صدر أخيراً عن «مؤسسة الانتشار العربي» (بيروت)، كتاب جديد للزميل والباحث العراقي علاء اللامي بعنوان «نقد الجغرافيا التوراتيّة خارج فلسطين ودراسات أخرى».
كتاب اللامي هو الثاني في موضوع التاريخ الفلسطيني القديم بعد كتاب «موجز تاريخ فلسطين منذ فجر التاريخ وحتى الفتح العربي الإسلامي» (دار الرعاة ــ رام الله) الذي صدر السنة الماضية. بحثياً، يجري العمل الجديد كسابقه ضمن استراتيجية المؤلف الهادفة إلى إعادة موضعة الحدث التوراتي وبضمنه قصة شعب بني إسرائيل القديم وشبه المنقرض في التاريخ الفلسطيني العام بوصفها حيثية فرعية من حيثياته المتراكمة والمعقّدة.
يفعل الكاتب ذلك تصدياً لما فعلته وتفعله الاستراتيجيات التأليفية التوراتية ذات النزوع الصهيوني، الهادفة إلى قلب المعادلة وجعل تاريخ فلسطين الطويل والعريق حيثيةً فرعيةً صغيرةً من التاريخ والرواية التوراتية وبطريقة لا عقلانية ولا تاريخية تماماً! يضمّ الكتاب أيضاً دراسات أخرى خارج موضوع الجغرافيا التوراتية وقريباً من الموضوع الفلسطيني الأرحب ومن تاريخ الأديان. تنشر «الأخبار» مقدمة هذا الكتاب للتعريف به وبموضوعاته.
يضم هذا الكتاب ستة نصوص، منها دراستان طويلتان وأربعة مقالات أو دراسات قصيرة. ولقد شجّعني نوع هذا الكتاب وموضوعه، وكونه كتاباً غير تخصصي في الدرجة الأولى، وموجهاً أساساً إلى القارئ غير المتخصص في ميادين التاريخ العام وفروعه والعلوم القريبة منه، على اعتماد أسلوب خاص في العرض والتحليل، وألجأني إلى استعمال لغة تعبيرية خاصة هي الأخرى؛ لغة تراوح بين التبسيط المُحاذِر للتسطيح، والتحليل والعرض الملتزمين بالمنهجية العلمية المضبوطة باشتراطاتها والمفارِقة للتعقيد الأكاديمي.
وضمن سعيي للمساهمة في تثقيف جيل الشباب العربي بتفاصيل هذه المواضيع، بطريقة مبسّطة، نشرت عدداً من صفحات هذه الدراسات في هيئة مقالات صحافية أو دراسات مكثّفة ومبتسرة في صحيفة «الأخبار» البيروتية، ومجلة «الآداب» اللبنانية الشهرية إلى جانب صحف عراقية، إضافة إلى نشر فقرات ضَافية من المسودات على صفحتَي على فيسبوك وتويتر بهدف الحصول على نماذج من التفاعل المتاح والمباشر مع القراء والتعرف إلى ردود أفعالهم على بعض مضامين هذه النصوص.
الدراسة الأولى في هذا الكتاب، وهي بعنوان «أورشليم القدس في العصر البرونزي»، هي آخر دراسة كتبتها، ولكني جعلت ترتيبها الأولى لأهميتها السياقية، فهي تأتي بمثابة استدراك أصححُ عبره بعض المعطيات ووجهات النظر التي احتواها كتابي «موجز تاريخ فلسطين منذ فجر التاريخ وحتى الفتح العربي الإسلامي»، وأضيف معلومات ووجهات نظر وتحليلات أخرى جديدة، وتحديداً حول موضوع ودور مدينة أورشليم القدس في العصر البرونزي وبدايات العصر الحديدي.
أما الدراسة الثانية المعنونة «نقد الجغرافيا التوراتية العسيرية واليمنية» ــ وهي أكبر الدراسات حجماً ـــ فتتناول بالعرض والتحليل النقدي، ما بات يعرف بالجغرافيا التوراتية العسيرية واليمنية، كما ظهرت في كتب ودراسات عديدة مشهورة وأخرى أقلّ شهرة. والمقصود بالجغرافيا التوراتية العسيرية واليمنية هي تلك النظريات والفرضيات والتفسيرات التاريخية الذاهبة إلى أن السردية التوراتية وقصة شعب بني إسرائيل الجزيري «السامي» القديم، ونشوء الديانة اليهودية بكل تشعباتها ومراحلها الأساسية، لم تجرِ وقائعَ وأحداثاً في جزء من بلاد فلسطين، بل في إقليم عسير جنوب غربي المملكة العربية السعودية اليوم، كما يرى المؤرخ كمال سليمان صليبي وآخرون، أو أنها حدثت في اليمن القديم كما يذهب الباحثان أحمد عيد وفاضل الربيعي وآخرون. وسنبدأ قراءتنا النقدية مع كتابات الباحث اللبناني كمال الصليبي، أول من قال بالجغرافيا التوراتية العسيرية، حين نشر كتابه «التوراة جاءت من جزيرة العرب»، الذي صدرت طبعته الأولى سنة 1985 باللغة العربية. وفي سنة 1988، أصدر كتابه الثاني «خفايا التوراة وأسرار شعب إسرائيل»، متوقفين نقدياً عند كتاب الباحث الفلسطيني زياد منى «جغرافية التوراة: مصر وبنو إسرائيل في عسير» الصادر سنة 1994والذي يمكن اعتباره امتداداً لكتابَي الصليبي السالفي الذكر.
