عبد الرحمن مظهر الهلوش
توفي أمس السبت الناشر والصحافي السوري رياض نجيب الريس في بيروت التي نشأ فيها، متأثرا بإصابته بفيروس كورونا عن عمر ناهز 83 عاما.
وكان الريس من أبرز الناشرين والصحافيين العرب، وعرف كناشط ثقافي في بيروت حين كانت خارجة من حرب قاسية نهاية الثمانينيات، ونعاه عدد من المثقفين العرب، وقال رئيس مكتبة قطر الوطنية حمد الكواري إن عالم النشر والصحافة افتقد أحد أعلامه، منوها إلى مشاركاته الثقافية وتميز موضوعاتها وعناوينها.
وقال الدبلوماسي الأميركي المتقاعد ألبرتو ميغيل فرنانديز إنه تشرف بلقاء الراحل قبل 20 عاما، ولا يزال يحتفظ بالكتب العربية التي أهداها له، ووصفه باليساري المعارض للدكتاتورية في وطنه سوريا.
وقال الشاعر تميم البرغوثي إن الغضب على رحيله بحجم الحزن، ووصفه بأنه من أجمل الناس وأنبلهم.
والريس دمشقي المولد، لبناني النشأة، من أب سوري حموي وأم طرابلسية، ودوّن الريس مذكراته وسيرته الاجتماعية والمهنية عبر عدة كتب، بدأها بـ”آخر الخوارج”، ومرورا بـ”الصحافة ليست مهنتي”، و”زمن السكوت خيبات الصحافة والسياسة والثقافة”، و”الجانب الآخر للتاريخ”، ليأتي كتابه الحواري “صحافي المسافات الطويلة” (رياض الريس للكتب والنشر، بيروت، 2017، 335 صفحة) بمثابة الرثاء الأخير، الذي يقدم من خلاله سيرة مكتملة لمسيرته المهنية على مدى أكثر من 40 عاما.
وينتمي رياض الريس إلى عاصمتين؛ فقد ولد وعاش طفولته في دمشق، ونشأ وتعلم وعمل في بيروت.
ملاعب الطفولة والصبا
يقول رياض الريس “ولدت في دمشق يوم الثلاثاء 28 أكتوبر/تشرين الأول 1937، في بيتنا المستأجر في حي بستان الرئيس، حيث كانت حديقتنا جميلة، مصممة على الطريقة الإنجليزية، التي بهرت والدي بعد زيارته لإنجلترا عام 1947، أسماني أبي رياض تيمنا بأول رئيس وزراء لبناني بعد الاستقلال رياض الصلح الذي كان مقربا منه”.
جاء والده من مدينة حماة السورية ليستقر في العاصمة دمشق عام 1918، واستقر فيها وعمل في الصحافة السورية واللبنانية، ووصل إلى البرلمان السوري كنائب عن دمشق في انتخابات 1943، بينما وصل رياض الريس إلى مدرسة برمانا الداخلية في خريف 1948، وكان له من العمر 10 سنوات، وهي مدرسة داخلية كان الوجهاء السوريون يرسلون أبناءهم للتعلم بها.
ويروي الريس أنه تأثر بشخصية لورنس العرب، وأنه ولورنس كانت معلمتهما واحدة، وهي فريدة عقل، حيث تعلم لورنس على يديها اللغة العربية. ومن برمانا إلى إنجلترا غادر رياض الريس في صيف 1956 ليتابع تحصيله العلمي، حيث درس في جامعة كامبريدج، وتعرف إلى كثير من رجال الثقافة والسياسة، ومنهم: المفكر العراقي خير الدين حسيب، والشاعر الفلسطيني توفيق صايغ، ومواطنه المؤرخ الفلسطيني أنيس صايغ، والشاعر خليل حاوي، والأمير رعد بن زيد، وقيس السامرائي، وآخرون.
في سنواته الأخيرة، أسبغ على نفسه لقب “صحافي متقاعد”، وهو ليس متقاعدا، وإن أقعده ظرف صحي طالما حذره منه الأطباء والأصدقاء، ونصحه أحد الأطباء بأن “الفشل الكلوي قادم ما لم تكبح إفراطك في الإقبال على الحياة”. وهكذا أصيب بهذا الداء مطلع عام 2011، قبل أن يرحل متأثرا بعدوى مرض كورونا.
