عبد السلام بنعبد العالي*
ظهرت الفلسفة يوم أخذت مجموعة بشرية تعتبر أن شؤونها العامة لا يمكن أن يُتخَذ فيها قرار إلا بعد جدال عمومي متناقض يساهم فيه الجميع، وتتعارض فيه الخطابات المدعَّمة بالبراهين والحجج. مكّن هذا الجدالُ التفكيرَ من أن ينفصل عن الطابع الأسطوري، حيث كان يروي حكاية تعطي حلاً لسؤال لم يوضع، كي يعرض الفكرُ نفسه في صيغة أسئلة تُبنَى ليصبح الجدال حولها مفتوحاً في الساحة العمومية.
يشكل مفهوم الجدال والمحاجّة التي تقبل باختلاف الآراء وتضاربها شرطاً أساسياً لكل تفكير فلسفي. فلا فلسفة إلاّ إذا سلّمنا أن جميع القضايا يمكن أن تكون موضع جدال مفتوح ومتناقض. نقضي على التفكير الفلسفي لحظة إيقاف ذلك الجدال باسم عامل يَخرج عن آلية الجدال ذاتها، واسم سلطة ليست هي سلطة العقل. وحتى سلطة العقل هذه لا ينبغي أن نفترضها محكمَة عليا وشيئاً متعالياً بعيداً عن عملية الجدال ذاتها، يُملي عليها القواعد ويدلها على الطريق. إنها، على العكس من ذلك، محايثة لذلك الجدال منغمسة فيه. بل إنها لا تنمو إلا في ثناياه، ولا وجود لها خارجاً عنه، وهي ليست في نهاية الأمر، إلا تلك التقنيات الذهنية التي تختص بها ميادينُ معينةٌ للتجربة والمعرفة. معنى ذلك أن العقل ليس مبادئ تُملَى وقواعد تُطبّق، وإنما حياة تمارس، وتقنيات تُنظم وفقها الأفعال والأقوال والتجارب والمعارف، كي تجد هذه كلُّها التعبيرَ عنها في لغة ملائمة تكون موضع عمليات ذهنية خاضعة لقواعد. إذا سمحنا إذاً لعوامل خارجية بأن تتدخل في هذه «اللعبة»، حدنا عن التفكير الفلسفي، وقضينا على العقل وخنقنا العقلانية. معنى ذلك أن سمة الانفتاح وعدم الانغلاق، الانفتاح على المستقبل وعلى الآخر، شرط أساس، لا لاستمرار التفكير الفلسفي وانتعاشه فحسب، وإنما لميلاده ونشأته.
لا تعني العقلانية مطلقاً الإجماع حول رأي واحد، لكنها لا تعني كذلك عدم التفاهم المطلق. إن كان هناك إجماع، فلا طريق إليه إلا الجدالُ الذي يقبل بتعدّد الآراء وتضاربها. وهكذا سيغدو «الاختلاف رحمة»، وتغدو العقلانية حياة تُغزى وتكتسح، وتجربة تُغذَّى وتُرعى، ونضالاً متواصلاً، ودرباً لا نهاية له.
طبيعي، والحالة هذه، أن يعرف مجال المعقولية تحولات بتجدد المقاومات التي تقوم أمام العقل أثناء فعاليته، وتنوُّع أشكال اللافكر التي تقوم عائقاً ضد كل تفكير. وقد سبق لجيل دولوز، إرساءً للنهج الذي يمكن للفكر، أو لنقل على الأصح، الذي يتبقى للفكر أن ينهجه في عالمنا المعاصر، سبق له أن ميّز بين أشكال متعددة من اللافكر، وبالتالي من المقاومات التي يمكن للفكر أن يواجهها، وللأدوار التي يتبقى للفلسفة أن تلعبها: ففي وقت اتخذ اللافكر اسم الخطأ، فكانت مهمة الفلسفة هي الحيلولة دون الوقوع في الأخطاء. من أجل ذلك كان الهوس الأساس للفكر هوساً معرفياً إبيستيمولوجيا، وكان على الفيلسوف أن يستخلص القواعد التي تمكّنه، كما يقول أبو الفلسفة الحديثة: «أن يمتنع من أن يحسب صواباً ما ليس كذلك». عندما انتبه الفكر أن هذا التحصين المنهجي لن يمكّنه من تفادي الأوهام التي تعمل خِفية، والتي تتمتع بقدرة على التستر والمقاومة، تسلَّح بالنقد لفضح هذه الأوهام، وتحديد شروط الصلاحية، أو كما قيل تحديد «مجال الاستخدام المشروع للعقل» (كانط). وابتداء من القرن التاسع عشر لن يكتفي الفكر لا بوضع «قواعد لتوجيه العقل»، ولا بتبيّن حدود الصلاحية، وإنما سيغدو مقاومة، ومقاومة تكافئ في عنادها لا صلابة الأخطاء، ولا قوة الأوهام ومكرها، وإنما ما يدعوه دولوز، بعد نيتشه، البلاهة والترهات.
