نهلة راحيل*
يرتبط النص الأدبي بأنساق ثقافية تسهم في تشكيل مجرياته الحدثّية والفنية، وتأتي جوابا على طبيعة المخزون المعرفي السائد في مجتمع ما، ويتحرك الفرد بنوعيه (الذكر/ الأنثى) داخل تلك الأنساق، فيتمرد عليها تارة، ويهاجمها تارة، ويستسلم لها تارة أخرى، وغيرها من تحركات منغرسة في الخطاب السردي بفعل ثقافي مهيمن على وعي الكاتب.
لذا فإن الطرح الذكوري يختلف في طبيعته عن الطرح النسوي، على الرغم من أن كليهما خاضعين للأنساق ذاتها، ويعود ذلك في الأساس إلى اختلاف فعل السلطة الثقافية/ الاجتماعية عليهما، وبالتالي اختلاف رد الفعل من كليهما. ومن ثم، فإن وجود الأنثى في الهامش الاجتماعي، جعلها تسعى كتابيا إلى الصعود إلى المتن بجوار الذكر، ما جعل إنتاجها الأدبي جزءا من أدوات التمرد على الضوابط الاجتماعية السائدة. من هنا تسعى النصوص الأدبية النسوية إلى عرض تلك الصورة النمطية، في سبيل تصحيح ذلك المسار الاجتماعي المرفوض، سواء بالتمرد عليه وطرح رؤية بديلة أساسها العدل، أو بالاكتفاء بتخليد ما تعانيه المرأة في ظل وضع اجتماعي ظالم فُرض عليها.
تجسد قصة «ألعاب نارية لاحتفال فض بكارة» المنشورة ضمن المجموعة القصصية «عادة ليست سرية» (2012) للكاتبة اليمنية نادية الكوكباني، العديد من السياقات الثقافية التي ترصد معاناة المرأة داخل البيئة اليمنية القبلية، وتقوم بتعرية جملة من القضايا المسكوت عنها في المجتمع المحافظ، وعلى رأسها تزويج القاصرات، وسفاح القربى تحت مسمى السلطة الأبوية، وتشير كذلك إلى مفهوم تشيئ المرأة، وما يرتبط به من ظواهر كتعدد الزوجات، والعنف الجنسي، وجرائم الشرف، وتوجيه الأنثى نحو قبول الخضوع والامتثال لسلطوية الذكر.
ومع غياب الوصف التفصيلي للجسد الأنثوي ومراحل تكوينه، تستنطق الكاتبة معاناة الفتاة الجسدية معتمدة على الإيجاز السردي الذي يستحضر العديد من المعاني الغائبة والدلالات المحتملة، وكذلك على التكثيف الحدثي الذي يحيل إلى القهر الأسري المحدد لحرية الفتاة.
وتسرد الكاتبة – بصوت الراوي كلي العلم- تجربة فتاة أرغمها أبوها على الزواج من أحد الخدم العاملين لديه، ليتأكد من بكارتها، لمجرد عثوره على رسالة مبعوثة لها من أحد المعجبين بها لا تعرفه، وتصف تجهيز الفتاة الصغيرة للعرس، ثم اغتصابها أمام أعين الأب بعد أن رفضت اقتراب الزوج منها ليلة عرسهما، وتنتهي الأحداث باحتفال الأب بالألعاب النارية، متباهيا بسلامة شرف ابنته، بدون الاهتمام بحالتها النفسية والجسدية، وتزويج شقيقتها الصغرى في سن الثامنة من أحد رجاله كي لا يتكرر ما حدث، فيضمن سلامة شرفه. وقد أدى العنوان- بوصفه واحدا من أهم المصاحبات النصية التي تكشف عن مقصدية الكاتب، كما حدد جيرار جينيت- دورا رئيسا في الإحالة إلى مضمون النص، وتحديده منذ البداية في ذهن المتلقي؛ حيث تكّون العنوان من مجموعة من الدوال الأسمية (ألعاب نارية- احتفال- فض بكارة) التي شكلت خطابا نصيا يختزل النص الكلي، وبالتالي يمكن اعتباره علامة كتابية جوهرية، هيأت القارئ للدخول إلى أحداث النص، خاصة مع صغر حجم الفضاء الكتابي للقصة القصيرة.
