نادية هناوي*
من تداعيات اعتراف دولة الإمارات المشؤوم بالكيان الصهيوني الغاشم، أن وضع اتحادات الكتّاب العربية في موقف حديّ يستوجب منها الوضوح والحسم. وما من شك في أنها الصفوة المثقفة والنخبة المعرّفة، فضلا عن أنها الصوت المعبر عن أماني وتطلعات وأهداف شعبنا العربي بكل أطيافه وفئاته وشرائحه، هذا هو المفترض وما ينبغي أن يكون لكن هذه الاتحادات أخفقت في أن ترتقي إلى هذا المثال.
بالطبع لن نسأل عن الأسباب التي لا تصعب معرفتها، ومنها إحساس بعض تلك الاتحادات باللاجدوى من التمسك بقضية استطاعت مخططات الأعداء والمشبوهين من زحزحتها من مركز الصدارة، وقوة الاهتمام، ونزع صفة المصيرية عنها، فاكتفت هذه الاتحادات بالمواقف اللفظية وبعبارات مستهلكة، لا تحس بمفرداتها حتى الشفاه التي تلفظها، بله العقول وإحلال قضايا أخرى محلها، كرّسها واقع التشرذم والفرقة والتباعد. والأدهى من ذلك الاستقطاب الذي وقع بعضها في شباكه، لتكون الثقافة مجرد سلّم، يوصل إلى منصب يدرُّ على صاحبه مكاسب ما كان ليحصل عليها بنفسه، ولو اشتغل بالثقافة عمرا بعد عمره.
لكننا سنسأل عن أمر آخر فيه نعود إلى ما قبل عامين، حين شهدت بغداد اجتماع اتحاد الأدباء والكتّاب العرب صيف 2018، وكان الأول بعد قطيعة سياسية وثقافية مع العراق دامت أعواما، والسؤال ما الذي دار في ذلك الاجتماع؟
الجواب أن القدس كانت هي الأكثر حضورا عبر البيانات الحامية، والتوصيات القوية، والقرارات التي كانت تترى على ألسنة المؤتمرين، وهم يلتزمون بقضية فلسطين مناصرين قدسها، ومستنفرين المثقفين لتدوين (سيرة القدس) وعازمين على عقد مؤتمرات وندوات عربية ودولية تحمل عنوان (القدس) مع تسمية معارض الكتاب العربية بدورة (القدس) وإنتاج أفلام وثائقية عن( القدس) تفضح الاعتداءات، أو تعمم على السفارات العربية والعالمية. وتشكيل لجنة إشرافية لتنظيم (مؤتمر القدس) يستضيفه اتحاد كتاّب عربي كل عام، وإدراج القضية الفلسطينية في مناهج التدريس بكتاب موحد بين وزارات التربية والتعليم العربية تحت عنوان (كتاب القدس والقضية الفلسطينية) واستحداث مجلس أمناء لجائزة (الإبداع العربي في مواجهة الإرهاب) ومقرها أبو ظبي.
ليس هذا فقط؛ فهناك (بيان القدس) الذي تم استحداثه للمرة الأولى في هذا الاجتماع، ومما جاء فيه: (أن الاتحاد العام يدعو المثقفين العرب والنخب الثقافية والمؤسسات إلى ضرورة تحمل المسؤولية تجاه فلسطين، ورأس حربتها القدس، التي يراد تصفيتها من قبل العدو الصهيوني، الذي تحرسه المظلة الأمريكية التي أطلقت الجراد الآدمي على جغرافية الوطن العربي لتفكيكه.. إن الأدباء والكتاب العرب مطالبون بوقفة تليق بدورهم للتصدي لكل هذه المخططات).
وأخيرا وليس آخرا بيان ختامي يدعم فيه الاتحاد وحدة الأراضي العربية و(أن القضية الفلسطينية هي القضية المحورية والمركزية في الوطن العربي، ويؤكد المكتب الدائم على دعمه نضال الشعب الفلسطيني في سبيل حريته، وإقامة دولته المستقلة وعاصمتها القدس، ويدين كل أشكال التطبيع مع العدو الصهيوني).
