تعويل جماعة الإخوان المسلمين بشكل مبالغ فيه على تركيا لتكون ملاذا آمنا لقادتها وعناصرها الفارّين من بلدانهم، وعلى القيادة التركية الحالية لتكون سندا للجماعة ورافعة لمشروعها بعد أن ساهمت خلال العشرية الأخيرة في إسقاط عدة بلدان عربية في الفوضى وغالت في عدائها لمجتمعات بلدان أخرى والإساءة إلى قياداتها، يضع الإخوان أمام خطر التحوّل إلى أداة طيّعة ضمن أدوات أخرى يستخدمها الرئيس التركي رجب طيب أردوغان في تنفيذ مشروع هو في جوهره مشروع قومي تركي متطرف بلبوس إسلامي.
إسطنبول – يظنّ عناصر جماعة الإخوان المسلمين وقادتهم من مختلف المستويات وهم يتوافدون على إسطنبول، من مصر وليبيا واليمن وقطر والكويت وسوريا وغيرها من الأقطار العربية، أنهم وجدوا في تركيا ملاذا آمنا وحاضنة لمشروعهم العابر للحدود، وفي قيادتها ممثّلة بزعيم حزب العدالة والتنمية رجب طيب أردوغان حليفا صلبا عميق الإيمان بفكرتهم ومستعدا لـ”التضحية” من أجل تحقيقها من منطلقات مبدئية.
ويتفاجأ الكثير من هؤلاء بأنّهم أصبحوا مجرّد أدوات صغيرة بأدوار وظيفية محدّدة في خدمة مشروع قومي لأمّة أخرى لا يمثّل الدين فيه سوى لبوس خارجي وواجهة للتسويق.
لقد كان الإخوان خلال العشرية الأخيرة في قلب الأحداث العاصفة التي هزّت استقرار الكثير من الأقطار العربية وطرفا أساسيا فيها، من الحرب في سوريا واليمن وليبيا، إلى أحداث مصر في 2011 وما بعدها، محاولين ركوب موجة القلاقل والاضطرابات التي شاركوا في إثارتها للانقضاض على السلطة، حتى أنهم طمعوا في تسريب شرارة الربيع العربي إلى منطقة الخليج الغنية والمستقرة عبر بوابة الكويت مستغلين تسامح السلطة هناك معهم وسماحها لهم بممارسة النشاط السياسي تحت يافطة العمل الخيري والإنساني.
فماذا جنى الإخوان العرب من كل تلك الأحداث العاصفة وماذا جنت أقطارهم، وما الذي غنمته تركيا من استقطابهم وإيوائهم؟
أداة طيّعة
رهان الإخوان على تركيا ليس رهانا على دولة وإنّما على حزب دبّت الانقسامات في صفوفه وتراجعت قاعدته الشعبية
على صعيد عملي لم تُبد تركيا منذ تأسيس دولتها الحديثة على أنقاض الإمبراطورية العثمانية المنهارة مطلع العشرية الثانية من القرن الماضي، طمعا في أراضي العرب وثرواتهم، مثلما هي حال تركيا اليوم بقيادة رجب طيب أردوغان الذي أذكت مطامِعَه حالةُ الضعف وعدم الاستقرار في عدد من الأقطار العربية، لكنّه وجد أيضا في جماعة الإخوان المسلمين أداة طيّعة ووسيلة مساعدة على تحقيق تلك المطامع.
ولا يفتقر الإخوان إلى سلاحين شديدي الفاعلية والتأثير، وهما سلاح المال والإعلام. فقد تمكّنت بعض فروع الجماعة من مراكمة ثروات طائلة على مدى عشريات من الزمن استمدتها من اختراقها للأجهزة لبعض الدول واغتنام أجزاء من ثرواتها حينا، ومن جمع التبرعات دون ضوابط تحت يافطة العمل الاجتماعي والخيري حينا آخر، بينما تمكّن بعض عناصر الإخوان في بلدان عربية أخرى بفضل مشاريعهم التجارية والاستثمارية من مضاعفة ثرواتهم ليلتحقوا بنادي المليارديرات، مثل حميد الأحمر القيادي في حزب التجمع اليمني للإصلاح؛ الفرع المحلي من تنظيم الإخوان الدولي.
أما إعلاميا فيتحرّك الإخوان من خلال العشرات من المنابر تتوزع بين الإعلام المرئي والمسموع والمقروء والإلكتروني، من أشهرها وأكثرها وصولا للمتلقين وسائل الإعلام الممولة من قطر والتي تمارس على مدار الساعة قصفا إعلاميا مركّزا ضدّ خصوم الإخوان أفرادا وكيانات ودولا، في مقابل دعاية فجّة لتركيا وقيادتها وثناء مستمر على سياساتها وتحركاتها بشكل يكاد يرتقي إلى مستوى التأليه والتنزيه عن الخطأ.