خصم الفلسفة اليوم هو البلاهات والترهات التي يصنعها «مجتمع الفرجة»، ويحاول الإعلام بما يمتلكه من قوة جبارة أن يرسّخها وينشرها.
مأساة عصرنا لا تكمن إذاً في كونها لافكراً، وإنما في كونها لافكراً يفكر، فهي لم تعد ذلك الجهل الذي قد يُتدارك عن طريق التربية والتكوين، ولا فراغ الفكر الذي قد يملأه الانفتاح على السؤال، وإنما غدت تقدّم نفسها على أنها فكر، بل كل الفكر، من هنا اكتفاؤها بذاتها وصلابتها وتجذرها، خصوصاً عندما ستزداد الأفكار الجاهزة ذيوعاً مع انتشار وسائط الإعلام، وعندما تعمل «الصورة» في «مجتمع الفرجة»، على مخاطبة ملكاتنا جميعها واستثمارها في غرس «البلاهات».
يتضح من ذلك أنه لا يكفي مدرسَ الفلسفة اليوم، كي يقوم بالدور المنوط به، تحصيل معارف تنهل من معين تواريخ الفلسفة في مختلف أشكاله وحِقبه. ذلك أننا لو أنطنا بالفلسفة أساساً مقاومة كل أشكال التخشب الفكري، فإننا ينبغي أن نسلم مع ذلك بأن التخشب لا يلحقنا فحسب من ترسّخ مقولاتنا في الماضي، ولا من ترديد بليد لمقولات «نستوردها»، وإنما أيضاً مما نتشرَّبُه يومياً من أشكال اللافكر التي نتغذى عليها، والتي تجعلنا فاقدين القدرة على إدراك حقيقة التجربة الفعلية، عاجزين عن تحديد صحة الخطابات، بل فاقدين لأدوات تمحيصها والبت فيها، مستعدين لتقبل أيّ خطاب حول العالم، فاقدين القدرة على التفرقة والتمييز، القدرة على التفكير.
فقدان هذه القدرة، أو ما يطلق عليه البعض «الدوخة الأيديولوجية»، أليس هو ما أصبح يولّد هذا الهروب إلى الأمام الذي يطبع النزعات الأصولية، والذي يجعل جيلاً بكامله يشعر أن العقل لم يعد يقوى على شيء، وأن لا حيلة له أمام العوائق مهما كانت: قديمها وجديدها؟ لكن، أليست هذه الدوخة، بمعنى آخر، هي ما يؤكد راهنية التفكير الفلسفي الذي من شأنه وحده أن يعيد للعقل ثقته بنفسه، وأن يفتح الباب لمشروعية السؤال؟
وغني عن التأكيد أن استعادة الثقة هذه لن تتحقق إذا ما وضعنا أنفسنا جهة الحقيقة ووضعنا الآخرين جهة الخطأ، وإنما بأن نتشكك دوماً في اقترابنا من الحقيقة، فنعيش بصحبة الشك، شريطة أن نفهم هذه الصُّحبة، لا غرقاً في عدمية ويأس مطلق، وإنما على أنها تسليمٌ بأن الأمور هي دوماً أعقد مما نتصور، وإحساسٌ لا يشبع بنقص وعوَز، وشعور لا ينفكّ بعدم اكتمال، ووعيٌ ملازم بالحدود.
- مفكر مغربي