Visit Us On TwitterVisit Us On FacebookCheck Our Feed

كيف خسرت أصنام العرب حروبها؟

محمود عبدالله تهامي

إن العرب مالوا إلى تقديس الأصنام في البداية لأنها كانت تمثل رمزاً لأب صالح، أو قطعة من أرض غالية، أو نصيحة رجل ذي شأن في قومه.

في العام الثامن لهجرة النبي الكريم، عاد محمد بن عبدالله صلى الله عليه وسلم فاتحًا لمدينته مكة التي خرج منها هاربًا بدينه وخائفًا على حياته، بعد مرحلة من الإيذاء، لكنه حين رجع إليها ووصل إلى الكعبة أو البيت العتيق، رفع طرف القوس إلى عيون ووجوه الأصنام، يدفعها فتهتز وتقع وتتحطم سريعًا، لحظتها هتف النبي مُنتصرًا: جاء الحق وزهق الباطل إن الباطل كان زهوقًا.

جسَّد هذا المشهد لحظة انتصار النبي، كونها اللحظة الحاسمة في تاريخ عبادة الأصنام والتي ترجع لتاريخ طويل للغاية يبدأه مؤلف كتاب “الأصنام” مع الجيل الأول لأبناء آدم أبو البشر.

وتصدى ابن الكلبي “أبو المنذر هشام بن محمد بن السائب الكلبي”، الذي ولد في الكوفة وتوفي في العام 204 هجرية، لجمع الأخبار المتناثرة والشفاهية عن معبودات العرب قبل الإسلام، في كتابه “الأصنام”، حيث ساهم في إلقاء الضوء بصورة عريضة على الحياة الدينية عند العرب في تلك الفترة.

تصورات حول عبادة الأصنام

تمتع ابن الكلبي بصفات علمية مميزة، لأنه أظهر مزيدًا من الحذر تجاه عدد من الروايات التي نقلها، وهذا لا يعني صحة ما نقله تمامًا، فالقارئ لا يخفى عليه مدى تناقض عدد من المرويات مع العقل والتاريخ، لكنه على أية حال ظل الكتاب محط أنظار الدراسات التاريخية والفلسفية التي تتجه للحياة الدينية في هذه الفترة القديمة.

ويمكن لقراء كتاب “الأصنام” أن يلحظوا الجهد المهم الذي قدمه ابن الكلبي على مستويين: الأول في محاولة نقد الرواية التي يثبتها في الكتاب، والثاني في التفسيرات التي طرحها في شكل تصورات حول تعلق الجزيرة العربية بهذا النوع من المعبودات.

ولأول وهلة تبدو فكرة تطور الأمر من الحب إلى العبادة مقبولة نوعًا ما، وخاصة في بيئة كان الجانب الروحي فيها غير مُعززٍ، لذا رأى المؤلف أن المواطن المكي عبَّر عن حُبه لبلده بحمل قطعة من حجارتها معه في رحلته، يضعها في حلوله ليطوف بها، وذلك في استعادة واضحة لطقوس الطواف حول الكعبة، وتطور الحب تدريجيًا، وتحول الحجر إلى صنم، وتبدلت الصبابة إلى عبادة.

يروي ابن الكلبي أنه بعد وفاة آدم صنع له أبناء شيث تمثالاً، وضعوه في مغارة وواظبوا على زيارته، أما أبناء قابيل فقد صنعوا مجموعة من التماثيل للصالحين منهم،  ورثتها الأجيال اللاحقة، حيث حافظ الكل على نظرة الاحترام لهذه التماثيل، لكن توالي القرون ساعد في إخفاء الحقيقة، وظن الأبناء من الأجيال المتأخرة جداً أن الآباء كانوا يعبدون هذه التماثيل.

تقول الحكاية التاريخية التي ينقلها ابن الكلبي إن رجلاً نادى في قومه قائلاً: “يا قوم هل لكم أن أصنع خمسة أصنام على صورهم –يقصد الصالحين- غير أني لا أقدر على أن أجعل فيها أرواحاً. قالوا: نعم. فنحت لهم خمسة أصنام على صورهم ونصبها”.

هذه الحكاية مجهولة النسب والزمن، ويمكن الاهتداء إلى لحظتها التاريخية القديمة إذا كان المقصود بهذه الأحجار الخمسة: ود وسواع ويغوث ويعوق ونسرا. لأنها كما وردت في القرآن الكريم هي الأصنام المنسوبة إلى قوم نوح.