قطوف المهنة البريئة
يقول الريس “قادني شغفي المعروف بالعمل الصحافي إلى حيث تربيت في بيت صحافي وسياسي بحكم أن والدي نجيب الريس كان صاحب جريدة القبس الدمشقية”، لذلك لم يكن عند رياض الريس شك، منذ اليوم الأول الذي أنهى دراسته في مدرسة برمانا الثانوية في بيروت، في أن يقوده الدرب إلى الصحافة، وبحكم صداقة والده مع أقطاب الصحافة اللبنانية آنذاك؛ جبران تويني (مؤسس صحيفتي الأحرار والنهار)، وسعيد فريحة مؤسس دار الصياد، في هذا الجو الصحافي، اشتد التنافس على رياض الريس بين غسان تويني وكامل مروة، مؤسس الحياة، وسعيد فريحة، من أجل أن يعمل معهما.
يؤكد الريس ذلك في كتابه “آخر الخوارج”، ويقول “عندما عدت إلى لبنان بعد دراستي في بريطانيا في صيف 1961، بادرني سعيد فريحة بالقول: اذهب إلى أول مكتب على اليمين تجد طاولة وكرسيا، وابدأ الشغل فورا”.
ويتابع “هكذا بدأت حياتي المهنية كصحافي محترف براتب قدره 300 ليرة لبنانية، وعملت محررا للشؤون العربية في الصياد، وليلا محررا للشؤون الدولية في جريدة الأنوار. في دار الصياد كان هناك لفيف من أبرز صحافيي تلك الفترة؛ هشام أبو ظهر، وسليم نصار، وأنطوان متري، وعصام فريحة، كذلك حنا غصن الصحافي المخضرم والكاتب الأول في السياسة اللبنانية، وأيضا إبراهيم سلامة، وغسان كنفاني، لينتقل بعدها رياض الريس إلى جريدة المحرر”.
وفي دار الصيادـ نشأت بين رياض الريس والصحافي الفلسطيني/اللبناني نبيل خوري صداقة عميقة وزمالة مشتركة بدأها في الصياد واستمرت إلى المستقبل مع نخبة من الصحافيين العرب؛ أمثال أحمد بهاء الدين، وناصر الدين النشاشيبي، وسمير عطا الله، حتى غياب نبيل خوري في بيروت، وقد كانت للشاعر يوسف الخال مكانة خاصة لدى الريس، حيث ربطتهما علاقة ودية من أيام مجلة شعر، وأصدر الريس عام 1962 مجموعته الشعرية الأولى، صدرها بمقدمة لصديقه جبرا إبراهيم جبرا، حسب ما أورده الريس في كتابه “الصحافة ليست مهنتي”.
وعمل الريس كذلك في صحف أجنبية، مثل جريدة “ويسترن ميل” (Western Mail)، و”ديلي ميرور” (Daily mirror)، و”صنداي تايمز” (The Sunday Times).
مجتمع الصحافة
انتقل الريس بعد ذلك للعمل مع كامل مروة مؤسس صحيفة الحياة، الذي يقول عنه الريس: عملت مع كامل مروة قرابة سنتين، وكان له فضل في تكوين شخصيتي الصحافية… علمني كامل مروة معنى حرية الرأي.
ولدى تشييع كامل مروة في بيت مري، عقب اغتياله في بيروت، يتابع الريس “اقترب مني غسان تويني وسألني: متى ستعود إلى النهار، فأجبته: حرام عليك، الرجل لم يدفن بعد، انتظر مرور الأربعين يوما. حيث انضممت إلى النهار في أكتوبر/تشرين الأول 1966”.
وفي صحيفة النهار كان رياض الريس الأنكلوسكسوني الوحيد في مجتمع فرانكفوني، وغير اللبناني الوحيد فيها أيضا، ويصف الريس تجربته في النهار بين 1966و1976 بأنها كانت العصر الذهبي للصحافة العربية لا اللبنانية فقط، حيث كان في النهار إلى جانب غسان تويني، قطبان يمثلان جناحي الجريدة: الأول مدير التحرير والرجل الحديدي فرنسوا عقل، والثاني ميشال أبو جودة كاتب العمود السياسي اليومي والمعلق الأشهر في الصحافة اللبنانية، إلى جانب أنسي الحاج وشوقي أبي شقرا وغيرهم.
