رقية العلمي*
على مدى عقود تصدى المثقف لموضوع مدينة القدس، مدينة لاقت الويلات من إجراءات تعسفية بحقها، بدءاً من احتلالها وتقسيمها وعزلها، وأوامر المنع من دخولها كإجراء عقابي طوال فترة الاحتلال، وبقي الموضوع يراوح بين فتح الطريق إلى القدس وإغلاقه، حتى أُغلقت تماماً وعُزلت عن الضفة الغربية والقرى المحيطة بها. تُوجت هذه الممارسات ببناء الجدار العازل جدار الفصل العنصري.
والكتابة عن القدس وحولها مرتبطة بالماضي والحاضر، ومستقبل المدينة، والتحولات والتحديات التي تواجهها هذه المدينة، لم تزل مستحقة سرد أدبياتها.
الكاتبة عايدة النجار (1938ـ 2020) أطلقت على كتابها البحثي حول القدس اسم «القدس والبنت الشلبية» لجمال المقدسيات والقدس: سيرة ذاتية وتأريخ للمدينة في فترة الانتداب البريطاني على فلسطين 1920ـ 1948.
بوابة مندلبوم:
قسمت القدس بعد النكبة لقسمين، القدس الجديدة المحتلة، والقدس القديمة تبعت الحكومة الأردنية (1949 ـ 1952) بعدها بقيت الأسوار بين شطري المدينة حتى عام 1967. في كتاب «لقاء عند بوابة مندلبوم» بغداد 1967 للعراقي أحمد فوزي عبد الجبار، الذي زار البوابة على هامش مؤتمر وكالات الأنباء العربية عمان يوليو/تموز 1965، «في أيام الأعياد يجتاز بوابة المندلبوم آلاف الحجاج للصلاة في مدينة بيت لحم مولد السيد المسيح»، سارداً مشهد لقاء بين أب وابنه بعد فراق 17 عاماً، كلٌ يظن أن الآخر قد قُتل، والتقيا لأول مرة عند البوابة. من ناحية أخرى تناول غسان كنفاني «بوابة مندلبوم» في «عائد إلى حيفا»، «طوال الطريق كان يتكلم إلى زوجته عن بوابة مندلبوم التي هدمتها الجرارات». وفي «أرض البرتقال الحزين»، تدور أحداث قصة «الأفق وراء البوابة»، حول فلسطيني يأتي من يافا إلى القدس، ومعه سلة فيها لوز أخضر، ورداء أخته دلال الصغيرة التي قتلها اليهود… ولا يقوى على مصارحة أمه بأمر مقتل دلال، لكن عند «بوابة مندلبوم» يفصح لخالته: ماتت دلال وأمه وبقيت سلة اللوز والرداء.
أما رواية «بوابة مندلبوم» 1965 للأسكوتلندية ميريل سبارك 1918 ـ 2006 تحكي قصة إنكليزية يهودية لجهة الأم، ستقع في حب رجل يعمل عالم آثار في موقع مخطوطات البحر الميت، قمران أريحا، بعد زيارة اليهود لتتعرف على جذور أمها، ستعبر «بوابة مندلبوم» لمقابلته بمساعدة دبلوماسية بريطانية مجنونة ستسهل دخولها القدس الشرقية متخفية بزي خادمة عربية. ورغم تحفظ الناقد العربي على الرواية التي تصور فيها (علي) والعرب بأنهم كذابون، لكن لا بد من المرور على أحداثها من وجهة نظر غربية، تسرد مصاعب المرور عبر البوابة في تلك الحقبة المهمة في تاريخ القدس.
بيت صفافا
في 1949 قسمت الأسلاك بلدة بيت صفافا، بين فلسطين المحتلة والأردن:
في 1965 زارت الإيرلندية إيثيل مانين (1900 ـ 1984) القدس وكان أبو عبد الكريم العلمي مدير منظمة التحرير الفلسطينية، ومقدسيون في استقبالها، ورتبوا لها زيارة بيت صفافا لتطلع عن قرب واقع تقسيمها. ثم زارت عرب بئر السبع وقدمت لهم نسخت من رواية «الطريق إلى بئر السبع» 1963 مهداة «إلى اللاجئين الفلسطينيين الذين قالوا لي لماذا لا تكتبين قصة خروجنا؟». هو الخروج القهري لعائلة منصور اللداوية، بعد موت عميد العائلة قهراً في منفاه ستعود زوجته الإنكليزية بابنها إلى لندن، وعندما يكبر الولد سيعود فدائيا إلى فلسطين، متسللاً إلى بئر السبع؛ وسيستشهد على خط التماس. ترجمها للعربية نظمي لوقا 1998. في الذاكرة الفلسطينية الكثير حول بيت صفافا: «بيت صفافا وأنا» تدوينة عمر عثمان لسيرته وسيرة القرية والاحتلال وذكريات السياج الفاصل بين أهلها.
أما مصطفى عثمان (1944- 2020) فقد أرَّخ في أكثر من كتاب شهداءها وطيب منبتها ومعالمها.
