شادية الاتاسي*
كنت يافعا عندما غادرت مدينتي الصغيرة، في ليل مظلم، أمي وضعت على النافذة قنديلاً ملأته زيتاً ليبقى متوقداً، يقاوم العتمة والريح، كنت أسير وألتفت ثم أسير، ضوء بيتنا كان يتلألأ خلال الضباب والظلام، ظلّ هذا النور في النافذة الصغيرة يضيء قلبي لسنوات طويلة، وأنا أجوب العالم الواسع ولا أستريح.
مشهد الرحيل كان حاضرا بقوة في حياتنا، هو قدر في بلادنا، شاركنا دائما مسار الحياة، كل البيوتات فيها ركن فارغ، لغائب، وفيها مشهد وداع، وفيها وعد بالعودة.
لن أغيب طويلًا يا أمي، قلت لها. هكذا كنت أعتقد.. وعد يستكين في عمقه شعور مبهم بالذنب، ربما لن يتحقق، بعودة ما، في يوم ما.
كانت أمي ظل الزمان، لكني أردت أن أبحث عن ظلي الخاص. في قلبي كان يؤرقني حلم، توق مبرح، أن أغرس روحي في فضاءات لم أطأها قبلاً، أردت أن اقتحم الدنيا، أردت أن أحيك حكاياتي، من نسيج اللغات التي أتقنتها.
كتبت الكثير من الكتب، كتبت عن جدلية الزمن والحلم المفقود، أردت أن أبرهن على أن كل شيء له علاقة بكل شيء في هذا العالم، فأما أن تكون فاتحا في كافة المجالات أو لا تكون، كتبت عن العلاقة بين الفتوحات الفكرية والفتوحات الغرامية، أردت أن أبرهن أن الناس في هذا العالم لا يريدون أن يلتفتوا ويروا ما يجري حولهم، لا يريدون أن ينصتوا الى الإيقاعات والأنغام التي يفيض بها العالم، لكن امي الأمية هزمتني، كان لها رأي آخر، قالت لي يا ولدي، لا أفهم لماذا يجب عليّ أن أتقن لغة الآخر، وهو لا يعرف لغتي ولا يتقنها.
لكل إنسان لغته، أحب لغتي، هي لحني وصوت قلبي. عندما كنت صغيرا، قصت عليّ حكاية الوزة، قالت: صحيح أن الوزة تعرف الغطس والسباحة، ولكنها لن تكون ابدا كالسمك. وصحيح أنها تعرف الطيران، ولكنها لن تكون أبداً كالطيور، وتعرف أن تغني ولكنها لن تكون أبدًا كالشحرور.
تقول أمي…
إصغ إلى الحكايات يا ولدي، ضعها في قلبك، دع شذاها ينفذ إلى روحك بعمق.
بقي صوت الحكايات التي كانت تسردها أمي، في ليالي البرد، تهدل كرجع أغنية بعيدة في أذني، حيث الرائحة والدفء والروح، وصوت الكستناء يتفلق على ظهر الموقد، كنت أنصت بشغف إلى حكايا الأوطان، حكايا الهجر، وهي تعطيها من خصوصيتها، وحنيتها ودفئها. كانت تقص لي حكايات الذين سافروا بعيدا، وأولئك الذين صمدوا في أرضهم، تقص عليّ قصص الأنهار وتفتح الأزهار، والنحل الذي يحوم حولها ويرتشف رحيقها، حكاية السنبلة، والمطر، وقوس قزح بألوانه الجميلة.
عندما كنت طفلا بعيدا عنها، كانت الليالي تمرّ، لا أعرف للنوم فيها طعما، وأنا أنتظر في قلق زيارة أمي قادمة من مدينة أخرى، أميل بإذني لاستمع إلى صرير الباب، وتصبح الدقائق ساعات، في هذه الليالي كان جدي يهرع ليسرد لي شيئاً، يهدئني، قصة أو أغنية أو كلمة مضحكة.
أمي الأمية قالت لي، عندما تكتب قصائد الحب، أكتبها بلغتك الأم يا ولدي، قلت لها أخاف من أن لا أحسن ذلك يا أمي، قالت، لا أصدق من لغة الأم، هي صوت القلب.
كتبت لحبيبتي قصائد الحب، بلغة الحب، لغة أمي، قلت لها:
أيتها الحكايات، يا عصفي المجنون، يا حبي العصي
هل في مقدورك أن تجعلي الطريق الشتوي الطويل إلى دارها أقل طولا وأقرب سبيلا؟
هل في مقدورك أن تسمعيها كل الأغاني واللحون التي يفيض بها قلبي؟
وهل في مقدورك أن تجعليني سحابة ماطرة، لأهطل على ذرى قلبها، لتجعله أقل شجناً وأكثر رحمة؟
يا قصص قلبي، هل في مقدورك أن تقولي لها إنني لا أستطيع لها هجراً، مهما تأخرت اللقاءات، وأصبحت مستحيلة؟
لكن حبيبتي هزمتني، كان لها رأي آخر، قالت لي: يا شاعري المجنون، صحيح أنك شاعر جميل، لكنك شريك سيئ في الحب، ترتاد أرض الحب، كشاعر هائم، يريد أن يقطف الورد والقُبل والنجوى، تريده جزءاً من فتوحاتك، فتوحات لا هزيمة فيها، لا تخضع إلى عرف ولا قواعد ولا قانون، تريده ظلا مرتعشا، غامضاً، وليس نورا مبهرا، فلا تخيفني ولا ترهبني بضجيج آلامك، فقط تسلّل إلى روحي برفق، لتبقى هناك.
هزمتني أمي، هزمتني حبيبتي، هزمني الحنين، لقد ابتعدت كثيرا عن البيت، لكن ذلك الضوء البعيد في النافذة الصغيرة، مازال يشد الصبي اليافع الذي كنته يوماً.
- كاتبة سورية