فأين هذا الأمس من حالنا اليوم، ونحن نرى سكوت اتحاد الأدباء والكتّاب العرب، وتذبذب مواقف فروعه، بل دخول بعضها في مشاجرات أو مهاترات في ما بينها حول الموضوع، كأنها ليست الموقعة على الكلام الآنف الذكر في اجتماع بغداد. وهل يا ترى كان الاتحاد واقعا تحت سحر بغداد ألف ليلة وليلة، وهو يصدر هذه البيانات الرنانة والقرارات الجعجاعة حول فلسطين، أو أن الأربعين حرامي تسللوا من بين يدي كهرمانة، فجعلوا أقوال المؤتمر عكس أفعاله، وصار ما يقال بالأمس هواء في شبك اليوم، أما في الغد فلن يبقى فيه لا هواء ولا شبك، ما دام ما طبخ غير ما أكل، وما رأته العين غير الذي سمعته الإذن؟ ما من شيء هو أشد مضاضة على المثقفين من أن يجدوا أنفسهم متفرقين في الساحة، ملتزمين بقضية تخلى عنها من يمثلهم، ومن يفترض فيه أن يعبر عن مواقفهم ويجسد أهدافهم.. بيد أن الصورة اليوم تكشفت، واتحادات قليلة لا تتعدى الثلاثة، أعلنت بوضوح، ومعها بعض الأدباء، عن موقف رافض للتطبيع الأمرائي وشاجب هذا الخنوع والركوع، مع ملاحظة أن بعض مسؤولي هذه الاتحادات توارت تواقيعهم عن قوائم الشجب، ولأسباب غير مجهولة.
أما المواقف التي أعلنها الأدباء فرادى، فجسدت رفضهم بشكل عملي حين أعلنوا انسحابهم من الأنشطة والفعاليات الثقافية، التي تتبنى تمويلها ودعمها ماليا ولوجستيا الدولة المطبعة، بينما لم تشأ تلك الاتحادات أن تؤكد خطابها البياني بفعل عملي.
إن التزام اتحاد الأدباء والكتّاب العرب، ومعه بعض الاتحادات الفرعية الصمت، هو رضوخ معروفة نواياه، ومهادنة خفية، وانجرار لاحق متوقع ممن تثاقف بالسياسة وليس العكس.
أما الفئة الغالبة من الاتحادات العربية فآثرت السكوت، الذي يعتقد بعضهم أنه حياد.. لكن ما معنى الحياد إزاء قضية هي الضمير والمصير معا؟ وما الذي يفرض على الاتحاد السكوت أو الحياد و(عند النوائب تعرف الأخوان)؟ ألأن دولة الامراء هي الممولة للأنشطة الثقافية التي استقطبتهم بها، مغدقة عليهم المنافع في شكل لجان تحكيم وتشكيلات نشر وطبع، أو مسابقات وجوائز، أو ترشيحات فيها أسماء من تلك الاتحادات موعودة بأن تكون على لائحة الفوز، وغير مهم إن كان الفوز اليوم أو غدا، لأنه، في كل الأحوال، الظفر بالغنيمة حاصل عاجلا أو آجلا.
وإذا كانت هذه حال غالبية اتحاداتنا العربية، تسيرها المنافع والمكتسبات الشخصية؛ فكيف يمكن للثقافة أن تسمو وتعلو، وكل أديب وكاتب لا يغني إلا لليلاه؟ وكم هي المسافة بعيدة ولا منطقية، بين جوائز الرواية والشعر والترجمة، التي تسخر لها إمكانيات مادية هائلة، ومشهد ثقافي يزخر بإبداع كمي لا نوعيا، وواقع يشي بركود الشعر وتراجع مستويات الرواية؟ أليس هذا اللهاث غير الطبيعي وراء الجوائز الباذخة العطاء، والدسمة المشتهى، هي التي أضرت بالإبداع والثقافة حتى أحلت الوازع النفعي محل الوازع الجمالي.
ويبدو أن علة العلل تكمن في (التثاقف) الذي هو مهنة يحترفها من عرف كيف يمثل دور المثقف، وفي مقدمة المتثاقفين أولئك الذين بأموالهم يطعمون البطون، فتستحي العيون، كما يقال في المثل العراقي. ومن المتثاقفين من يسمع من هذا ويأخذ من ذاك لينتج منها كتابا يضع عليه اسمه، حاشرا نفسه في ركب الأنتلجنسيا العربية. وبعض المتثاقفين نفر مفلس يبيع ضميره في بورصة أي خيانة وعمالة ونذالة، وهو يبدل مبادئه كما يبدل ملابسه. وبالطبع تتوقف فاعلية البيع وسرعة التبديل وجودتها على طبيعة المنح التي ينالها والامتيازات التي يظفر بها.
ومن المتثاقفين من هو وصولي يردم نواقصه الثقافية بوصوليته وبمزايداته السياسية، التي تتيح له تبؤ المناصب، التي هي عند غيره مجرد تكليف مؤقت، بينما هي عنده تشريف دائم. فما أن ينالها حتى يتسلق عليها كسلالم بها يصعد على أكتاف المثقفين الأصلاء، معتليا ناصية القرارات حتى إذا واجهته قضية مثل قضية فلسطين لا تهمه مركزيتها؛ بل الذي يهمه الكرسي الذي وصل إليه بطرق شتى.
