حسن داوود*
النساء في رواية «منزل عائم فوق النهر» مقموعات مغلوبات على أمرهن، لكنهن فاجرات في الوقت نفسه. هنّ ثلاث: الجدّة، ثم ابنتها، ثم حفيدتها وقد تعاقبن جيلا بعد جيل.
الحفيدة، ليلى، تحمل ذلك الإرث وهي فرّت من تبعاته لتقيم في طهران، حيث تعمل موظفة في مؤسسة تعمل بالترجمة.
لكن بيروت هي الحاضرة، مُتذكَّرة ومخيفة، في ما طهران مجرّد مكان للهروب تقتصر مكانيّتها في الرواية على كونها مقرّ مؤسسة العمل ليس إلا.
لا تفاصيل عن عيش ليلى في تلك المدينة، وليس ما يشير إلى أمكنة وبشر، لا بالأسماء ولا بالأوصاف. هناك فقط زميلات العمل القليلات، وهؤلاء يتقلّص وجودهن في الفصول اللاحقة، فلا يعدن يُذكرن أو يؤثّرن في مجريات الأحداث، لكن هناك بنيامين زوج ليلى، الحاضر دائما على الرغم من انفصاله عنها.
لكن الرواية تعجّ بالشخصيات.. أسماء كثيرة تتوزع في زمن الرواية المتسع لأجيال النساء الثلاث. لكل منهن أُفرد فصل من الرواية لتروى حكايتها كاملة.
أولاهن بديعة، المتحدّية مؤسِّسة العار الأول لمن سيتبعها من نسل تلك العائلة. حالَ أهل بديعة دون زواجها من الشاب الأرمني هاروتن الذي كانت تلتقيه علنا، وتم تزويجها قهرا وبالغصب من الشاب الضعيف الشخصية والمتأتئ رضوان.
لم يكن مقبولا الزواج بين فتاة مسلمة وشاب مسيحي أرمني آنذاك، وأهل بديعة تصرّفوا معها بالقمع والكسر. رضوان لم يستطع أن يحول دون إبقاء علاقة زوجته بحبيبها.
كان هذا الأخير يدخل إلى البيت ساعة يشاء، من دون أن يملك الزوج أي قدرة على منعه أو طرده، وكانت فاطمة، الثانية في سلسلة النساء الثلاث، تظل تُسأل إن كانت هي ابنة الأرمني أو ابنة المتأتئ.
كما ظل الحال كذلك بعد أن قتل الاثنان، هاروت لتعدّيه على حرمة ذاك البيت، كما على حرمة محيطة المتجانس طائفيا، رغم ما كان يُزعم، وما ظلّ يزعم في ما بعد، من أن المدينة بيروت في ذلك الزمن الذي أرّخته الكاتبة زينب مرعي بين 1949 و1969، مختلطة السكان. أما الزوج، رضوان، فقتل هو أيضا، وفي زمن مقارب، لسبب لا يتعلّق بالثأر أو الانتقام.
هي رواية تامة عن حياة بديعة التي، في عمر مبكر أنهت حياتها بالانتحار. ولفاطمة ابنتها حكايتها أيضا. لقد حولّت العار الذي حملته من طفولتها إلى قسوة جعلتها، في أثقل محطات الرواية درامية، تجبر ابنتها ليلى على أن ترمي ابنتها الثانية، آية، في النهر بعد أن عثرت عليها منتحرة.
لم تذرف تلك الأم دمعة واحدة، ولم تتوقف عن إلحاق الأذى بابنتها الباقية على قيد الحياة. حادثة إلقاء الابنة آية في النهر، وإن ميتة، زوّدت رواية التاريخ العائلي بجانب إجرامي ونفسي في الوقت نفسه. وها هي ليلى، بعد عودتها من طهران، تبدأ سجالا مرّا مع والدتها فاطمة، التي اتهمتها بمقتل اختها وراحت تهددها بإبلاغ ذلك إلى دوائر الأمن.
لا رجال في الرواية.. لقد أتمت النساء سطوتهن على حياتهن وحياة من يحيط بهن. رضوان، زوج الأولى بينهن، هو لا أحد كما يسمّيه أهل الحي. الثاني، زوج فاطمة، مدمن كحول، ويكاد وجوده في حياة الأسرة أن يكون معدوما تماما.
أما ليلى فاخترعت في طفولتها شخصية طفل ظلّ يكبر معها، حتى ظنه زوجُها عشيقا حقيقيا. الرجال هم دائما قابلون بالخيانة الزوجية والإقصاء من الأبوّة.
مُحيّدون عن كل فعل، وهذا ما يجعل كلا منهم فاقد السيرة، بالمعنى الروائي، إذ لا يخرج عن التعريف الأول الذي أعطته له الكاتبة.
البطولة للنساء.. هؤلاء المحدثات الفوضى والصخب، والمستمرات في صنع مصائرهن القاسية، كما مصائر من هم في محيطهم.
زينب مرعي أحلت النساء محل الرجال أصحاب التراجيديات والمصائر، أولئك الذين كانوا هم، في الغالب، أبطال الروايات، كما أصحاب الأمزجة النازعة إلى التدمير.
لا غرو أن مرعي سُبقت إلى ذلك، مع إقبال النساء على كتابة الروايات، لكن ما يختلف هنا هو أنها كتبت عن سلالة نسائية، ذلك يشبه الروايات التي كتبت عن تواريخ الأعراق المضطهدة: الروايات عن سود أمريكا على سبيل المثال.
حشد من البشر إذن، بل حشد من الأسماء في هذه الرواية. يخطر لقارئها في ما هو يقلّب صفحاتها أن يسجّل تلك الأسماء على ورقة ليظل قادرا على وضعها في الموضع الذي كانت فيه. ذلك يعود إلى الأجيال الثلاثة كما هو مذكور أعلاه، وإلى كون امرأة كل جيل حظيت بروايتها كاملة وبالكثير من تفاصيلها. هذه الروايات الثلاث تتداخل حينا ويستقل كل منها حينا آخر. لكن مع ذلك ظلت القراءة سلسة ومنسابة. ربما كان هذا ما يجب أن تتميز به الروايات التي تنقل سيرا عائلية.
٭ ٭ «منزل عائم فوق النهر» رواية لزينب مرعي صدرت عن دار نوفل في بيروت لسنة 2021 في 273 صفحة.
- كاتب لبناني