حقوق الإنسان:
بداية 1993 أُغلقت القدس، ومُنع أهالي الضفة الغربية دخولها، إلا عبر تدقيق الحواجز الثابتة، أكثرها حيوية حاجز قلنديا بين رام الله والقدس. في المؤتمر العالمي لحقوق الإنسان فيينا 14 ـ 25 يونيو/حزيران 1993 كانت فلسطين الحامل الأكبر والأكثر لملفات انتهاكات حقوق الإنسان على كل الأصعدة، أهمها انتهاك الحق في ممارسة العبادات، حيث تمنع الحواجز المسلمين والمسيحيين من الصلاة فيها. في 1994 أجرى المركز الفلسطيني لحقوق الإنسان/ جمعية الدراسات العربية، دراسة الأثر السلبي لإغلاق القدس على بائعات البسطة، اللواتي يحضرن بخضرواتهن إلى المدينة من القرى المجاورة، ويبسطن في باب العمود، بعد إغلاق المنافذ أصبحت المزارعة تخرج من الفجر وعلى رأسها السلال، تقطع الجبال سيراً على الأقدام حتى تصل مهربة إلى المدينة، وهذا انتهاك حق المرأة في العمل.
كما وتعيق الحواجز الحق في الصحة: تعيق عبورهن مشككين بمصداقيتهن فتتم الولادة على الحاجز. وتستشهد داليا عزام في كتابها «جدار العار» بقصيدة «على حاجز حوارة» للشاعر العبري إيتان كلينسكي منتقداً هذه الممارسات: «إن ذلك سيحفز الطــفل الوليد ليكون نواة لفدائي مقاوم، محزماً ببندقية وحربة، كارهاً للوجود الإسرائيلي وما فعله الجنود به وبأمه».. أما قصة فراس حج محمد «ريتا على الحاجز» فتحاكي معاناة الفلسطينيين على حاجز زعترة، الذي شهد حالات قتل متعددة، حيث يطلق الجنود النار على أي فلسطيني بلا سبب، وهذا انتهاك الحق في الحياة.
الجدار
في عام 2006 اكتمل جدار الفصل العنصري وسرعان ما زخرت الثقافة بنتاجات حول هذا العائق، فجمح خيال المبدعين مصوراً تأثيره على حياة الفلسطينيين:
معظم شخوصهم تتحرك نحو الحرية: في قصة «حنتوش» 2012 للطفلة صالحة حمدين (14 سنة) من عرب الجهالين قضاء القدس، تتمرد هي وخروفها «حنتوش» على الإغلاق العسكري، فتركب على ظهره، ويطلق جناحية ويطيران إلى برشلونة فيلعبان مباراة مع ميسي، لكنها ترفض طلب ميسي انضمامهما إلى فريقه فعليها العودة لرعاية الماشية، بدل والدها الأسير في سجون الاحتلال.
«خبرني ميسي أنه سيزور (وادي أبو هندي) سنُقيم مونديال سنُنظف معاً الأرض من الألغام، وسنبني أكبر ملعب في العالم سنُسميه «ملعب حنتوش»، وسيكون الخروف شعار المونديال! نحن جميعاً بانتظاركم لحضور مونديال فلسطين». أما عزام أبو السعود فسيُطيرُ حماره في مسرحية «طار الحمار».
بينما يصور راني مصالحة في فيلم «زرافة» معاناة الأنثى الزرافة من ألم الفقد، بعد مقتل رفيقها الذكر في قصف إسرائيلي، فيتحرك الأب لجلب رفيق للزرافة فتبدأ رحلة معاناته مع الجدار. ارتسم الجدار بالغرافيتي لعرض رسائل إلى العالم ورسومات تصور رموز المقاومة الفلسطينية والعالمية باللغات العربية والعبرية والإنكليزية آخرها قولة جورج فلويد «أنا أختنق». عبارة سرعان ما تبنتها الفعاليات الفلسطينية، إشارة إلى أن الجدار جعل الفلسطيني مخنوقا مثل فلويد.
بينما كُتبت عبارة Ctl+alt-del على السور بين القدس ورام الله وهو: الأمر التقني لإغلاق الحاسوب يوجب تطبيقه لإنهاء الجدار.
ليالي القدس
للحد من عزلة المدينة قام بشار أبو شمسية، بترتيب جولات ليلية للبلدة القديمة في مبادرة «القدس في الليل حلوة». كما يقدم عازف العود كنعان الغول عروضا حية داخل أسوارها. ويتناول ألبوم «القدس بعد منتصف الليل» للموسيقار سهيل خوري 8 معزوفات، تصف تداعيات عزل المدينة، وطول الانتظار على حواجزها في معزوفة «رام الله القدس وبالعكس».
وفي قصيدة «ليل ُ القُدس» للشاعر فراس حج محمد:
يُضيءُ اليوم َ ليل ُالقدسْ- قلبُ القدسْ – عرسُ القدس
وينسى الشعرُ قافية ًحزينةْ.
وأخيراً عند إغلاق القدس راهن المحتل على طمس هويتها، لكن على العكس خلق الجدار روح إصرار تجسدت بابتكار الطرق الالتفافية حولها. لذلك كان إهداء سناء الشعلان في «حدث ذات جدار: «إلى من لا تهزمهم الأسوار مهما علت وتجبرت!» خلال كورنا استبدلت كلمة حواجز بعبارة «حواجز المحبة» التي أقامها الرسمي الفلسطيني بين المدن والقرى الفلسطينية، للحد من انتشار الوباء.
عن الجدار قالت المقدسية أم حسين، التي عاشت النكبة والنكسة والاحتلال والانتفاضة: «بالآخر سيتفكك الجدار»!
لا تختلف عن قصة «بوابة مندلبوم» حيث يصف إميل حبيبي ركض ابنته الصغيرة لمقابلة جدتها صوب البوابة، مخترقة الأرض الحرام، فتخضع للمساءلة من الإسرائيلي؛ سيقول عبارته الخالدة: «كل شيء إلى نهاية حتى الورطة»! مشابه لما قالته أم حسين: فكل هذا آيل إلى الزوال.
- كاتبة فلسطينية