وطمر طوفان نوح الأصنام الخمسة، لكن الأخبار المختلفة تقول إن عمرو بن لحي الخزاعي، كان على دراية بالتواصل مع الجن، فأرشدته إلى مكانها فأخذها عند الحرم ونشرها بين الناس، بينما ترى أقوال أخرى أنه شاهدها في بلاد الشام أثناء رحلاته التجارية فجلبها معه، أو رحلته العلاجية كما جاء بكتاب الكلبي.

وبحسب هذه الآراء، فإن العربي مال ناحية تقديس الأصنام في البداية لأنها كانت تمثل رمزاً لأب صالح، أو قطعة من أرض غالية، أو نصيحة رجل ذي شأن في قومه.

الكعبات.. بيوت العرب الدينية

أخذت الكعبة شهرة في بلاد العرب لارتباطها بقصة الأب المؤسس إبراهيم وابنه إسماعيل، لكنها لم تكن الوحيدة، فقد رصد الكتاب عدة بيوت أو كعبات أخرى للعرب، حيث كان لحمير بيت في صنعاء يقال له “ريام” وصل مصيره للهدم بعدما تحولوا إلى اليهودية، وشيدت بنو ربيعة بن كعب بيت “رُضى” الذي هدمه المستوغر بعد الإسلام، واتخذ بنو الحارث بن كعب بيتًا في نجران، وإياد حددت لها كعبة في منطقة بين الكوفة والبصرة. ودعا رجل اسمه عبد الدار بن حديب قومه من بني جهينة؛ لبناء بيت يضاهي كعبة قريش لكنهم رفضوا، وكنيسة “القليس” بناها أبرهة الأشرم من الرخام والخشب الجيد المُذهب، وتعمد رجلان أن يتغوطا فيها ما أثار غضب الأشرم.

تبجيل العرب لمعبوداتها

تطوف العرب حول معبوداتها تعظيمًا، يذبحون لها ويفرقون اللحوم على الحاضرين، يضربون لديها الأقداح ويأخذون بالنتيجة كونها آتية من مصدر مقدس، ويشير ابن الكلبي إلى أن الحارث بن أبي شمر الغساني ملك غسان، أهدى سيفين إلى أحد الأصنام، الأول يحمل اسم “مخذم” بمعنى القاطع، والثاني أخذ اسم “رسوب” بمعنى الماضي في الضربة. وورد ذكرهما في شعر علقمه بن قيس، وبعدما هدم المسلمون الصنم واستولوا على السيفين، تصرف النبي بأن وهبهما إلى الإمام علي بن أبي طالب، فكان منهما السيف المشهور “ذو الفقار” الذي خاض مع “علي” غمار معاركه الضارية.

وتقود المخاوف التي نشبت في صدر أحد وجهاء مكة واسمه أبو أحيحة سعيد بن العاص بن أمية، إلى البكاء عندما اشتد عليه المرض، ما دفع زائره عبد العزى بن عبدالمطلب المعروف بأبي لهب، إلى التعجب والسؤال: لماذا تبكي؟ هل من الموت وهو شيء لابد منه؟

تختلف أسباب أبي أحيحة تمامًا فهو ليس بالرجل الذي يخاف الموت كما يشير أبو لهب، لكنه يخشى أن يأتي يوم يموت وتنتصر فيه المزاعم التي تقلل من شأن عبادة العزى، فهو لا يحب أن يرى أحدًا يصفها بالباطل، ولحظتها يطمئنه الزائر ويهوّن من هذه المخاوف، فعبادة العزى لم تكن يومًا لحياة أبي أحيحة لذا لن تنتهي مع مماته، فهي سابقة عليه وباقية لما بعده، هذه الصلابة والعزيمة جعلت المريض يقول راضيًا: الآن علمت أن لي خليفة.”

استهانة العرب بمعبوداتهم

في النهاية يمكن معرفة أسباب خسارة آلهة العرب القديمة مناطق نفوذها وتبجيلها، أو ما يمكن أن نسميه الخذلان في أرض المعركة، وفي كسب المؤمنين والأتباع، هذا بتفقد مرويات كتاب الأصنام.

ولكن، هل يستطيع الإله التدخل لدفع الشر عن أتباعه المؤمنين إذا كان يتفق معه الوصف بـ”كلي الخير” و”كلي القدرة”؟

لقد سجل ابن الكلبي في كتابه العديد من المواقف التي ينسجم معها تمرد العربي على آلهته، حيث تظهر صورة الإنسان الذي يضع هذه المعبودات محط المساءلة، فهو لم يعد متحملاً عبادة آلهة غير قادرة على دفع الأذى، ولا تستطيع استرداد حتى حقوقها، أو حفظ كرامتها، وتقف عاجزة أمام احتيال القائمين على خدمتها ما يعرفون بـ”السدنة”، وفي نفس الوقت لا تتصف بالعدل، فهي جائرة في أحكامها.

