تعتبر المدن وجها حضاريا يحتضن مختلف الثقافات والتيارات الفكرية والفنية والأدبية والعلمية وغيرها، إذ أن المدن هي حاضنة الحداثة. وبحثا حول أهمية المدن أصدر الباحث والكاتب اللبناني خالد زيادة كتابا بعنوان “المدينة العربية والحداثة” تناول من خلاله التطورات التي لحقت بالمدن العربية، وخصوصًا المتوسطية، وهذا الكتاب كان منطلق لقاء افتراضي أقامه أخيرا منتدى الفكر العربي.
قال المؤرخ والمفكر خالد زيادة إن المدن العربية الأكثر تأثرًا بالتحديث العمراني ونمط العيش والعادات هي المدن/ المرافئ التي كانت تستقبل الجاليات الأجنبية والقناصل، وتوسعت فيها أعمال التجارة مع أوروبا منذ بدايات القرن التاسع عشر.
وأضاف زيادة في لقاء نظمه منتدى الفكر العربي عن بعد، وأداره الأمين العام للمنتدى محمد أبوحمور، أن كتابه “المدينة العربية والحداثة” يتناول التطورات التي لحقت بالمدن العربية، وخصوصًا المدن المتوسطية، التي بدأت ملامحها تظهر بوضوح مع المؤثرات الغربية خلال تلك البدايات.
مدينة التناقضات
اعتبر زيادة أن التحديث مرّ بثلاث مراحل؛ تمثلت الأولى بما قام به الحكام المصلحون أمثال محمود الثاني في إسطنبول ومحمد علي باشا وإسماعيل باشا في القاهرة، فخلال تلك المرحلة كان هناك اندفاع في تمثُّل أنماط العمران والثقافة والعادات الأوروبية، بما في ذلك إقامة المؤسسات البلدية. ثم كانت المرحلة الثانية التي تعرف بالمرحلة الاستعمارية في البلاد العربية، التي شهدت خلالها المدن التخطيط وفق العقلانية الغربية دون أخذ البيئة والثقافة بالاعتبار.
وبيّن زيادة أن التناقض في تلك المرحلة أصبح بارزًا بين الحيّز الحديث والحيّز القديم في المدينة الواحدة، ولم يقتصر على الجانب العمراني، بل امتد ليشمل الجوانب الثقافية، وأصبح الحيّز القديم مركزًا وموقعًا لمناهضة الاستعمار.
وقال حول المرحلة الثالثة، إنها كانت مرحلة ما بعد الاستعمار، حين برزت الحكومات الوطنية التي اندفعت في التحديث ورسم الخطط العمرانية والتنموية، وتضخمت العواصم الإدارية والتجارية والصناعية بسبب الهجرة من الأرياف. وخلال ذلك بدأت الأزمات بالظهور من حيث نمو الضواحي أو العشوائيات، التي تنقصها الخدمات الأساسية من كهرباء وشبكات مياه وصرف صحي.
وأشار زيادة إلى الكيفية التي تتم من خلالها دراسة المدن بين المؤرخين وعلماء الاجتماع، وقال “إذا كان المؤرخون يخبروننا بما اندثر من المدن التاريخية، التي لم يبق سوى القليل من معالمها العمرانية التراثية، فإن علم الاجتماع الحضري يقدم فهمًا جديدًا للتطورات التي تعيشها المدن من جهة أزمات النمو والإخفاقات التي واجهها التحديث العمراني وفشل السلطات في استيعاب التحولات الاجتماعية والاقتصادية”.
من جهته، قال محمد أبوحمور في كلمته التي قدم فيها الباحث زيادة، إن المدينة العربية الحديثة والمعاصرة هي البيئة التي تشكلت فيها المجتمعات، والتي تؤثر تأثيرًا كبيرًا في التجربة الحضارية والمفاهيم الجديدة لها. متسائلًا عن أسباب انقطاع المدينة العربية عن ماضيها، وعمّا إذا كان هذا الانقطاع جزءًا من مشكلة الانقطاع الثقافي وسقوط القيم وتلاشي التصورات للمدينة العربية في عصور ازدهارها، بسبب طغيان الطوابع الثقافية والعمرانية والهياكل الاقتصادية الأجنبية بفعل الهيمنة الغربية والاستعمار.
وأضاف أبوحمور أن دراسة المدن على النحو الذي انتهجه خالد زيادة في كتبه، يمثل جزءًا من إعادة كتابة التاريخ بالاستفادة من مناهج البحث الحديثة ولاسيما مناهج علم الاجتماع، وتوسيع أفق الدراسة التاريخية، كما أن رصد أثر الحداثة في سيرة المدن العربية يطلعنا على أنماط العلاقات داخل المجتمعات نفسها، سواء كانت مجتمعات مدنية أصلًا، أو مجتمعات ريفية أو حتى بدوية الأصول انتقلت إلى المدينة واندمجت فيها، أو تأثير الهجرات بين المدن أو من الريف ومدن أخرى بل وبلاد أخرى.
ودعا محافظ الإسكندرية السابق هاني المسيري، إلى الحفاظ على هوية المدينة وآثارها وتراثها، ولاسيما مع تكاثر المدن الريفية حول بعض المدن كما في حالة الإسكندرية.
