عبدالله علي صبري*
دعا وزيرُ الخارجية في حكومة الإنقاذ روسيا إلى بذلِ المزيدِ من الجهود باتّجاه إنهاء العدوان على اليمن وإيقاف الحصار، والبدء في عملية سياسية سلمية. وأكّـد هشام شرف في حوار أجراه مؤخّراً لوكالة “سبوتنيك” على أهميّة الدور الروسي في حَـلِّ الأزمة اليمنية؛ باعتبَارها إحدى الدول الخمس الأعضاء في مجلس الأمن. ولفت شرف إلى خطورةِ الدور البريطاني وما يُعرَفُ بالرباعية الدولية المعنية بالمِـلَـفِّ الدولي. وقال: إن وجود روسيا سيكون مهماً جِـدًّا في إحداث توازن سياسي على غرار موقف موسكو في الأزمة السورية.
وكان رئيسُ الوفد الوطني، محمـد عبدالسلام، تحدَّث في حواره الأخير لصحيفة 26 سبتمبر بنوعٍ من العَتَبِ حولَ الدور الروسي تجاه العدوان على اليمن، وقال: إن بإمْكَانها أن تلعَبَ دوراً أكثرَ إيجابيةً في المِـلَـفِّ اليمني، وبما يخدُمُ الاستقرارَ والسلم في المنطقة. وإذ أشاد عبدالسلام بتطور الموقف الروسي خلال السنتين الماضيتين، فقد ألمح إلى أدوار يمكنُ أن تلعبَها موسكو مستقبلاً من خلال بلورة أفكارٍ جديدةٍ تطرحُها على طاولة مجلس الأمن، وتفضي إلى إيقافِ العدوان والحصار ودعم الحوار السياسي بين اليمنيين.
هنا تفرِضُ التساؤلاتُ نفسَها: ما الذي تريدُه صنعاءُ بالضبط من روسيا؟ وما الملاحظات على الموقف الروسي إجمالاً من العدوان على اليمن؟ وهل بإمْكَان روسيا أن تغيِّرَ موازين القوى في حال قرّرت الرفعَ من وتيرة تعاطيها مع المِـلَـفِّ اليمني؟ وما الذي لم تفعلْه روسيا بعد وبإمْكَانها أن تفعلَه مستقبلاً؟
ابتداءً، فإنَّ عتبَ صنعاء لا يعني بأي حال من الأحوال القبولَ بالتدخل العسكري أَو بأيِّ نوع من التدخلات خارج النطاق السياسي والدبلوماسي، وهذا ما أكّـد عليه رئيسُ الوفد الوطني في الحوار الصحفي آنفِ الذكر، وهو ما سيحكم قراءتنا التحليلية للدور الروسي في اليمن واستشراف الخطوات المستقبلية للعلاقة المرجوة بين صنعاء وموسكو في خضم المتغيرات الدولية والإقليمية التي تعصف بالمنطقة.
مؤخّراً قفزت إلى سطح التناولات الإعلامية علاماتُ استفهام جديدة حول الأبعاد التي دفعت موسكو إلى الاعترافِ بسلطة المجلس السياسي الأعلى في صنعاء، واعتبار المشير مهدي المشَّـاط رئيساً للجمهورية اليمنية بدلاً عن عبدربه منصور هادي، الذي ما تزالُ موسكو تعترفُ رسميًّا بشرعيته وشرعية حكومته. ففي يوليو المنصرم ظهر الرئيسُ المشَّـاط على أطلس روسيا –وهي موسوعةٌ رسمية تُعنَى بالجغرافيا السياسية للعالم- بصفته رئيساً للجمهورية اليمنية، الأمر الذي عكسته وسائلُ التواصل الاجتماعي في تداولات ناشطيها، وقدّمته بكونه اعترافاً ضمنياً بشرعية حكومة صنعاء وسلطتها على الجمهورية اليمنية، فهل كانت روسيا بهذه الخطوة تكشفُ عما يدورُ في أروقة ودهاليز الكرملين، أم أنها بالونة اختبار لا أكثر؟
مع الكل ضد الكل
حتى الآن، فإن موسكو لم تنفرد بموقف أُحادي تجاه العدوان والحرب على اليمن، فهي وإن امتنعت عن التصويت على قرار مجلس الأمن 2216 (2015م)، إلا أنها لم تحَرّك ساكناً حيالَ انتهاكات وجرائم التحالف باليمن، وكما أنها لم تسحب سفيرَها من صنعاء مع بداية الحرب، فإنها ظلت على موقفِها المؤيد لحكومة هادي، وحتى بعد أن خسرت حليفَها القديمَ في صنعاء ممثلاً بعلي صالح، فقد عززت من انفتاحها وتواصُلِها مع “أنصار الله” ومع “المجلس الانتقالي الجنوبي”. وبرغم تصاعد أزماتها مع واشنطن ولندن في كثيرٍ من المِـلَـفَّات والقضايا، إلا أنها تقاطعت معها حين عززت من علاقاتها السياسية والاقتصادية مع الرياض وأبوظبي، وغضت الطرفَ عما يجري في اليمن.