في قصة الشاعر إمرئ القيس- ووفق كتاب ابن الكلبي- يذهب لطلب الشورى ويضرب الأقداح لدى صنم “ذو الخلصة” ولما جاءت النتيجة عكس ما يحب، وبَّخ الإله، وكسر القداح، وضرب بها وجهه، ثم غزا بني أسد فظفر بهم، فقيل إن امرأ القيس أول من نقض عهده مع الإله.

وفي قصة أخرى نجد بني كنانة التي تعبد الإله “سعد”، وهو صخرة كبيرة غارقة في الدماء لكثرة الذبائح، فلما أقبل رجل بإبله ليقف تجاه الصخرة ويتبرك بها، فزعت الإبل وهربت منه؛ ما أغاظ الرجل وجعله يقف أمام الصنم قائلاً: لا بارك الله فيك إلهًا أنفرت علي إبلي”. ومثل هذا نفرت ناقة من صنم “سُعير”، بينما بالت الثعالب على رأس “سواع”، فقال الشاعر: “إله يبول الثعلبان برأسه.. لقد ذل من بالت عليه الثعالب”. وسرق مالك بن حارثة الأجدري اللبن المقدم إلى صنم “ود” وشربه من دون الخوف من عقاب الإله الذي أخذ شكل الفارس المستعد للقتال، وبحسب ابن الكلبي فإنه رأى بعد الإسلام خالد بن الوليد يهدم ذلك الصنم الفارس.

وشاهد عدي بن حاتم الطائي يومًا مالك بن كلثوم الشجمي يتطاول على إله يقال له “الفلس” ويهدد خدم هذا الإله، لحظتها غضب “عدي” وأمهل “مالك” بعض الأيام حتى تنزل به لعنة “الفلس”، لكنه لم يحدث شيء فتحول عدي إلى المسيحية.

ظهور الإسلام

في كتابها “تجارة مكة وظهور الإسلام” تعتقد المستشرقة الدنماركية باتريشيا كرون أن الإسلام لم يكن ظهوره استجابة مباشرة لوضع اجتماعي معقد أو اقتصادي خاص بتجارة مكة، لكنه يُمثل بناء دولة وخلق شعب، أي أن مظهرها السياسي مقصود منذ البداية.

تستبعد كرون أن تكون تجارة مكة سببًا في التعصب ضد النبي محمد، لكن السبب كان في مهاجمة النبي للأسلاف وخلخلة البناء التقليدي للقبيلة، حيث قدمت رؤيتها حول علاقة العربي بالإله، فهي ترى أنها علاقة براغماتية، تدفعه الحاجة العملية لرفض معبود أو تغييره لصالح معبود آخر من دون إحساس بتأنيب الضمير، فـ”الله” لدى العربي ليس أكثر من قوة موجودة تستخدم لتأييد أتباعه، وتستدل بعدد من المواقف التي رواها ابن الكلبي ومنها قصة البدوي الذي فزعت إبله من صخرة “سعد” فقال: قدمنا لسعد حتى يستطيع أن يجمع بيننا ولكن سعدًا خيب أملنا ولذلك لم نستطع أن نفعل شيئاً لسعد فما هو إلا صخرة. وبالطريقة نفسها هجرت قبيلة بأكملها معبودها المحلي واعتنقت المسيحية عندما شُفي زعيمها من المرض على يد أحد الرهبان.

تشير كرون إلى تنوع المعبودات وتنقل العرب فيما بينها من دون الشعور بالذنب، لذا لم يضايق الإسلام مكة إلا في تهديده لأسس وجود القبيلة، فهذا التهديد كان يقابل عادة بالطرد من القبيلة أو القتل ما لم يحمه أحد ببسالة.

وتؤكد كرون أن آلهة القبيلة لم يتضح فيها الجانب الروحي، ولم تتدخل بشكل عميق في حياة الفرد اليومية، ولم تنحز لأتباعها؛ لذا كان من السهل هجرها إلى رب الإسلام لأنه قدم لهم برنامجًا لإنشاء أمة تتوسع وتغزو العالم من حولها وتسيطر على كثير من الموارد عن طريق الفتح وإعلان الجهاد.

ومن المتوقع أن تكون المادة التي وردت في كتاب “الأصنام” عن لحظات تمرد العرب هي التي أسست لعقلية البعض المتشككة والقلقة تجاه كثير من المعضلات والأزمات الدينية، ما يجعلها أكثر قابلية لما سيأتي من فلسفة عندما تحتك مع الأمم الأخرى بعد انتشار الإسلام وغزو العرب للأمم من حولهم.

Share

التصنيفات: ثقافــة,عاجل

Share