عبد المجيد التركي
من هنا جئت..
هنا كان أول أنفاسي، وأول ضوء أراه.
روحي معجونة بالغيم والصخر.. بالمطر واليباس.. بالندى والشمس..
شهارة.. قرية نبتت بين أصابع الأزل.. كأنها شهقة الجغرافيا ونبضة التاريخ الأولى.
ما تزال آثار أقدامي الصغيرة في ذاكرة أحجارها، وما أزال أحتفظ بكحل الجامع الكبير في عيوني.
من يترك كل هذا الترف ويعيش في مدينة تسعل لكثرة امتلائها بالإسمنت والغبار؟!
سأعود، ذات يوم، لأبحث عن ذلك الولد الصغير الذي كان يقلّب (جزء عم) وهو مندهش بألوانه الصفراء والحمراء، ونقوشه الهندية أو الباكستانية.
بيتنا ما زال شامخاً يطلُّ على الغيم، وبصمات أصابعنا تضيء على جدرانه، وتطرق بابه العتيق. ما زال ممتلئا بتسابيح أجدادي وآبائي.. كان الصبح يعرفهم، وكان الغيم يتوقف ليتأمل لحاهم البيضاء ووجوههم الرضية.
سأعود لأنثر روحي ورائحتي بين أزقتها.. ستعرفني لأنها حرضتني على التمرد منذ أن كنت أكتب بالقلم في الهواء وأستغرب لماذا لا يظهر خطي.!!
تعرفني منذ أن كنت أمسح كل بيت وجدار ثم أعيد يدي لأمسح بها وجهي وصدري، كما يفعل المريدون في العتبات المقدسة.
كنت أحفر اسمي على الصخور الكبيرة، وأدون التاريخ، في وعي مبكر لتوثيق ذكرى خشية أن يباغتها النسيان.
أحتفظ برائحة الحوانيت، وروائح الديناميت في مقالع الأحجار، ورائحة البارود الشهية حين تنبعث من “الطمش” الصيني الذي كنا نسميه “أبو حمامة”. كان الأطفال يتبولون على أيديهم حين تنفجر فيها طَمَشَة ذات فتيل مستعجل.
على هذه الجبال تنهار علامات التعجب، وتتلاشى الأسئلة لانعدام إجاباتها.. وكأن هذه الغيوم أرواح تحرسها وتلفها كي لا تراها مدن الإسمنت.
كيف لي أن أكتب عن شجن بداخلي يكفي لإغراق باخرة؟!
وعن روائح أتمسك بها كالقابض على جمر؟!
وعن مياه كانت تخرج حارة من أنفي بعد أن يربطني أبي ويلقي بي إلى الماء بفم مفتوح لأتعلم السباحة..
عن “راحة الحلقوم” التي كانت عندي بمثابة اكتشاف الجاذبية، وصور عبدالناصر ووردة الجزائرية وسميرة توفيق مطبوعة على قرطاسها.
في مساجدها تجد الله.. وفي وجوه شيوخها ترى عصوراً من البهاء والحقيقة.. وفي شوارعها الصغيرة تمشي النساء بثقة الأولياء الذين كانوا يمشون على الماء.
لم أقل كل شيء.. أصابعي الآن مشغولة بعدّ أقراص الزلابيا في مطبخ أمي.