هل بعد هذا كله تظل هناك جدوى من وجود اتحادات، هي ليست اتحادية وروابط للثقافة هي ليست ثقافية؟ وكيف ستقنع المثقف ذا التفكير الحر بأهمية وجودها وبحقيقية تمثيلها له؟ هذا ما يجيب عنه المشهد الثقافي اليوم فها هم المثقفون يعلنون عن مواقفهم بأنفسهم أفرادا، بينما بيانات بعض الاتحادات العربية بائسة مكتوبة بصيغة لا أخذ فيها ولا عطاء، ولا جرأة ولا صلابة، بل هي مهادنة بها تمسك بالعصا من الوسط ببيان مقتضب اعتدنا قراءة (كليشته) عند كل فاجعة تحل بفلسطين، مضافة إليها نبرة خجلة ووجلة، تريد إسكات الجموع مدارية بالمراوغة على مصالحها الفردية ومتخاذلة، خشية أن تفقد امتيازاتها في عضوية لجان الجوائز والفعاليات الأخرى.
وإلا لماذا لا نجد في البيانات القليلة التي صدرت عن اتحادات بعض الدول، أسماء أو تواقيع من ينبغي أن تكون أسماؤهم وتواقيعهم في الصدارة، لأن مواقعهم في الصدارة من هذه الاتحادات؟
ولماذا دوما أقوالنا اتحادية نقابية جماعية، لكن أفعالنا انقسامية أحادية تفارقية تخاذلية تواطؤية، مرددين مقولات رنانة مثل (مواجهة صفقة القرن التي يراد تمريرها لتصفية القضية الفلسطينية) و(استرجاع الجزر الثلاث كجزء من الإمارات احتلت من قبل إيران، ومطالب باستعادة هضبة الجولان السورية ومزارع شبعا وتلال كفر شوبا اللبنانية، التي ما زال الاحتلال الصهيوني يستحوذ عليها.. ولواء الإسكندرون السوري الواقع تحت الاحتلال التركي، ومدينتي سبتة ومليلة المغربيتين الواقعتين تحت الاحتلال الإسباني) من البيان الختامي للمؤتمر أعلاه.
أين المواقف المبدئية المنتظرة من هذه الاتحادات، التي أدانت قبل عامين الاحتلال، وناصرت قضية فلسطين، واليوم تتراخى في تبنيها هذه المواقف المعلنة في اجتماع بغداد، وتتلطف بعبارات الشجب للموقف الأمرائي من التطبيع مع الكيان الصهيوني؟ لقد طعن الاتحاد المثقفين العرب المنضوين تحت مظلته في ظهورهم، فأين شرف الأمانة في التكليف بمهام ينبغي فيها تحمل المسؤولية كاملة، لا أن يكون التكليف أداة بها يصبح حامل الأمانة وسيلة لتمييع إرادة من يمثلهم.
إن التزام اتحاد الأدباء والكتّاب العرب، ومعه بعض الاتحادات الفرعية الصمت، هو رضوخ معروفة نواياه، ومهادنة خفية، وانجرار لاحق متوقع ممن تثاقف بالسياسة وليس العكس. وما من خيار أمام الأدباء والكتّاب العرب، سوى التنديد وفضح الألاعيب كواجب ثقافي وأخلاقي ومسؤولية قومية ووطنية وإنسانية، بها يظهر المختبئون على حقيقتهم ويتضح حجم تواطئهم.
ومن هنا نحيي المثقفين الفرادي الذين تبنوا مواقف شجاعة وسريعة ترفض التطبيع، وتندد بالاعتراف الأمرائي بالاحتلال الصهيوني. ولا أريد أن أقول إن علينا كمثقفين إلغاء الاتحادات؛ بل علينا أن نحدد مواقفنا متبرئين من هذا السكوت؛ وإلا فإن السبات سيعم الجميع حتى لا أمل بصحوة تنسف مخططات المهادنين، رأسا على عقب، والنتيجة سلب مزيد من الأراضي العربية من بين أيدي أصحابها، ونحن نيام وأرجلنا في الشمس، كما يقول المثل العراقي.
إن الإعلان عن الشجب بين صفوف المثقفين العرب ينبغي أن يستمر، ولتبق اتحادات الأدباء العربية على صمتها، في زمن لم تعد فيه مراكز ولا أطراف ولا حابل ولا نابل، سوى كلمة هي عند قائلها تتجسد فعلا وموقفا ومسؤولية. فلتستمر فعاليات الاحتجاج والشجب، لأن هؤلاء يراهنون على التناسي وصولا الى النسيان بالتقادم، لكننا نقول إن القضايا العادلة لا تموت بالتقادم مهما تحايل المتحايلون.
- كاتبة عراقية