رامي أبو شهاب*
العنف أحد الظواهر التاريخية التي تشكلت مع نشوء الإنسان، حيث لم يتوقف البشر عن النظر إليه بوصفه الوسيلة المثلى لفض النزاعات، غير أن هذه الظاهرة اتخذت مع الزمن محمولاً ثقافياً، كما تكوينا رمزياً أو علاماتياً بات يمارس دوره في بناء الدلالات، التي تنوب عن الفعل في بعض الأحيان، ولعل تاريخ البشر لا يمثله سوى هذا العنف الذي يكاد يتخلل كافة الحقب الزمنية، وفيه تبرز محورية الهيمنة بوصفها هدفاً لممارسة العنف.
فالإنسان في العصور القديمة كان ينظر للقوة لتمكين هيمنته على قطاعات جغرافية، حيث يمنع الآخر عن الاستفادة من تلك القطاعات، سواء أكان بالرعي أم بالصيد.
وهكذا تضافرت عوامل الجغرافيا والعنف والهيمنة في تشكيل ما يمكن أن نطلق عليها مناطق النفوذ، في حين أن العنف يرتبط بشكل مباشر بالقوة التي تمتلك صيغة معينة، لا يمكن أن نقصرها على القوة الجسدية، إنما هي تتعدد بتعدد الآليات والمظاهر، غير أن اللافت للنظر أن القوة ليست كياناً ملفقاً أو ساذجاً من القدرة على إحداث الضرر، إنما تطورت صيغتها عبر الزمن لتصبح القدرة القائمة على امتلاك المعرفة، وهي إحدى الصيغ المابعد كولونيالية، ولكن الأهم أنها تطورت في ما بعد بفعل العولمة، لتتحول ظاهرة العنف إلى ممارسة شاملة ومستترة.
يمكن القول بأن العنف في المجتمعات العربية، بات يشكل قدراً من الفائض عن الحدود، كونه بات منتشراً على المستوى الفردي، فهو نتاج ثقافي أسهمت فيه مؤسسات وتكوينات متعددة بدءاً من العنف المجتمعي، الذي يعني وجود خلل بنيوي في قدرة الدولة على تمكين بنود العقد الاجتماعي القائم على توفير الحماية والأمن، مقابل قبول الأفراد أو خضوعهم لسلطتها، فضلاً عن انصياعهم لمبدأ اقتطاع الضرائب لصالح مقولة دولة آمنة، غير أن أي خلل في هذه الصيغة، يعني تخلي الدولة على دورها الذي نشأت من أجله، حيث تحلّ الفوضى التي لا تتيح نمو أي شكل من أشكال الحياة الطبيعية التي تتصل بالأمن والرفاه والحياة تحت حكم القانون.
وإذا كانت ظاهرة العنف أكثر التصاقاً في طابعها الفيزيائي أو الجسدي، وما ينتج من آثار مادية، فإنها تتصل أيضاً بالأثر النفسي، كما نجد في التعريفات المعجمية لمفردة العنف، حيث ترى الموسوعة البريطانية أن ظاهرة العنف هي سلوك شائع بين البشر، يعود لعدة أسباب منها ما هو وراثي جيني، ومنها ما يتصل بالتنشئة الاجتماعية، أو نتيجة أمراض عضوية، أو اختلال كيميائي، فضلاً عن عوامل الثقافة، وغير ذلك، فظاهرة العنف تترك أثرها على المجتمعات بصورة مباشرة، كونها تنشئ ما يمكن أن ننعته بالصدمة (اضطراب ما بعد الصدمة ) التي تنشأ نتيجة التعرض لحدث ما، وحينما تنتج الصدمة عن نتيجة عنف ما، ربما يتصل تأثيرها في المجتمع، فتظهر آثار العنف ضمن تكوين جمعي، حيث تفقد بعض المجتمعات القدرة على أن تستشعر معنى وجودها في غياب آليات رادعة للعنف.
إن العنف لا يمكن أن ينشا إلا في حاضنة، كما ينتج بفعل أسباب وعوامل سياقية، فالكثير من الدراسات التي درست العنف المجتمعي ترى أنه يتعالق بشكل مباشر بالفقر، ولكن لا يمكن أن نقصر ذلك على هذا السبب كون الفقر ينتشر في الكثير من المجتمعات، غير أن تطور العنف في بعض المجتمعات (تحديداً) يكاد يفوق ما يمكن أن نتخيله حتى في أفقر المجتمعات؛ مما يعني بأن ثمة خللاً ثقافياً واضحاً، حيث تغذي بعض الكيانات الداخلية العنف، لتجعله نمطاً وسلوكاً مجتمعياً عبر التغاضي عنه، أو ربما تكون حاضنة له لتحقيق مصالح خاصة أو ذاتية، فبموازاة الفقر، ثمة غياب لمناخ الوعي النقدي الحضاري، بالإضافة إلى تراجع المنظومة التعليمية فتنشأ خطابات العنف التي تقتات على مفاهيم منحرفة قوامها القوة في مجتمعات لا تحترم الضعيف، وهذا يظهر جلياً ضمن بناء الصياغات اللغوية، التي تتبادل بين أفراد المجتمع، الذي يرى بأن القوة تتحقق بسحق الآخر؛ ما يعني تبلور منظومة ثقافية مجتمعية تستقوي بظاهرة الكم والعدد، ولاسيما العشائري والقبائلي، والتجمعات العرقية، بالتضافر مع واجهات النخب المستترة، التي تمارس إنتاج العنف تبعاً لمصلحتها الذاتية، حيث تتوصل إلى قناعات أنها فوق الجميع.
