إيهاب الملاح
يقدم الناقد والأكاديمي المعروف الدكتور صلاح فضل في كتابه «عين النقد سيرة فكرية» (الصادر عن منشورات بتانة 2018) نموذجاً جريئاً للسيرة الفكرية النقدية تمتزج فيه رؤية صاحب الخبرة النقدية بالشهادة التاريخية الذاتية على مرحلة زمنية، بل مراحل من العمر، عاينها وعاصرها الطالب الذي ورث من جده الأزهري نبوغه وحسه الجمالي والنقدي، ثم كل ما أتيح له من ظروف وسياقات تأثر بها وتركت بصماتها على حياته ومؤلفاته، وإنتاجه النقدي ككل، ثم تقييمها بطريقةٍ علمية واضحة، امتزج فيها الذاتي بالموضوعي، والآني بالتاريخي، وفي الآن ذاته تميزت هذه المقاطع السيرية أيضاً بأسلوب سردي يجعل قراءتها زاخرة بالمتعة والإفادة معاً.
ومن بين أبرز ما يخرج به قارئ الكتاب ذلك الحس الرهيف للتأمل والنظر في أي ظاهرة، ذاتية كانت أو موضوعية، وإمكانية وضعها تحت مجهر الفحص النقدي الدقيق، دون الوقوع في فخ الإلغاز أو الابتسار.
وصلاح فضل هنا يحكي عن نفسه كاشفاً السياق الذي حدد مساره الفكري واحترافه النقد، حيث يقول: «في هذه المرحلة الجامعية، وحتى من قبلها، كنت قد اختبرت إمكاناتي الإبداعية في الشعر والقصة فلم أرضَ عنها، مارست نقد الذات بحدة، ونما لدي وعي نقدي جارف ينشب أظافره في كل نواحي الحياة، في السياسة والاجتماع والأدب والإبداع.. وبقي في قلبي تحيز لا أنكره لمن عشت وسطهم من الفقراء والمحرومين، فآمنت بالعلم والعدل والجمال، كان النموذج الثقافي الناضج الذي رسخه جيل الرواد في وجداني شديد الفعالية في تشكيل ذائقتي الجمالية ومنظوري الفكري».
وهذه الذائقة الجمالية وهذا المنظور الفكري هما اللذان سيبلوران فيما بعد النزوع التنظيري الذي برع فيه صلاح فضل، إذ كان مدركاً تماماً أن «هناك حدوداً فاصلة بين الكتابة والأدب، بين الفن والثرثرة، بين الثقافة واللاجدوى، وهذه الحدود لم تعد واضحة لافتقارها إلى المُنظر النقدي الدقيق الذي لا يرفض كل شيء ولا يقبل كل شيء، وإنما يؤثر الفحص والتأني وترسيخ منظومات قيمية جمالية وفنية وتطبيقها على الكتابة. وهناك من يميل للفوضى ويفرح بها وهؤلاء الضعاف، ففي الفوضى يختلط الحابل بالنابل».
وثمة ثلاثة أسماء ستلعب دورها التأسيسي في تكوين صلاح فضل الثقافي والنقدي والإنساني معاً، وهي: طه حسين، محمد غنيمي هلال، ومحمد مندور. ويصف صلاح فضل غنيمي هلال بأنه كان «عالماً حقيقياً ذا دراية علمية ومعرفية حقيقية» ولكنه لم يكن يحسن الحديث ولا التواصل مع الطلبة، وإدراكه للواقع الإبداعي «محدود»، وبالتالي لم يكن يميز أقدار المبدعين ولا يحسن وزنهم نقدياً أو إبداعياً، بعكس محمد مندور الذي كانت لديه قدرة فائقة شديدة الحساسية على وزن أي شيء ونقده وتصنيفه بمعيار من «ذهب». هذان النموذجان كانا جديرين بالاحتذاء، وإن كان أصعبهما نموذج غنيمي هلال.
ويقول فضل: «استقررت في نهاية الأمر على التوسط بينهما والجمع بين نموذجيهما والاستفادة من مزاياهما معاً».