هكذا بدت موسكو قريبةً من كُـلّ أطراف الصراع في اليمن، وبعيدةً عنها في ذات الوقت -مع الكل ضد الكل-، الأمر الذي يعكسُ مدى البراغماتية السياسيّة التي طبعت الأداءَ الدبلوماسيَّ الروسي، بعد أن تخلّت عن “أيديولوجيا” ما كان يُعرَفُ بالاتّحادِ السوفيتي سابقًا. ومع ذلك، لا يخفي الدُّبُّ الروسي تطلعاتِه نحوَ اليمن، ومحاولةَ استعادة نفوذه القديم، حين كانت عدنُ العاصمةَ الشيوعيةَ الوحيدةَ في العالم العربي، ورأسَ الحربة السوفيتية في الجزيرة والخليج إبان الحربِ الباردة.
تعتقدُ موسكو أن منهجيتَها في التعامل مع المِـلَـفِّ اليمني يؤهِّلُها للعبِ الوسيط بين الأطراف المتصارعة، دون أن تخسرَ علاقاتها السياسية واستثماراتها الاقتصادية مع دول تحالف العدوان السعودية والإمارات وثالثتهما مصر. وقد حَطَّ الرئيسُ فلادمير بوتين رحالَه على أراضي المملكة السعودية أكتوبر 2019م في الوقت الذي كان الحاكمُ الفعلي بن سلمان يعيشُ أزمةَ تصاعد الابتزاز الغربي للرياض إثر تداعيات اغتيال الصحفي السعودي جمال خاشقجي، في دعمٍ سياسي كبير لم يخلُ من عوائدَ اقتصاديةٍ كانت جيدةً ومُرضيةً للطموح الروسي.
حربُ النفـط والقواعدُ العسكرية
ولأَنَّ لُغةَ المصالح لا تعرفُ الثبات، فإن شهرَ العسل مع الرياض لم يدُم طويلاً، ففي مارس من العام الجاري تفجّر الخلافُ الروسي- السعودي- الأمريكي حول رؤية تخفيض الإنتاج النفطي، ما أَدَّى إلى تهاوي أسعار النفط على نحوٍ غيرِ مسبوق، وهو ما أثّر سلباً على كُـلِّ الدول المنتجة للنفط. ومع أن تفاهُماً سعودياً روسياً قد أنقذ الموقفَ نسبياً إلا أن تداعياتِ أزمة كورونا العالمية ألقت بظلالها على سوقِ النفط عالمياً.
وكانت موسكو قد عززت اتصالاتِها بالمجلس الانتقالي الجنوبي، وهو الفاعلُ السياسي الجديد الذي ظهر على الساحة اليمنية بدعم إماراتي. وفي مارس 2019م، استقبلت الخارجية الروسية وفداً من قيادات “الانتقالي الجنوبي”. وبحسب باحثين فإنَّ هذه الخطوة غيرُ منفصلة عن التفاهم الروسي الإماراتي في كثيرٍ من المِـلَـفَّات الساخنة بالمنطقة. وأفادت تسريبات إعلامية بأن أبو ظبي عرضت على موسكو، إنشاءَ قاعدة عسكرية بحرية في “عدنَ” أَو “سقطرى” مقابلَ دعم المخطّط الإماراتي في جنوب البلاد.