وعن الجانب المالي والاقتصادي من أنشطة الإخوان على الأراضي التركية تقول عدّة مصادر مطّلعة إن حركة نقل وتهريب غير مسبوقة لأموال الجماعة نشطت خلال السنوات الأخيرة، وأن ثروات تقدّر بمليارات الدولارات تدفّقت على تركيا من عدّة دول عربية مثل قطر وسوريا واليمن والكويت، ومن دول أخرى عبر العالم وتمّ ضخّها في استثمارات ومشاريع تجارية تركية.
وتؤكّد تلك المصادر أن الأجهزة الرسمية التركية انخرطت في عملية النقل والتهريب تلك وساهمت في تسهيلها وضمان انسيابيتها، حيث كانت تركيا التي شهدت أزمات مالية واقتصادية متلاحقة وذات ارتباط مباشر بسياسة الرئيس أردوغان والمشاكل الكثيرة التي أثارها والصراعات الإقليمية التي أقحم فيها بلاده، بأشدّ الحاجة إلى جلب الأموال وتنشيط حركتها التجارية والاستثمارية.
قطع خط الرجعة
لقد قطع الإخوان خطّ الرجعة إلى أقطارهم ومجتمعاتهم التي أساؤوا السيرة والسلوك فيها وخاضوا مواجهات شرسة ضدّ مختلف مكوناتها وتياراتها السياسية والفكرية وشنوا أشرس الحملات على قياداتها السياسية، بل انخرطوا في مؤامرات وأنشطة دموية جعلتهم ملاحقين بتهم الإرهاب، ما جعل الكثيرين منهم يلوذون بقطر ثم بتركيا، ليفتحوا من هناك جبهات حروب إعلامية على كل من يعارض السياسة التوسعية لأردوغان ويرفض تدخّله في الشؤون الداخلية لدول المنطقة وانتهاك قوّاته ومرتزقته لحرمة أراضي دول مثل سوريا والعراق وليبيا، بل إنّ من عناصر الإخوان ومنظّريهم وإعلامييهم من يتطوّع باستدعاء تركيا إلى اليمن وحثها على التدخّل في الصراع الدائر على أرضه.
وكنموذج عن أشهر المعارك الإعلامية التي خاضها الإخوان العرب لمصلحة تركيا ضدّ بلدانهم، معركة مقتل الصحافي السعودي جمال خاشقجي في قنصلية بلاده في خريف سنة 2018، حيث مثّلت تلك الجريمة فرصة سانحة لأنقرة لتصفية حسابات مع الرياض التي كثيرا ما نظر إليها أردوغان كعقبة رئيسية في وجه مشروعه التوسّعي بالنظر إلى محورية الدور السعودي في العالمين العربي والإسلامي بما تمتلكه السعودية من مكانة دينية وسياسية واقتصادية، وهو ما يتعارض مع طموح زعيم حزب العدالة والتنمية إلى تحويل إسطنبول مركزا للعالم الإسلامي كما كانت عليه في عهد السلاطين العثمانيين الذين تمثّل سيرهم مصدر هوس للرئيس التركي.
ولم يكن الإعلاميون والسياسيون الأتراك أكثر ظهورا في الحرب الدعائية التي شنّتها على السعودية بسبب مقتل الصحافي، من عدد من الوجوه الإخوانية العربية المقيمة في إسطنبول، والتي شكّلت جوقة متناغمة من كبار أعلامها الإخوانيةُ اليمنية توكّل كرمان التي فاقت في تحمسها للقضية أولياء دم القتيل الذين أعلنوا عفوهم عن الموظفين السعوديين المتورّطين في الجريمة.
أما مصر التي شهدت سنة 2013 إحدى أكبر “النكبات” في تاريخ الإخوان المسلمين منذ تأسيس تنظيمهم على يد حسن البنّا سنة 1928 متمثّلة في سقوط حكمهم القصير لمصر بثورة شعبية، فقد كانت هدفا رئيسيا لحملات الإخوان المقيمين في تركيا وقطر، بينما كانت فلولهم في الداخل المصري تعمل على إثارة القلاقل وتنفيذ العمليات الإرهابية ما جعل الجماعة تخسر مصر دولة ومجتمعا وتفقد آخر حاضنة شعبية لها هناك.