كتابة الجسد الأنثوي
جاء الجسد – كما طرحته قصة «ألعاب نارية لاحتفال فض بكارة» ليؤكد على سيطرة النظام الأبوي، الذي يرسخ لتراتبية قمعية يقوم فيها الرجل بدور المهيمن، في مقابل وضعية المرأة الأدنى، التي حُددت وفق نوعها البيولوجي وحسب، فنجد الجسد مكبلا بمجموعة من القيود التي قهرت وجوده، سواء أكانت دينية، أم اجتماعية، أم قبلية، والتي تبلورت جميعها في شكل سلطة الأب أو الزوج، اللذين نصبهما المجتمع الذكوري حماة للشرف يحكمون الرقابة على جسد الأنثى. ورغم أن الكاتبة لم تتطرق لتفاصيل الوصف الجسدي للأنثى، أو تطرح علاماته البيولوجية الفارقة، فإنها اكتفت بتسجيل الألم النفسي، الذي لازم الفتاة جراء تحقق الأب من سلامة غشاء بكارتها، بعد أن انحصرت معطيات الجسد الأنثوي في دائرة الشك، الذي وجهه الأب لشرف الفتاة وعرضها للعنف الجسدي والنفسي
«أجبر خادمه على اغتصابها أمامه، ليرى بأم عينيه دماً أحمر يسيل أمامها، رآه أخيرا، رآه كثيفا دافقا يخرج من أكثر أحشائها غورا! ها هو يقفز فرحا، يتجه نحوها، يقبلها، ابنته الشريفة العفيفة! اعتذر لها وجسدها ما زال ينتفض من الخوف، ودمها يبقبق ساخنا في كل أرجاء القبيلة. قرّر أن يحتفل بذلك، نظرت في وجهه ومرارة العالم مرتسمة على ملامحها. لم يكترث، أو يؤنبها على تلك النظرات التي تبصق في وجهه. كلّ شيء لا قيمة له أمام إنجاز بكارتها العظيم».
ومع غياب الوصف التفصيلي للجسد الأنثوي ومراحل تكوينه، تستنطق الكاتبة معاناة الفتاة الجسدية معتمدة على الإيجاز السردي الذي يستحضر العديد من المعاني الغائبة والدلالات المحتملة، وكذلك على التكثيف الحدثي الذي يحيل إلى القهر الأسري المحدد لحرية الفتاة والضغط الاجتماعي الممارس ضد خصوصيتها الجسدية: «ثارت ثائرته! لا بد أن الأمر تعدى ذلك بكثير، بحث عنها، ابنته المجرمة التي لم تتجاوز العاشرة من عمرها! ها هي تلعب مع صديقاتها أمام المنزل، في الجزء الخاص بالنساء. التقطها من رقبتها كمن يلتقط حشرة! ألجمتها المفاجئة! لم تسأل! أو تتكلم! لم تجد الفرصة لتستيقظ من الكابوس الذي بدأ للتو… تهاوى فوقها هذا الجبل العظيم، شيخ القبيلة وحامي حماها! قام بتفتيشها، بتجريدها من ملابسها الداخلية، ليتأكد بنفسه من عذريتها، من ذلك الغشاء اللعين الذي لم تكن تعلم عنه شيئا حتى اللحظة».
وبهذا، كان الجسد الأنثوي منتجا فاعلا للنص لدى الكوكباني، التي جعلت التكوين البيولوجي- غشاء البكارة- حالة نصية تبرز المشاكل الاجتماعية المحيطة بالمرأة وتكشف عن المنظومة الثقافية المشكلة للوعي الجمعي، حيث كان الجسد الأنثوي حاضرا بالغياب بعد أن احتل موضع السيادة في النص بداية من العنوان، فكان الطرح البيولوجي الخاص بثنائية الشرف/ الجسد هو المشكل الأول لأحداث القصة.
