غير معني بحقيقة المعضلة الأخلاقية بمقدار ما يسعى إلى البحث عن وهم الوجود ضمن موقع سلطوي، يحتكم لمتخيل بائد.
هذه العناصر المجتمعة بدت سلبية في تمكين الإدراك للتكامل مع وحدة القضية، وأخلاقيتها في الوعيين، العربي والإسلامي، كما الإنساني عامة، لكن حقيقة سؤال فلسطين يتأتى من أن وجودها يتعإلى فوق كل ما يمكن أن نعتقده، أو نؤمن بأولويته، علاوة على كونه مفتاح الخلاص لأزماتنا العميقة كأمة عربية.
لعل ما حصل في الآونة الأخيرة، قد أعاد صورة المقاومة الفلسطينية التي تسعى العديد من الأطراف إلى تصفيتها واقعياً وخطابياً ورمزياً، فهندسة هذا التخطيط قد باءت بالفشل، كون هذه المقاومة أخلاقية لا يمكن تنحيتها من الوعي الجمعي عبر الرهان على خلق أجيال منبتة الصلة بحقيقة وجودها، وهذا الأمر يعود إلى أمر- على الرغم من بساطته- إلا إنه غاب عن وعي من سعى لتصفية مشروعية المقاومة، وينهض على أن حضور المحتل ما زال واقعاً مادياً، لا يمكن أن يغيب عن عيون أجيال تنشأ في مواجهته؛ ما يعني إحداث دالات رمزية ستعيد إنتاج ذاتها، متصلة بردة الفعل – على الرغم من عفويته – فلا جرم أن تنتج الصورة من جديد بهدف تمكين عملية نبذ هذا التناسي الأخلاقي، الذي يسيطر على وعي العالم، بما في ذلك العرب أنفسهم، وهنا يبدو التأكيد على أن الفلسطيني لن يكون سوى سيّد مصيره، وأن وعي الفلسطيني في عفويته لمقاومة تهويد الأقصى، وفرض الأمر الواقع، يبدو الصيغة الخطابية التي ستبقى قادرة على تصنيع نفسها عبر مقاومة عمليات المحو والتصفية، ولا يمكن تجاهل ذلك (أخلاقياً)؛ ولهذا تسارع وكالات الأنباء والنشرات الإخبارية لتغطية الحدث، وهذا يتأتى من قوة الفعل الشعبي، وهنا يستعيد الفلسطينيون موقعهم ليكونوا الوجود الأكثر تجذّراً في أدبيات مقاومة آخر نظام عنصر كولونيالي في العصر الحديث.
- كاتب أردني فلسطيني