علماً أن الرئيسَ بوتين وقّع مع محمـد بن زايد في يونيو 2018م، إعلانَ الشراكة الاستراتيجية بين البلدين. وإثر التفاهم المعلَن أعادت الإمارات فتحَ سفارتها في سوريا، بينما انخرطت موسكو في النزاع الليبي ومساندة اللواء حفتر المدعوم إماراتياً.
وتسعى روسيا منذ انهيار الاتّحاد السوفيتي إلى مد نفوذها باتّجاه البحر الأحمر وباب المندب، وسبق أن أجرت تفاهمات مع الرئيس السوداني السابق عمر البشير بشأن إقامة قاعدة بحرية في السودان. أما طموحاتها في سقطرى فليست بالجديدة أَو الخفية، وهي تأتي ضمن الصراع الدولي على الموانئ والمنافذ البحرية الاستراتيجية في اليمن والإقليم. وبغضِّ النظر عن مدى مصداقية التسريبات أعلاه، فلا بُدَّ من مقاربة التفاهم الروسي الإماراتي من منطلقِ أن أبو ظبي تعدُّ الطرفَ الأضعفَ في الرباعية الدولية المعنية بمِـلَـفِّ اليمن، بينما روسيا خارجَ الإطار برمته، واستقواء أبوظبي بموسكو يخدُمُ المصلحة المشتركة للطرفين.
المبادرةُ الروسية إلى أين؟
لكن إذَا كانت روسيا قد كثّـفت من التواصل مع المجلس الانتقالي الجنوبي كفاعلٍ جديدٍ في المشهد اليمني، فإنها فعلت الشيءَ نفسَه مع “أنصار الله” ومنذ وقت مبكر. صحيحٌ أن علاقتَها بصنعاءَ قد تراجعت بُعَيْــدَ مقتل الرئيس السابق للمؤتمر الشعبي العام نهايةَ 2017م، لكنها سرعانَ ما استأنفت التواصلَ والانفتاحَ على أنصار الله مجدّدًا. ففي يوليو 2019م، استضافت موسكو الوفدَ الوطني برئاسة محمـد عبدالسلام، والتقى الوفدُ مع نائب وزير الخارجية الروسي، ميخائيل بوغدانوف، جرى خلاله مناقشةُ المسار السياسي واتّفاق السويد، والخطوات التي تم تنفيذها، والعراقيل والعوائق التي يفتعلها الطرفُ الآخر أمام تنفيذ اتّفاق الحديدة.
والأهمُّ من ذلك أن الوفدَ اليمني تسلّم من موسكو مبادرةً روسيةً تتعلق بأمن الخليج وإنهاء الحرب في اليمن، وهي الخطوة التي أثارت امتعاضَ ما يسمى بـ “الحكومة الشرعية” التي وجدت نفسَها بمعزلٍ عن النقاش الإقليمي الذي أثارته روسيا، وقيل حينها: إن المبادرة الروسية لا يمكن أن تكونَ بمعزلٍ عن التفاهُمِ مع الطرف السعودي الإماراتي، وربما مع الجانب الأمريكي.
وقد أبدى الوفدُ الوطني ترحيبَه وتفهُّمَه للمبادرة الروسية، لكنه أرجأ الردَّ النهائي، حتى عرضها على القيادة السياسية في صنعاء، غير أن الرياض رفضت المبادرةَ، كما هي عادتها مع كُـلّ المحاولات الرامية لإحلال السلام في اليمن. وتبين لاحقاً أن الرفضَ السعودي كان بإيعاز من البيت الأبيض، إذ تضمَّنت المبادرة -بحسب ما تسرب منها- محورًا خاصًّا بالقواعد العسكرية في منطقة الخليج العربي بشكل عام في وقت سابق. ومن بين التدابير التي اقترحتها روسيا رفضُ نشر قواعدَ عسكرية أجنبية في المنطقة، ما يعني إجلاءَ القوات الأمريكية من المنطقة من خلال اتّفاقٍ إقليمي تتشاركُ فيه إيرانُ والدولُ العربية مع روسيا.
