موج يوسف*
تظهرُ تجليات العاهة التي توشم بالجسد على الألفاظ والتصرفات الذاتية، فحتى مع الآخر تنشأ علاقة متضادة، لاسيما إن كان الآخر المجتمع النابذ للقباحة، ولو عدنا إلى التاريخ الثقافي والحضارات القديمة، لوجدناه يعجُ برفض القبيح. يبقى السؤال الجوهري هل إعاقة الأديب أو العاهة تؤثر في أدبه؟ إذ تفحصنا أدبنا العربي القديم نجد ألقاباً أو مسميات أطلقت على الشعراء بسبب عاهات عندهم، فالأعشى الشاعر الجاهلي سمي بذلك لقصر نظره، أو لعدم رؤيته في الليل، لكن شعره زخرَ بصورٍ مرئية كقوله: كأن مشيتها من بيت جارتها مر السحابة لا ريثٌ ولا عجل. وكأن العشو لم يؤثر في خياله ولا يشوه شاعريته. وربما هذه المشاهد المرئية ذات الصور الحركية جاءت بمثابة تعويض عما يعاني منه.
بينما الشاعر الحطيئة اصطبغ شعره بقباحة الهجاء، وعرف بسلاطة كلماته اللاذعة، والحطيئة لقبٌ؛ لقصر قامته ووجهه القبيح حتى قال عن نفسه في بيت شعري يرفض قباحة شكله: أرى لي وجهاً قبح الله خلقه فقبحَ من وجهٍ وقبح حامله. البيت يظهر ثورية الشاعر الذاتية التي رفضتْ المظهر القبيح، ولا تخفى علينا قصته المشهورة مع الخليفة الثاني عندما سجنه بسبب هجائه للزبرقان، فرونق البلاغة وما تخفيه من عيوب نسقية لم يجمل هجاء الحطيئة. ولو قلبنا صفحات الأدب وانتقلنا إلى زمانٍ ومكانٍ خارج الأفق المشرقية، مع ازدهار الفلسفة تأتي «أزهار الشر» للشاعر الفرنسي بودلير بمفارقة كبيرة في أعماله الشعرية، وتكمن المفارقة في قباحة محبوبته، واعتناقه لصفاتها البشعة التي تحولت إلى قصائد ذات نزعة إنسانية وجمالية، وكأن القبح مهلمٌ للجمال وجرده من النسق الثقافي، فيقول في قصيدة حسناء:
أيها الناس الفانون
أنا جميلة جمال حلم من حجر ونهداي اللذان لم يسلم أحد من عذابهما خلقا ليُلهما الشاعر حباً خالداً وصمتاً كصمت المادة الخرساء، إني أجلس على عرش السماء كأبي الهول غامض.
النص فيه اعتراف صريح بأن محبوبته تعمل مومساً وهي المهلمة كما أن الشاعر أنطقها، وبين هويتها، والذي يهمنا أن قباحة المحبوبة تحولت في شعره إلى جمالٍ لا يتغنى بالبلاغة، وإنما بالفلسفة التي تجرد الحياة من التشويه والشر، كما نرى في النص استحضار الدين والأسطورة، فأعطى هوية مزدوجة لحسنائه، أي هوية كونية وبشرية، لأنها تقيم في الحد بين الواقع والحلم. وفي قصيدة بعنوان (جيفة) يقول:
اتذكرين يا نفسي الشيء الذي رأيناه
ذات صباح صيفي منعش على منعطف طريق
ضيق هذه الجيفة الكريهة الراقدة على سرير من
حصى ساقاها على الأعلى كالمرأة الشبقة
النص فيه مفارقة بين القباحة والجمال عبر الشم، فقد رسم لوحته الشعرية بلون تظهر فيه الرائحة بشكل أساسي فقد وظفَ كل الكلمات المتعلقة بالشم، فحداثة القصيدة عنده هي بالاستغناء عن البلاغة ، والاتكاء على حاسة الشم وتجريدها من أريج العطر، فهو أعطى لأزهار الشر رائحة في هذه القصيدة. ويقول في أخرى بعنوان الظلمات: كأني رسامٌ حكم عليه إله ساخر أن يرسمَ وأسفاه على لوحة الظلام، أو طباخ مأتمي الشهية يعكف على سلق قلبه ليقتات به. القارئ لجملة (يعكف على سلق قلبه) يشعر وكأنه خارجٌ من مشرحةٍ بشرية، لكن شغف بودلير في إثارته لمشاهد مرئية قبيحة في شعره، ومدى اعتناقه للرعب والأذى. فحتى القارئ ليومياته يرصد عشقه لندبات الجدري في جسد حبيبته.
بودلير يتسلق سلم القباحة ويوظفها في أدبه وشعره، لتصل رسالته الإنسانية، ولا ننسى أن الأدب يساعدنا على فهم الحياة، وكلما أحسن الأديب أو الكاتب صنعه تماماً منحه الخلود. فهذي القباحة أو الخروج عن النمط الجمالي في الأدب والفنون ما هو إلا تحطيم الحدود بين الذات والآخر، والانصهار مع الكون والوجود. وقباحة الأدب تكمن في أمور أخرى كالكتابة ذات المفردات الفظة، والسجينة في البلاغة المعيارية، وفوضوية الفكرة، وغيرها أمور تتطلب وقفة طويلة.
- كاتبة عراقية