معطيات المجتمع الأبوي
رصدت القصة السلطة الأبوية بوصفها من أبرز الصور السلطوية المفروضة على الأنثي داخل المجتمع اليمني، فما حدث للمرأة من جراء السلطة الأبوية المنتهكة لحقوقها، كان المحرك الأساس للفاعلية السردية بالنص؛ حيث تعد ظاهرة تزويج القاصرات من الحوادث المتكررة في البيئة اليمنية – خاصة القبلية- التي تجسد السلطة الذكورية المسلطة قهرا على الأنثى. فكان العنف الجسدي ضد الفتاة من الأدوار التي يتبادلها الأب والزوج، مع الحرص على تأويله وفق معطيات المجتمع الأبوي، الذي يواجه الشك بالعنف تحت ما يسمي بالحفاظ على الشرف وحماية العذرية، خوفا من الخطيئة التي حصرها النسق الذكوري في المرأة:
«قرر عندها أن يقطع الشك باليقين، ويقوم بتزويج ابنته، وعلى وجه السرعة! أي اليوم التالي مباشرة! وبمن؟ بأحد أتباعه المخلصين، الذي يمكنه أن يخرس لسانه في ما لو كان قد أخطأ فحصه لبكارة ابنته شخصيا، وفي ما لو كانت «المزينة» تكذب بسبب خوفها من عقاب الشيخ». وقد رافق السلطة الأبوية في النص غياب الأم المعنوي، واضمحلال دورها في البنية الأساسية للأسرة، ما أسهم في تمادي الدور الأبوي المهمِّش لكل أنثى تدخل ضمن سلطته، سواء الزوجة أو الابنة. وبذلك كان تركيز النص على الأنثى الضحية، بسبب السلطة الذكورية انعكاسا واضحا للأنساق الثقافية التي تنتج الأنثى النمطية المغلوب على أمرها، فجاءت الأم ضحية الدور الاجتماعي، الذي يدخلها في دوامة القهر المرتبطة بتعدد الزوجات، ولكنها- مع ذلك- تستوعب القهر الذكوري، وتمرره إلى ابنتها حتى تصبح الابنة امتدادا لتبعية الأم. ولذلك فبسبب دور الهيمنة الممنوح للرجل ودور الخضوع المُعّد للمرأة، وهي أدوار مبنية ومشيدة اجتماعيا وثقافيا، وليست معطاة بصفة بيولوجية. بمعنى أنها نتيجة «الجنوسة» وليست نتيجة «الجنس»، نتيجة الثقافة وليست نتيجة الطبيعة، نجد الأب يتخذ من تلك الأعراف الاجتماعية مبررا داعما لممارسة الإيذاء الجسدي والنفسي ضد ابنته.
فتشير الكوكباني إلى ملامح تلك الثقافة المجتمعية، التي تسهم في بناء الذات الذكورية، وتوجه وعي الرجل إلى ضرورة الإفصاح عن قوته، مقابل ضعف المرأة، وفحولته في مقابل أنوثتها، وعقلانيته مقابل عاطفيتها، وغيرها من تقابلات ثنائية نمطية، تروّج لها التحديدات الاجتماعية القائمة على التقسيم البيولوجي: «تلك البكارة التي يتقن فضها، وبسهولة، مبرهنا على فحولته التي لم يمٌسها الدهر بسوء، أو يظفر منها الزمن بشيء، وبمعدل بكارتين كل عام… هو معدل زواجه السنوي من أجمل صغيرات القرية، والقرى المجاورة».
وكان ارتباط دال «الدم» بمدلول شرف المرأة الذي يحميه الرجل أحد الأنساق الاجتماعية، التي أدت وظيفة محورية في الخطاب النسوي لدى الكاتبة، فبينما يحمل الدم قيمة إيجابية في المجتمع الذكوري (دم المحارب المجازف بحياته بقراره الحر والخاص) كما يرى فرانسواز ايريتييه – يحمل هو نفسه قيمة سلبية عندما يقترن بالمرأة (دم الحيض، دم العذرية، دم النفاس)، وهو علامة على ضعف البنية – من وجهة النظر الذكورية – الذي أرادته لها الطبيعة، وحتمت عليها الخضوع والتبعية. وهي الفكرة التي ترصدها قصة «ألعاب نارية» عن طريق تجسيد النواة الأساسية للسيطرة الذكورية المرتكزة على رؤية المرأة كمصدر للخطيئة، وعلى الرجل أن يكفل لها الحماية الجنسية في كل مراحل تكوينها البيولوجي، وفي ظل هذا النظام الاجتماعي الذكوري، يسمح الأب لنفسه بتزويج ابنتيه القاصرتين قسرا شكا في عذريتهما:
«قرر الشيخٌ، وسط الاحتفالات الصاخبة، تلافي هذه المعضلة بتزويج شقيقتها الصغرى في سن الثامنة من أحد رجاله أيضا، على أن يتم الدخول بها في سن الثانية عشرة. لا يريد أن يحيا هذا الهم من جديد، لم يستطع صبرا الرجل الذي حمّله الشيخ كاهل الحفاظ على بكارتها أربع سنوات. بمنتهى الهدوء ذهبت الشقيقة إلى أبيها لتحكي له ببراءة أن رجُلهُ قد أدخلها محراس المزرعة، عندما ذهبت لتحضر له غواث اليوم، وسبب لها جرحا بين فخذيها، أسال دمها، بشيء لم تستطع تمييزه من شدة الظلام… بحث عنه الشيخ طويلا ذلك الخائن الذي لم يرَ وجهه للأبد».