العنف لا يمكن أن ينشا إلا في حاضنة، كما ينتج بفعل أسباب وعوامل سياقية، فالكثير من الدراسات التي درست العنف المجتمعي ترى أنه يتعالق بشكل مباشر بالفقر، ولكن لا يمكن أن نقصر ذلك على هذا السبب كون الفقر ينتشر في الكثير من المجتمعات. |
أغلب الدراسات ترى بأن القضاء على العنف لا يمكن أن يتحقق إلا عبر استهداف الفئات العمرية، حيث تلعب التنشئة والقيم المعرفية دوراً في محاربة العنف، ومقاومته، حيث تشير الدراسات إلى أن القضاء على العنف، يبدأ من المدرسة من خلال إطلاق عملية تثقيف منهجية تتصل ببناء المناهج، كما تدريب المعلمين وأولياء الأمور على مقاومة هذا السلوك من خلال التنسيق، ولهذا فإن انتشار العنف في المدراس والجامعات يعني أن قيادات التعليم تعاني من عنف مستتر كونها نتاج مبدأ المحاصصة، ومصادرة حق الشخص الأكفأ على المستوى المعرفي والمهني، فمعظم النخب المعرفية، لم تمارس وجودها عبر الفعل الحضاري القائم على مبدأ العدالة وقبول الآخر، إنما هي نتاج نظام ثقافي متحيّز في المقام الأول نشأ على التقسيم والمحسوبية.
إن توفير حواضن العنف ليست مسؤولية مجتمعية محدودة، إنما هي نتيجة عدم وجود إدارة حقيقية تُعنى بتمكين النموذج الحضاري في وعي المجتمع، وهذا ربما يكون جلياً في غياب فرض ثقافة الاحتكام للقانون، وتجاوز متتاليات الموروثات التي نحتكم إليها، بحيث تقضي على أي فهم حقيقي لمعنى القانون بوصفه الأداة الوحيدة للمحافظة على توازن الإنسان، فلا جرم أن تنشأ الدراسات التي تعنى بهذه الظاهرة تحت مسمى نظرية العنف المجتمعي، وهي أحد الحقول المعرفية التي تهتم بتشخيص حالات العنف على الأفراد، ولاسيما النساء والأطفال، مع نقد بعض التوجهات الاجتماعية التي تصرّ على تحميل المرأة، أو الضحية (على سبيل المثال) مسؤولية العنف الذي تتعرض له.
نقرأ لدى مصطفى صفوان ـ أحد أبرز علماء النفس العالميين- تحليلاً لافتاً ومثيراً لظاهرة العنف في العالم العربي، حيث يقرنها بتطورات العولمة، ونشوء ما يمكن أن ننعته بالمتعة، التي نتجت عن فعل مظاهر (عولمة المتعة) التي تعلي من شأن تحقيق الرفاهية، وبذلك فإن قيمة الرغبة بالامتلاك، أفرزت هذه النماذج العدائية لدى بعض البشر، خاصة رغبة الاستحواذ على أكبر قدر من المكاسب عن طريق أقصر الطرق؛ ولهذا فإن رعاية العنف غالباً ما ترتبط بمرجعيات ذات طابع اقتصادي واضح، فلا جرم أن ينعتها مصطفى صفوان باحتكار المتعة، ذات الأثر الرأسمالي حيث العملة أو المال أصبح (الطوطم) الجديد، الذي يعني التضحية بكافة القيم الإنسانية لحساب تحقيق العائد النفعي لنخبة صغيرة تحتكر المتعة؛ وبناء على ذلك فإن العنف ينتج في مجتمعات تعاني من الحرمان، ولاسيما في تقاطعها مع مشاهدات تنقلها القيم الرقمية الجديدة، بما في ذلك الإعلام، خاصة نماذج من الرفاهية والبذخ، في حين أن هذا لا يمكّن توفير هذه النوعية من الحياة للجميع، فلا عجب أن يظهر الاحتقان النفسي، الذي يزيد من تفاقم العنف مجتمعياً، ولاسيما حين يتداخل مع منظومات متخلفة، تصون ممارسة العنف بحجة الحواضن القبلية، أو حواضن النخب، أو التكتلات المجتمعية القائمة على اللون أو العرق أو غير ذلك.
ربما كان توصيف مصطفى صفوان للعنف، من خلال تأكيده على ثلاثة عوامل، ما يعد اختزالاً متبصّراً، حيث يرى أن المشكلة تكمن في السلطات وفسادها، بالإضافة إلى الحرمان، وأخيراً شيوع الثقافة السياسية، التي تسعى للقضاء على أي معارضة من خلال السجن أو العقاب، في حين أن غياب أي مساءلة للنخب سيسهم ـ بلا شك – في إنشاء مجتمع منفلت، غير أن الأكثر استهجاناً أن تغيب المؤسسات التشريعية عن القياد بدورها، وربما تكون هذه المؤسسة جزءاً من إنتاج ظاهرة العنف، كونها ترعى هذا التشوه المجتمعي وتتجاهله.
- كاتب أردني فلسطيني