عدلي صادق*
كلما ذُكر مصطلح “المستشرقين” تطرأ على أذهان السامعين فكرة المستعمر، على اعتبار أن المستشرق عنصر متقدم يمهد للغزو أو يشتغل على احتواء البلد المستهدف من خلال دراسة لغة شعبه وتراثهم وتقاليدهم، وتلك فكرة لا تُجانب الصواب مع بعض الإستثناءات التي كان فيها المستشرق مُفتتناً بالبلاد التي يقصدها، وتلك ظاهرة غير استعمارية وُجدت تأثراً بما يسمونه “سحر الشرق” وجمالياته الاجتماعية وآدابه، لاسيما الشعر، ومعظم مستشرقيها كانوا أسكندنافيين مع بعض الألمان.
غير أن قراءة أعمال أولئك المستشرقين تظل شيقة، إذ تزدحم بالصور القلمية التي تصف حياة أي مجتمع عاش فيه مستشرق أجاد اللغة العربية وتعمق فيها، وبذل من وقته وجهده الكثير لكي يترجم آدابها وأعمالاً من أمهات كتبها وشروحات أشهر الفقهاء. وهذه الميزة، بحد ذاتها، تدعو إلى كثير من الإعجاب، خاصة عندما يعكف المستشرق سنين طويلة على دراسة اللغات القديمة التي عاشت واندثرت في البلاد العربية.
في كتاب بعنوان “مسيحيون في مكة” للكاتب الإنجليزي أغسطس رالي وترجمة رمزي بدر الصادرة طبعته الأولى عن دار “الوَّراق” في بيروت في العام 2007، يعرض الكاتب لتجارب ثمانية عشر مستشرقاً يجدر أن تنقل حكاية كل منهم إلى السينما بسبب عنصر التشويق الطاغي فيها.
وعلى الرغم من اختصار كل حكاية، بالقدر الذي لا يُغفل العناصر الأساسية فيها، إلا أن لقطاتها المدهشة وإنجازات أصحابها المعززة بآثارهم وبما تركوه مكتوباً صنعت من فصول الكتاب مادة آسرة.
قراءة أعمال أولئك المستشرقين تظل شيقة، إذ تزدحم بالصور القلمية التي تصف حياة أي مجتمع عاش فيه مستشرق أجاد اللغة العربية وتعمق فيها.
من بين تلك الفصول واحد عن المستشرق والمحارب الفرنسي والجاسوس الإعجازي في صبره ومثابرته ليون روش (1809 – 1901 وقد كتب تاريخ ميلاده وتاريخ وفاته خطأ ربما في مسودة الترجمة).
وكان مسرح عمله الأول في المغرب العربي الزاخر بالأسرار، أما منطلق حكايته كفصيح في العربية ومتفقه في الإسلام يمتشق اسم الحاج عمر فقد حدث بتأثير فتاة مغربية تُدعى خديجة وقع في غرامها من النظرة الأولى، ورسم حبه لها طريق حياته دون أن ينال منها قلامة ظِفر، وإن كانت بادلته حباً عُذرياً، دون أن تنجح العجوز مسعودة حاملة مراسيله إلى خديجة في تأمين احتكاك حسي بها. أقبل روش على تعلم العربية لكي يعرف كيف يتوغل في المجتمع العربي، ويطارد محبوبته التي تعمدت العائلة تزويجها صغيرة، ونقلها إلى مدينة مليانة الجزائرية.
يتمكن الشاب من لغة الضاد، ويصبح مترجماً ثم يرسله الجنرال بيجو لكي يتجسس على الأمير عبدالقادر الجزائري، وأن يكسب ثقته وثقة سواه كمسلم يؤدي الصلوات الخمس على امتداد اثنتين وثلاثين سنة. ومن الجزائر ينتقل إلى مصر لاستصدار فتوى ذات صيغة تحايلية تُحرم مقاتلة الجيش الفرنسي بذريعة تفوقه. يلتقي محمد علي ويدير معه حوارات، ويطرح آراء سبقت عصرها لكنه يفشل في انتزاع الفتوى من مشايخ الأزهر.
في ذلك الوقت (فبراير 1941) كان الشريف محمد بن عبدالمعين، جد الحسين بن علي والد الملك عبدالله مؤسس الأردن هو الذي يحكم مكة بتكليف من والي مصر.
وليس أطرف من المقارنة المسلكية والدينية التي عقدها روش بين الأمير عبدالقادر الجزائري وحاكم مكة الذي رآه ماجناً، وكانت المقارنة لصالح عبدالقادر بفارق شاسع في التقوى والرشاد. ولا يقل عن ذلك طرافة امتداحه التفصيلي للدين الإسلامي، الذي لا يجد – حسب رأيه – من يحكم به عن فهم صحيح.
كانت تلك رحلة طويلة شيقة لمستشرق فرنسي التزم أمانة التسجيل دون أن يفارق وظيفته.
- كاتب وسياسي فلسطيني