تبخرت المبادرةُ الروسية، وتراجَعَ معها الاهتمامُ الروسي بالمِـلَــفِّ اليمني. وبالرغم من كُـلِّ التطورات الأخيرة وتنامي عمليات توازن الردع اليماني خلال الشهور الأخيرة، لا تزال موسكو تتحيَّنُ فرصةً أُخرى حتى تعودَ إلى مزاولةِ دورِ الوسيطِ من جديد؟
ما لم تفعلْه روسيا بعـدُ
تدركُ روسيا جيِّدًا أن تحالُفَ العدوان على اليمن وعملياته العسكرية، إضافةً إلى الجرائم والانتهاكات المتوالية بحق المدنيين خلال ستِّ سنوات منذ بدءِ ما يسمى بـ “عاصفة الحزم”، يمنحُ الدولَ المناهضة للحرب فرصةَ التدخل إن هي أرادت الانتصارَ للعدالة وللأمن والسلم الدوليين. وَإذَا كان لكل دولة حساباتِها السياسيةَ والاقتصادية التي يتعيّن تفهُّمُها إلا أن الأوراقَ التي بيد موسكو تؤهِّلُـــها للعب دورٍ أكبرَ وأكثرَ إيجابيةً في اليمن، ومن خلال الوسائل الدبلوماسية والسياسية فقط.
فعلى سبيل المثال يمكنُ لروسيا ودولٍ أُخرى الضغطُ باتّجاه إيقاف الحصار عن الشعب اليمني، بالاستنادِ إلى قرار مجلس الأمن 2216، الذي تمادت دولُ التحالف في تفسيره، فأطبقت حصارًا كليًّا على الشعب اليمني، بزعمِ الحؤول دون تدفُّقِ الأسلحة إلى طرف صنعاء. في هذا السياق يمكنُ لروسيا معارضةُ الإجراءات التعسفية والعملُ مع الأمم المتحدة على ضمان تدفقِ السلع والمساعدات إلى كُـلِّ مناطق اليمن. ويمكنُ البناءُ على اتّفاق السويد الذي تضمَّنَ آليةً جديدةً للتفتيش، ولكن من داخل الأراضي اليمنية (الحديدة)، وليس من خارجها.
كذلك الأمر بالنسبة لمطار صنعاء الدولي، الذي لم يغلق في وجه الرحلات التجارية والمدنية إلا بعدَ من أكثرَ من عام على بدء العدوان، وبدون أية مرجعية يمكنُ لتحالف العدوان الاستنادُ عليها، وتستطيعُ موسكو بالتعاون مع دول أُخرى العملُ على استئناف عمل المطار وفرضُ أمرٍ واقعٍ جديدٍ دونَ حاجة للمقايضات السياسية والاقتصادية.
التمثيلُ الدبلوماسي هو الآخرُ ضمن التدابير التي يمكنُ لموسكو انتهاجُهُ دون حاجة إلى مبادرات أَو مفاوضات، فكما أنها حافظت على بقاءِ سفارتها وسفيرها لدى اليمن في صنعاء، خلال السنوات الأولى للحرب، يمكنُها التوجيهُ لسفيرها بالعودة إلى صنعاء مجدّدًا، وتشجيعُ الدول الأُخرى التي ترغَبُ في خُطوةٍ مماثلة.
ولا شكَّ أن مثلَ هذه التدابير وإن كانت ستلقى معارضةً وتبرُّمًا سعوديًّا، إلا أنها لا يمكنُ أن تؤديَ إلى أزمةٍ تتعرضُ معها مصالحُ موسكو للخطر، وهي بالنسبة لصنعاء تمثِّلُ الحدَّ الأدنى مما تمليه علاقاتُ الصداقة مع شعبٍ يعيشُ تحتَ كارثةٍ إنسانيةٍ تتفاقمُ يوماً بعدَ آخر تحتَ وطأة خذلانِ المجتمعِ الدولي.
- رئيس اتحاد الإعلاميين اليمنيين
المصدر : المسيرة