وشدّد المسيري على أهمية تعريف الأجيال الجديدة بتراث مدنهم؛ مؤكدًا أن الثقافة تفوق التعليم في الحفاظ على الهوية، وأن تطوير البنية الأساسية ينبغي أن يراعي سمات أصالة المدينة كأن لا يكون التطوير على حساب سمة تميز المدينة كالبحر ورؤيته في الإسكندرية، وبالتالي توسيع الرؤية لاستثمار الميزة في إيجاد موارد جديدة للدخل كالسياحة العلاجية والتعليم.
آراء واقتراح الحلول
تطورات كثيرة لحقت بالمدن العربية المتوسطية
وزير السياحة والآثار الأردني السابق عقل بلتاجي بيّن في مداخلته، أن القرن الحادي والعشرين يوصف بأنه “قرن المدينة”، إذ تعد المدينة اليوم مصدرًا للحياة في جوانب كثيرة، وهناك علاقة أصبحت وثيقة بين الإنسان والمدينة، فقد عرّف “أرنولد توينبي” التاريخ بأنه جغرافيا متحركة، وقياسًا على ذلك يمكن القول إن التاريخ أيضًا هو ديموغرافية متحركة بين مدن العالم.
ورأت الإعلامية اللبنانية جيزال خوري أنّ ما يدعو للقلق هو “ترييف المدينة العربية”، مما يُخضع التطور والحداثة والديمقراطية وحرية التعبير لمفاهيم قبلية، ذلك أن أفكار التطور يُفترض أن تبدأ في المدينة وتطبَّق فيها ثم تنتقل إلى ما حولها.
وأشارت خوري إلى ما تحدث عنه أمين معلوف، حينما استخلص أن هدم بعض المدن التي حملت بذور التطور والتعددية والتنوع والتواصل بين الشرق والغرب، كان في الواقع هدمًا ترتبت عليه هزيمة على أكثر من صعيد.
باحثون عرب يناقشون سبل إنقاذ المدن والحفاظ على هوياتها وآثارها وتراثها.
أما أستاذ الفلسفة المغربي الهادي مستقيم، فدعا إلى الاستفادة من نتائج المقاربات الدراسية لمشكلات الحداثة في المدن العربية، ولاسيما في ما يتعلق بالمدينة كمجال للعيش المشترك الذي يمهد لمعالجة العديد من الأزمات ومنها الطائفية؛ مشيرًا إلى أن كتاب خالد زيادة يحفز الباحثين على الخوض في الناحية السوسيولوجية للمدينة العربية، وينبه إلى أن التخطيط للمدن ليس مقتصرًا على المهندسين والمسّاحين وإنما أصبح علماء الاجتماع والأنثروبولوجيا والاقتصاد والسياسة هم من المخططين أيضًا، كما أصبح فهم العلاقات الاجتماعية داخل المدينة ضروريًا لفهم كيفية تشكلها.
وركز المؤرخ محمد هاشم غوشة في مداخلته على تأثير التغلغل الغربي في المدن الفلسطينية خلال القرن التاسع عشر من جانب الأوروبيين ومنهم الروس والألمان، إذ بدأت هذه المدن تتطور خارج أسوارها القديمة كما حدث في يافا وحيفا والقدس، فنشأت أحياء عصرية تحولت بدورها إلى مدن بشوارع كبيرة ومبانٍ حديثة الطراز، وخرجت الطبقة المقتدرة لتسكن خارج الأسوار.
من جانبه، قال الأستاذ في الجامعة اللبنانية باسم بخاش، إن كتاب خالد زيادة يساعد على فهم أسباب التغيّر في المدن العربية بطريقة سوسيولوجية جديدة، وخاصة إزاء مشكلات تبدل المعالم والأحياء، وتضاعف أعداد السكان، وفقدان التراث والهوية؛ مشيرًا إلى أن مثل هذه المشكلات تعانيها أيضًا بعض المدن الأوروبية وليس فقط معظم المدن العربية، لكن المدينة العربية لا تزال تفتقد إلى اللمسات الجمالية التي تجدها في مدن أوروبا من خضرة وجمال، وتطور في أفكار الإنسان نفسه.
وأضاف بخاش أن المدينة العربية تعاني الانقسام بين مدينة شرقية وغربية أو منطقة فقيرة ومنطقة ثرية، أو مدينة قديمة ومدينة جديدة، جراء ما قسّمه الاستعمار، وهذه التقسيمات أدت إلى ظهور العشوائيات والفوضى في التنظيم واجتياح الساحات العامة والشواطئ في المدن الساحلية؛ محذرًا من أن الفوضى التي تسببت بها تناقضات الحداثة كانت بالنتيجة أخطر من تأثير الحرب.
ورأى بخاش أن مشكلات المدينة العربية تأتي من انعدام التخطيط الجيد وقلة الكفاءة وسوء التنفيذ، وعدم احترام القوانين والاستهتار بها؛ داعيًا إلى مقاربات جديدة لفهم التحولات وإعادة النظر في المناهج، ومشاركة المفكرين في صناعة القرار، والاهتمام بالتنمية المستدامة والشاملة كي لا تصبح المدن التي تعاني مثل هذه المشكلات منفرة وغير قابلة للحياة.