عبدالله علي صبري:
رغمَ أن العلاقاتِ الخفيةَ والعلنيةَ بين الإماراتِ والكيانِ الصهيوني كانت تُفصِحُ في كثيرٍ من مساراتِها عن التطبيعِ شبهِ الكامل بين الدولتين، إلا أن وَقْــــعَ الإعلانِ الرسميِّ عن الخيانة الإمارتية للأُمَّـة وللقضية الفلسطينية كان صادماً، خَاصَّةً أن الإعلانَ قد جاء من واشنطن، وفي إطارِ خدمةٍ دعائية لأسوأِ رئيسٍ أمريكي تعامَلَ باستهتار كبير مع العرب ومع ثرواتهم وحقوقهم وقضاياهم، وبنوعٍ من الوقاحة غير مسبوقة في البروتكولات السياسية والدبلوماسية.
هان حُكَّــامُ أُمَّتِنا، فسَهُــلَ الهوانُ علينا للأسف الشديد، وباتت قضايا الأُمَّــة الكبرى والمصيرية تُباعُ على أرصفةِ النخاسة جهاراً نهاراً، وكأنَّ الوطنَ العربي معمَلُ تجارِبَ لقوى الهيمنة التي لم تغادرْ حقبةَ الاستعمار والاحتلال إلَّا من ناحية الشكل، وإلَّا فإنَّ معظمَ العواصم العربية غدت مسلوبةَ الكرامة والقرار، وأضحى حكامُها مُجَـــرَّدَ دُمَىً على مسرح الصراع الدولي، وقفازات رخيصة الثمن بيد الفاعل الأمريكي، حتى وإن استعرضوا على شعوبهم أدوارَ الفخامة والجلالة.
وهكذا، فإنَّ الإعلانَ الإماراتي عن التطبيع الرسمي مع الكيان الصهيوني لا يُعَبِّــرُ عن شيءٍ جديد أَو مفاجئ. ومنذُ توقيع “اتّفاق كامب ديفيد” بين مصر وإسرائيل، فإنَّ منحنى خيانةِ القضية الفلسطينية في تصاعُدٍ مستمرٍّ، ولا يبدو أنه سيتوقفُ على المدى المنظور، فكيف حدث مثل هذا ولماذا يحدُثُ ونحن أُمَّـة كانت لوقت طويل في صدارة العالم قوة وحضارة ومجداً؟.
دولتان وظيفيان
بالعودة إلى الماضي القريب، سنعرفُ أن بريطانيا هي من تبنَّى بشكل رئيسي تقسيمَ الوطن العربي إلى الدويلات الحالية، وتحويله إلى مسرح للصراعات الداخلية والخارجية التي لم تتوقفْ منذُ سايكس- بيكو، وحتى الإعلان الأمريكي عن تصفية القضية الفلسطينية في إطار مشروع “صفقة القرن” الذي تأتي الخطوة الإماراتية الأخيرة، لتكشفَ مدى جاهزية غالبية الأنظمة العربية للهرولة إلى الحُضن الإسرائيلي تحت مزاعم “السلام” وفزَّاعة “الخطر الإيراني”.
حينَ غرست بريطانيا الكيانَ الصهيوني كخنجرٍ مسمومٍ في قلب العالم العربي، فإنَّها قامت بعملٍ مماثلٍ عندما اصطنعت الوهَّـابيةَ السعوديةَ في قلب الجزيرة العربية. وما إن استقر الكيانان المدعومان بريطانياً ثم أمريكياً، حتى أكملت قوى الهيمنة تثبيت الإمارات النفطية في منطقة الخليج العربي، وربطها بالنظام الرأسمالي الغربي وبتوجُّـهات واشنطن إبَّانَ وبعد الحرب الباردة.
ولأَنَّ السياسةَ الأمريكية في منطقتنا قامت وتقومُ على حماية النفط وإمدَاداته إلى الشركات والمصانع الغربية، وعلى حماية إسرائيلَ وضمانِ أمنها ووجودها، وتفوقها، فقد لعب حكامُ السعودية وإماراتُ الخليج دوراً كَبيراً في تحقيق الأهداف الأمريكية، وضمان مصالح الرأسمالية المتوحشة، مع فارقِ أن الجيلَ الأولَ من الحكام كان لا يزالُ يملكُ مساحة من المناورة، والاحتشام السياسي إنْ جاز التعبير، على عكس ما نراه اليومَ مع أولاد زايد وسلمان، والحاكمين الفعليين في الرياض وأبوظبي، محمد بن سلمان ومحمد بن زايد.
صحيحٌ أن مصر والأردن كانتا السباقتَين في الخيانة والتطبيع مع الكيان الصهيوني، وتبادل الاعتراف والتمثيل الدبلوماسي مع تل أبيب، إلا أن عواصمَ عربيةً أُخرى انتهجت خطواتٍ شبيهةً، وذلك بُــعَــيْــدَ اتّفاقية أوسلو بين منظمة التحرير الفلسطينية وكيان الاحتلال 1993م، حيثُ رحّبت المغرب وقطر وعُمان وتونس بفتح مكاتبَ تجاريةٍ لإسرائيل، بعضُها لا يزالُ قائماً ويمارسُ أدوارَ الخيانة على العلن.
وخلالَ فترة ما قبل “الربيع العربي” لعبت قطر دوراً محورياً في تنفيذ السياسات الأمريكية بالمنطقة، وبرزت الدوحةُ من خلال ذراعِها الإعلامي “الجزيرة”، وكأنَّها دولةٌ عظمى تهابُها بقيةُ الدول، وتبادرُ إلى التقرُّب منها، كجسر عبور إلى واشنطن وتل أبيب، وكقبلة للريال القطري، والتلميع السياسي والإعلامي.
ولَمَّا حَـلَّ ما يُعرَفُ بثورات الربيع العربي، كان “الإخوان المسلمون” بمثابة الذراع الثاني لقطر، المَرْضي عنه أمريكياً، الأمرُ الذي أثار مخاوفَ مملكات وإمارات الخليج الأُخرى، التي سارعت إلى مواجهةِ المد الثوري حول الحزام الخليجي، لكن ضمنَ تفاهمات مع الجانب الأمريكي أَيْـضاً.
تضخمت فزَّاعتا “المَدِّ الثوري” وَ”الخطر الإيراني”. واستلمت الإماراتُ الرايةَ الأمريكيةَ بدلاً عن قطر في ظل مباركة سعودية- مصرية، وُصُـولاً إلى إعلانِ التحالف العربي لما يسمى بـ “عاصفة الحزم”، وسطَ تقاطع جملة من الأهداف الداخلية والخارجية مع طموحات بن سلمان في القفز السريع إلى العرش الملكي.