كان استغلال الدين واتخاذه حجة لممارسة السلطة الذكورية على الأنثى من السياقات الثقافية الحاكمة لمسار السرد في النص، بعد أن حرصت الكاتبة على إبرازه بوصفه عنصرا من عناصر الانحياز إلى الذكورة، فكان التفسير الذكوري الخاطئ للنص القرآني هو ما يعطي الأفضلية للرجل على المرأة.
وقد كان البعد الديني لظاهرة تعدد الزوجات والمرتبط بالفهم الخاطئ والمجزوء للآية القرآنية «فانكحوا ما طاب لكم من النساء مثنى وثلاث ورباع»، سببا في شيوع ثقافة تعدد الزوجات في المجتمع اليمني، وما يرتبط بها من مظاهر كثرة الإنجاب وتسليع الأنثى، وهو ما رصدته الكاتبة في معرض سردها لحياة الشيخ/ الأب: «رغم أنها ابنته التي لا يعرف رقم كم هي، ومن أي زوجة، لأنه لا يحفظ ذلك إلا بعد تكرار الأمر عليه، أو حسب غلاوة أمها في عينيه…» فهناك مشاغل عديدة يقوم بها الشيخ، مشاغل تهم القبيلة، والناس، والجوار…أما شؤون أولاده فلهم من يهتم بها من الخدم المتخصصين بالنظافة والأكل والتعليم».
فمن أهم القضايا التي تثيرها السرديات النسوية عموما هي النظرة الدونية التي تروّجها أدبيات الأديان وتفسيراتها – وليست النصوص الدينية ذاتها- لوضع المرأة واستلابها الجسدي، ما أدى إلى ترسيخ صورة المرأة السلبية في الوعي الذكوري واستغلالها مجتمعيا لإحكام الهيمنة الذكورية وتأكيد التبعية الأنثوية. وهو ما أشارت إليه الكوكباني عن طريق ظاهرة تعدد الزوجات، التي تحتل مساحة واسعة على أرضية المجتمع اليمني، خاصة في المناطق الريفية والجبلية، واستسلام كثير من الإناث لهذا الواقع، بدون تذمر، إلى حد اعتباره حقا دينيا مباحا للذكر، وتوريث هذا التقليد من الامتثال والقبول إلى الأجيال اللاحقة من الفتيات حتى تتحول المركزية الذكورية إلى سلطة ممتدة وتراكمية، قادرة على إعادة إنتاج نفسها في المجتمع. كما انعكس خضوع الأنثى لسلطوية الذكر في قبول النسوة بالقصة لتصرف الشيخ/ الأب مع ابنته بوصفه عرفا سائدا يقابل بالطاعة الكاملة، ما يشير إلى خطورة تشرّب المرأة لمعتقدات المجتمع واستسلامها لأشكال التسلط الذكوري، المبررة بسلطة الدين، بدون وعي كاف بحقوقها. وقد ارتبط هذا الخضوع بطقوس مأساوية للأنثى تمثلت في الاحتفال بعفة الفتاة، وعدم انتهاك غشاء بكارتها، وهي من الطقوس الاحتفالية المترسخة في البيئة اليمنية بوصفها من الركائز الثابتة في منظومة الذكورة/ الأنوثة:
«ها هو يقفز فرحا، يتجه نحوها يقبلها، ابنته الشريفة العفيفة… قرّر أن يحتفل بذلك. أمر بإحضار أكبر كمية من الألعاب النارية لتفجيرها في سماء القرية، فوق رأس الجبل، على بعد خطوتين من السماء! ارتفعت زغاريد النسوة لنصف يوم حتى وصلت القبائل البعيدة، وتعالى صوت الرصاص حتى صم الآذان، نظرت في وجهه ومرارة العالم مرتسمة على ملامحها. لم يكترث، أو يؤنبها على تلك النظرات التي تبصق في وجهه. كل شيء لا قيمة له أمام إنجاز بكارتها العظيم».
وتعد النهاية المفتوحة من أبرز ركائز السرد النسوي في القصة، وهي نهاية تناسبت مع إنذار الكوكباني باستمرار الإشكالية وتفاقمها، فالساردة تختتم أحداث القصة بتزويج الشقيقة الصغرى من أحد أتباع الشيخ/ الأب وتعدي الزوج عليها قبل بلوغها، مثلما تم مع الابنة الأولى التي احتفل الأب بعفتها بعد إجبار خادمه/ زوجها على اغتصابها أمامه ليتأكد من سلامة بكارتها. وعبر هذه النهاية المعلقة متعددة الاحتمالات تلزم الكاتبة القارئ/ المجتمع بالوقوف أمام مسؤولياته تجاه الفعل الذكوري العنيف الذي مازال يتحكم في تحديد مصير المرأة.
- كاتبة من مصر