فهم سطحي
المعركة الإعلامية التي خاضتها عناصر إخوانية ضدّ السعودية على خلفية جريمة قتل جمال خاشقجي نموذج عن التوظيف التركي للإخوان كأدوات في الصراع مع البلدان التي تشكّل عقبة في طريق الحلم الإمبراطوري لأردوغان
لقد مثّلت قضية خاشقجي واصطفاف الإخوان فيها إلى جانب نظام أردوغان ضدّ السعودية، من جهة، نموذجا لقابلية الإخوان العرب المقيمين في تركيا للاستخدام كأدوات لتنفيذ السياسة التركية، كما عكست من جهة أخرى فهمهم السطحي لتلك السياسة، حيث بدا أنّهم مصدّقين بأنّ موقف حكومة العدالة والتنمية من القضية موقف مبدئي يتعلّق بحقوق الإنسان ونصرة المظلومين، ولم يكلّفوا أنفسهم التساؤل عن تلك الحقوق عندما يتعلّق الأمر بعشرات الآلاف من المعارضين الأتراك الذين اقتلعوا من وظائفهم وزُجّ بهم في السجون بتهمة الانتماء إلى تنظيم فتح الله غولن المتّهم بالوقوف وراء محاولة انقلاب فاشلة على أردوغان سنة 2016، أو عندما يتعلّق الأمر بحرية الصحافة والصحافيين الذين يقبع العشرات منهم في السجون التركية لمعارضتهم سياسة زعيم العدالة والتنمية ونقدهم لمواقفه، أو بحقوق الأقلية الكردية التي يعامل أفرادها كإرهابيين ويقتلع نوابها من البرلمان ويزج بهم في السجون، أو بحقوق الأرمن الذين لا يحب أردوغان أن يسمع شيئا عن مجزرة الأتراك بحقّهم، رغم أنها من الحقائق المستقرّة في التاريخ المعاصر وموثّقة بالشواهد والأدلّة المادّية.
إنّ الرهان الإخواني المبالغ فيه على تركيا يمثّل مظهرا على قصر نظرهم وافتقارهم للتفكير الاستراتيجي، فهم لا يراهنون على دولة بل على حزب راكم الكثير من الأخطاء أثناء قيادته للبلاد وبدأت شعبيته في التقلّص بينما تسرّبت الانقسامات إلى صفوفه وبدأ يفقد قوّته الانتخابية بدليل خسارته بلدية إسطنبول خلال الانتخابات البلدية الأخيرة.
وإذا خسر أردوغان السلطة خلال السنوات القادمة فسيكون الإخوان العرب إزاء نكبة جديدة، فلا أحد يتوقّع أن تتواصل علاقة أنقرة بالعواصم العربية على ما هي عليه اليوم من سوء، ومن المرجّح أن تسلك أي قيادة تركية من خارج دائرة الإسلاميين طريقا مغايرا في علاقاتها بالدول العربية وأن تتّجه نحو ترميم علاقات تركيا مع تلك الدول وإزالة أسباب الخلافات التي راكمها زعيم حزب العدالة والتنمية.
إنّ رجب طيب أردوغان بمزاجه السياسي المتقلّب وبراغماتيته المبالغ فيها حدّ الانتهازية لم يكن يوما حليفا موثوقا به لأي طرف، شخصا كان أو حزبا أو دولة. وقد بدأ عهده في حكم تركيا صديقا شخصيا لرئيس النظام السوري بشار الأسد، واستطاعا معا أن يترجما تلك الصداقة إلى وفاق سياسي وتعاون اقتصادي استمر لسنوات وحقّق نتائج على الأرض قبل أن ينقلب أردوغان على الأسد ويصبح في مقدمّة العاملين بكل الطرق على إسقاطه بما في ذلك تسريب أفواج الإرهابيين القادمين من أماكن مختلفة من العالم إلى بلاده، لينكشف بعد ذلك أن لأردوغان أطماعا حقيقية في أجزاء من الأراضي السورية وهو أمر متجسّد اليوم من خلال سيطرة الجيش التركي على مساحات من شمال سوريا وشرقها بذرائع أمنية.
تقلّب أردوغان ومزاجيته تجلّيا أيضا في العلاقات المتقلّبة لبلاده مع الولايات المتحدة وروسيا والحلف الأطلسي الذي تنتمي إليه تركيا، ومع الدول الأوروبية ولاسيما دول الاتّحاد الأوروبي الذي تراجعت الحظوظ التركية في الانضمام إليه بسبب كثرة المشاكل التي أثارها أردوغان والمتاعب التي سبّبتها سياساته لتلك الدول، ولاسيما قضية المهاجرين الذين سعت أنقرة خلال السنوات الماضية بشكل متكرّر لاستخدامهم أوراق ضغط على أوروبا، وأدوات لابتزازها سياسيا وماليا.
إنّ ما يجمع الإخوان بأردوغان هو الانتماء إلى تيار الإسلام السياسي واستخدام الدين وسيلة للوصول إلى السلطة، لكنّ ما غاب عن أذهان الكثير من العرب المنبهرين بالرئيس التركي هو طغيان نزعته القومية الشوفينية التي تجعل مشروعه مشروعا تركيا بالدرجة الأولى وتجعل منهم مجرّد أداة من ضمن أدوات كثيرة أخرى تستخدم مرحليا لتنفيذ ذلك المشروع ثم تهمل أو تُتلف عندما تنتفي الحاجة إليها.