عبدالدائم السلامي*
نزعم أن في عودة عددٍ من رواياتنا العربية إلى حاضنة النثر العربي القديم، واستثمار كُتابها لبعض فنونه، مع السعي في الآن ذاته إلى الاستفادة من مجلوبات السرد الغربي، أمرٌ ينبئ بحيرة الذات الكاتبة بين أن تتعلق بالثوابت من منجزات النثر العربي القديم من قبيل النادرة والخطبة والمقامة والرسالة وغيرها، وأن تنفتح على الوافد من مقولات السرد الحديثة.
ولا نخال هذه الحيرة إلا ممزوجةً بإحساسٍ عميقٍ بالهوان الحضاري، وبالرغبة في البحث عن جذور نثرية لتأصيل الرواية العربية في تُربة سردية خالصة، تُبعد عنها الشبهةَ بكونها نتيجَ ثقافة غربية. ونرى أن مسألة العودة إلى التراث النثري تحولت إلى مطلب بحثي وإبداعي بعدما كانت في كل نص علامة على «ماضويته»، ولعل بحثَ محمد القاضي في بنية الخبر العربي ضمن عمله الموسوم بـ«الخبر في الأدب العربي: دراسة في السردية العربية» واحدٌ من جملة بحوث انصب الاهتمام فيها على تأكيد وجود سردية عربية ضاربة في القِدم، ولها مقومات السرد الحديث؛ ذلك أن «سرعة التطور ما لبثت أن دفعت القوم إلى التراجع، فأخذت هذه المعارف (يعني هنا الخبر والنادرة والمقامة والرسالة وغيرها) تتسرب من جديد إلى حقل الدراسات الأدبية، وقيض لها أن تلقى بعد المناوئين أنصارا، وتجدد الاهتمام بها، وعادت لتتبوأ المنزلة التي هي بها حقيقة».
وفي السياق ذاته، لا يُخفي الباحث سعيد يقطين في كتابه «السرد العربي: مفاهيم وتجليات» سعيَه إلى رفع الغُبن عن التراث العربي، خاصة منه التراث النثري، والدعوة إلى فهمه واستثماره، بعيدا عن أحكام الناس ووجهات نظرهم، التي اُعتبر التراث فيها «رديفا للماضي. وهذا الماضي اعتبر مرة رديفا للتخلف والانحطاط، ومرة مصدرا للاعتزاز وللفخار. وبذلك رأى البعض أن التقدم مشروط بتجاوزه، والابتعاد عنه.
ورأى البعض الآخر أن التراث هو النموذج الذي علينا أن نحتذيه لنسترجع المكانة التي كانت لنا في الماضي، والتي تحققت لنا بواسطته». وأمام هذا التمايز في المواقف من التراث، دعا يقطين إلى ضرورة تنزيله منازل جديدة في منجزاتنا الفكرية والإبداعية، إذ «لا يمكن إلا أن نظل نفهم التراث، ونتعامل معه كما نريده أن يكون، وليس كما هو: بمختلف روافده، ومكوناته، وتناقضاته». وانتبه يقطين إلى أن «المبدع العربي على وجه الإجمال كان أكثر دينامية وتحررا في تعامله مع التراث العربي ـ الإسلامي بمقارنته بغيره ممن تعاملوا معه بحثا ودراسة».
وهي خلاصة نجد لها تمثيلا في كتاب يقطين «الرواية والتراث السردي» الذي اتكأ فيه على مقولة التناص، ليثبت مظاهر التفاعل النصي بين الرواية العربية الحديثة والنص النثري التراثي، واختار للتمثيل لذلك روايات «الزيني بركات» لجمال الغيطاني من جهة تأثرها بكتاب ابن إياس «بدائع الزهور في وقائع الدهور» و«ليالي ألف ليلة» لنجيب محفوظ في اتصالها الفني مع كتاب ألف ليلة وليلة، بل إن يقطين يرى أن التفاعل مع التراث عامة هو علامة من علامات تطور الأمم، ذلك أن «الأمم في كل حقبة من حقب تطورها مدعوة إلى تجديد النظر في تاريخها وتراثها بما يتلاءم وتصوراتها الجديدة وتطلعاتها الحديثة. وهذه المسألة ليست وقفا على الأمة العربية دون غيرها. كل الأمم في كل مرة تعود إلى تاريخها، وتعيد قراءته والنظر فيه بمنظور جديد ومغاير، وفق ما تمليه عليها المعارف الجديدة التي حصلتها في مسيرتها، وتبعا للإكراهات والمتطلبات التي تفرض نفسها عليها في راهنها».
ولما كانت العودة إلى التراث عامة، والتراث النثري منه بالخصوص، أمرا تفرضه إكراهات الحداثة، وحاجات الواقع المعيش، فقد تبين لبعض الدارسين أن مثل هذه العودة التي نجد لها مظهرا في الرواية العربية الحديثة، إنما هي تدخل ضمن ما تجوز تسميته بتأصيل الرواية لذاتها السردية، عبر سبيليْن مختلفتيْن ولكنهما يبلغان بها الهدفَ ذاته: السبيل الأولى تنهض على فكرة التخفف من ثقل انتمائها إلى الرواية الغربية، وصورة السبيل الثانية هي البحث عن نقطة ارتكاز في أرض السرد العربي.
ويبدو أنه عبر هاتيْن السبيليْن ظلت الرواية العربية تتلمس منافذ خروجها من حال اغترابها بين الثوابت والمتغيرات، التي وصفها الباحث محمد رياض وتار في كتابه «توظيف التراث في الرواية العربية» بالقول إن الرواية العربية عاشت اغترابين، «فكما اغتربت بسبب تقليدها للرواية الغربية، فقدت هويتها أيضا بسبب تقليدها للتراث، وكان عليها ـ وهي تسعى إلى إيجاد هويتها ـ أن تصارع ضد هيمنة تيارين: التراث، والغرب، واستطاعت ـ بعد لأْي ـ أن تتخلص من هيمنة الرواية الغربية عبر التوقف عن تقليدها، وتمكنت من التخلص من هيمنة الشكل التراثي، بإعادة توظيفه والإفادة منه». ويبدو أن مطلب «الملمح العربي الخاص» الذي ينشده كتاب الرواية الحديثة في محاورتهم لنصوص مدونة التراث النثري، لا يتأتى إلا عبر تخليص النص التراثي من إكراهات تاريخه القديم بجميع مجالاته الفنية والسياسية والدينية والأخلاقية والاجتماعية، وحفزه على صناعة تاريخ له ذي ملامح أدبية وجمالية جديدة.
- كاتب تونسي