وبعد كتاب الصليبي الأول بتسعة أعوام، أي في سنة 1994، صدر للباحث اللبناني فرج الله ديب كتاب بعنوان «التوراة العربية وأورشليم اليمنية» وستكون لنا عند أهم ما فيه وقفة نقدية معمّقة. ولديب كتاب آخر في هذا المجال اسمه «التوراة العربية وأورشليم اليمنية»، صدر سنة 2009.
وقبل ديب، وبالضبط في سنة 1996، صدر في القاهرة، عن «مركز المحروسة للبحوث»، كتاب للباحث المصري أحمد عيد بعنوان «جغرافية التوراة في جزيرة الفراعنة». ويقصد المؤلف بجزيرةِ الفراعنةِ شبهَ الجزيرةِ العربية، وتحديداً جنوبها اليمني، التي كانت بحسب هذا الباحث إقليماً خاضعاً للدولة الفرعونية في زمن رعمسيس. وسنخص هذا الكتاب، الذي يمكن اعتباره أول تأسيس تأليفي للجغرافية التوراتية اليمنية، بوقفة نقدية عند أهم ما ورد فيه أيضاً.
الدراسة الثانية، خصصناها لقراءة نقدية في كتابات الباحث العراقي فاضل الربيعي، وهو من القائلين بيمنية الجغرافيا التوراتية. لقد خصصنا لبعض مؤلفاته دراسة خاصة، نظراً إلى غزارة نشاطه التأليفي وانتشاره، ما يجعل نقدها وبشكل أكثر إسهاباً والوقوف عند مضامينها الأهم أمراً ضرورياً ومفيداً للقارئ والباحث المتخصص في التاريخ والعلوم المتفرعة عنه والقريبة منه كعلم الإناسة (الانثروبولوجيا)، والآثاريات (الأركيولوجيا)، والتأثيل اللغوي (الإيتيمولوجي)، والتصويتي (الفونولوجي)، وعلوم اللاهوت والإلهيات (الثيولوجيا)، وتاريخ الأديان المقارن…
نناقش مجموعة من التصريحات التي كرّر فيها الكاتب المصري يوسف زيدان آراء ومزاعم باحثين ومستشرقين صهاينة
في الدراسة الثالثة، سنناقش مجموعة من التصريحات والآراء التي عبّر عنها الكاتب المصري يوسف زيدان، وكرّر فيها آراء ومزاعم باحثين ومستشرقين صهاينة، أو ذوي نزوع مؤيد للصهيونية، من قبيل نفيهم إسلامية وفلسطينية المسجد الأقصى وقدسية هذا الرمز الإسلامي عند المسلمين، وعروبة القدس ومحاولة تسفيههم لقدسيتها لدى العرب، مسلمين ومسيحيين، ومحاولتهم تزوير الحقائق والمعطيات التاريخية أو فبركة معطيات أخرى. وسنحاول في مناقشتنا لآراء هذا الكاتب الكشف عن حقيقة وجذور تلك المزاعم، وعمن أخذها، وما هي دلالاتها وأهدافها التاريخية والفكرية والثقافية وحتى السياسية، وكيف يمكن الرد عليها بالعودة إلى أمهات كتب التراث العربي الإسلامي القديمة وكشف عملية التحريف الخطرة التي قام بها المستشرقون قبله، ثم جاء هو ليأخذ عنهم ما أخذ.
وفي الدراسة الرابعة التي تحمل عنوان «العبث النقدي بعلم تاريخ الأديان: محمد آل عيسى نموذجاً»، نقرأ نقدياً كتاباً خطراً، يمكن اعتباره نموذجاً في قلب الحدث التاريخي وتزوير مفرداته وإخراجها من سياقها التاريخي الحقيقي بهدف الإساءة إليه، وإلى أشخاصه وشواخصه من رموز الإسلام ديناً وحضارةً راقية سادت ثم بادت، وإلى الطعن في صفحات مهمة من صفحات التاريخ العربي الإسلامي منذ بدء البعثة الإسلامية وحتى حروب الفتح والتحرير العربية الإسلامية.
الدراسة الخامسة والأخيرة، تناولنا فيها موضوعاً مسيساً مباشراً بمزاعم الحركة الصهيونية الحديثة وتحديداً بعلاقة هذه الحركة ومؤسسيها من اليهود الأشكناز الذين يعتبرون أنفسهم جزيريين «ساميين» ومن شعب «بني إسرائيل» شبه المنقرض، وسنعرض أحدث الاكتشافات والأطروحات العلمية في ميدان علم جينولوجيا الحمض النووي الذي أثبت بالدليل التحليلي المختبري وهن وضعف هذه العلاقة السلالية المزعومة لليهود الأشكناز بالجزيريين «الساميين» وكونهم خزريين متهوّدين ومزيجاً سلالياً من شعوب أخرى لا علاقة لها بالساميين وبني إسرائيل.
والأكيد ـــ من وجهة نظري ـــ أن ما سأقدمه في هذه الدراسات الخمس سيبقى وجهات نظر تضمّها قراءة نقدية تاريخية، تحتكم الى الوقائع والأدلة والتوثيق المحكم والمنهجية الدقيقة ما أمكن ذلك، في محاولة لمقاربة الحقيقة التي لا يمكن لأحد أن يحتكر النطق باسمها أو التعبير عنها بشكل مطلق ووحيد.
أغتنم هذه المناسبة للتعبير عن احترامي لجهود واجتهادات جميع الباحثين والكتّاب الذين تناولت كتاباتهم بالقراءة النقدية في هذه الدراسات طالما كانت كتاباتهم تلك تستهدف مقاربة الحقيقة ولا شيء غير الحقيقة.