وبعد خروجه من النهار، أسس الريس جريدة المنار في لندن، واستكتب كتابا كبارا قبل أن تتوقف الجريدة عن الصدور، وكما يقول الريس “لم يفِ أي من الذين وعدوا بالتمويل بتعهداتهم. وهكذا انكسر الدف وتفرق العشاق، وماتت المنار بعد العدد 36”.
وعاد إلى بيروت ليصدر مجلة الناقد، التي توقفت هي الأخرى، وعمل على مجلة النقاد في بداية الألفية للتوقف بعد 3 سنوات، وكان رياض الريس قد فتح مكتبة الكشكول في شارع نايتسبريدج (knightsbridge) التجاري (غربي لندن) حيث كل البيوت التجارية المهمة والكثافة العربية، سعيا لتسويق الكتاب العربي من صنعاء إلى الرياض إلى بغداد، ناهيك عن المغرب العربي.
لقاءات عابرة
التقى رياض الريس عددا من الزعماء والمسؤولين العرب، منهم ميشيل عفلق، وطارق عزيز، ومدير المخابرات العراقية الأسبق برزان التكريتي، الذي يصفه الريس بالقول “ككل السفاحين أظهر برزان ودا ولطفا ونعومة، وكان له لقاء معمر القذافي في إحدى خيامه، حيث كان أمامه قطيع من الأغنام والرعاة يقومون بجز شعرها مع الغناء من قبل أولئك الرعاة”.
ومن الشخصيات الإنجليزية التي تعرف عليها الريس راندولف تشرشل ابن السير ونستون تشرشل رئيس الوزراء البريطاني الأسبق، وأيان كامبل، المحامي ومدير قسم الأبحاث الخارجية في حزب العمال، وفنر بروكواي، رئيس حركة الحرية للمستعمرات.
الرحالة
كان رياض الريس أول صحافي عربي يزور فيتنام في مايو/أيار 1966، كما وصل إلى مدينة سمرقند، مدينة تيمورلنك التاريخية، ومنها إلى بخارى، وكانت غرناطة من المدن التي لها وقع خاص لدى رياض الريس، حيث تجول في قصورها الحمراء مستعيدا مشهدا حضاريا وثقافيا وفنيا لا يتكرر، حسب ما ذكره في كتابه “الجانب الآخر للتاريخ”.
وهكذا كان صاحب “صحافي ومدينتان” يتجول منقبا في الذاكرة البعيدة، كما كان الريس الصحافي العربي الوحيد الذي تمكن من الوصول إلى براغ بعد الاجتياح السوفياتي لتشيكوسلوفاكيا في أغسطس/آب 1968، مثلما تمكن من التسلل إلى أثينا بعد يوم واحد من الانقلاب الذي نفذه الجنرالات في نيسان/أبريل 1967 ضد رئيس وزرائها السابق أندرياس باباندريو.
وهكذا كانت محطات أسفار رياض الريس العديدة في طرق الدنيا المتشعبة، وصدر له أكثر من 36 كتابا في الشعر والسياسة، بينها: موت الآخرين (شعر) 1962، الفترة الحرجة.. دراسات نقدية 1965، جواسيس بين العرب 1987، رياح السموم 1991، مصاحف وسيوف 2000، لبنان تاريخ مسكوت عنه 2001، الصحافة ليست مهنتي 2001، وكتابه الأخير صحافي المسافات الطويلة 2017.
الرثاء الأخير
في كتابه “صحافي المسافات الطويلة” قال رياض الريس “إن الرحلة نحو الذاكرة هي دوما لراكب واحد فقط، وقد لا يكون هناك من بقي حولك؛ ليؤنسك؛ لذلك تصل إلى الصندوق، يدهمك نوع من الخوف، كما لو أنك إذا فتحته تخرج منه نسخ عنك بالآلاف. ولكنك ستظل وحيدا، كما لو أن كل نسخة منك مطبوعة وحدها، وتتحرك في حدودها فقط”.
وتابع “والأرجح أنك ستجد في صندوق ذاكرتك فتاتا من بطاقات الآخرين البريدية، أو قطعا من صناديقهم. فهذا ما يفعله الأصدقاء حين يغيبون، ويتركون في ذاكرة من بقي حيا عاداتهم المفضلة، أصواتهم، رؤيتهم للحياة، ونكرانهم المتواصل للموت، وهذا ربما ما أفعله الآن”.