بسام شمس الدين
تؤلمني أصابعي بمجرد أن أصافح العم حسن بسبب صلابته وقوته، وهو شيخ مسن في التسعين من العمر، مازال حاد البصر والذهن، يملك تقاطيع وجه حجري، يخال لي أنه اقتطع من جبل، طوله الذي يصل إلى مترين أصبح منحنياً، وصار يتوكأ على عصا من الخيزران، لكن قوة جسده ظلَّت مضرب مثل يتحدث عنها الأهالي.
كان فلاحًا صلبًا يحمل ثلاثة عشر حزمة من القصب الأخضر ويصعد من الوادي وهو يشرب غليونه دون اكتراث، في حين لا يقو غيره من الفلاحين على حمل خمس حزم خضر، وفي أيام تقديم الأضاحي كان يخضع الثيران الثائرة، وعندما يعجز الأهالي عن تكسير صخرة أو رفع خشبة ضخمة كان يستدعى، ومازال يملك آثارًا من قوته، ويمشي بمهابة وثقة ساخرا من شباب هذي الأيام الذين رضعوا من حليب العلب الدنمركية، حتى دعاه صديقنا الضخم “علي شروان” ذات يوم إلى منازلة بالأذرع، واصطففنا في الباحة للفرجة، وأطلت رؤوس النساء والفتيات من نوافذ المنازل المجاورة، وخلال ثوان رأيت ذراع علي ينكسر بسرعة، وندت عنه صرخة ألم لم يستطع أن يكتمها، وضحكنا وصفقنا معجبين بالشيخ المسن، فانسحب الشاب من الباحة غاضبًا، وعاد بعد قليل وهو يحمل بين يديه قطًا يافعًا، ما لبث أن قذفه إلى صدر العم حسن، فصرخ الشيخ القوي بفجيعة، ووقع على الأرض منهارًا، وكأن أسدًا هجم عليه، وظننت أنه مات.. وهرعت مندهشًا لمساعدته على النهوض، وأتى بعض الرجال وصرفوا الشباب الساخرين المتطفلين، وقدت الشيخ المفزوع باتجاه منزله، وهو يرتعش بتأثر، كنا نسير بصمت مطبق، وعند شجرة زيتون قرب مأواه العتيق اكتفى قائلاً: “بوركت يا بني، اتركني هنا”
وجلس تحت الظل ليريح جسده الراجف الذي بدا ضعيفاً بشكل لا يصدق، ولما رآني مترددًا عن الرحيل أضاف بصوت واهن:
“اجلس يا بني، أعرف ما يدور في رأسك، وأنت الوحيد الذي سأقص عليك سبب خوفي من القطط”
أخبرني مشيرًا إلى منزل مدمر مهجور مازالت أركانه باقية فوق الجبل الصغير، وهو منزلهم القديم الذي قضى فيه طفولته وشبابه، سكنوا فيه بعد أن شهور من البناء والعمل الحثيث، ولقي في سبيله أشد العناء، وأما والده فقد كان فقيهاً يقيم الصلوات بين القرويين، ولا يمارس أي عمل عضلي، كان الدار مؤلفًا من طوابق ثلاثة مبنية بالأحجار الصلبة، محصنًا بسياج حجري من الخلف له باب يخرجون منه، ويطل على هاوية الجبل والمزارع الخصيبة في الأسفل، وكانوا سعداء بالابتعاد عن صخب القرية التي يرونها في طرف الوادي، يتمتعون باستقبال نسمات هواء عليلة ويقفون فوق مدرجات خلّابة، ولم ينغص عيشهم سوى قط أسود ظهر فجأة في الدار، بحيث أخذ يعبث بطعامهم ويحطم القدور وأوعية السمن، ورآه والده يمسك أفعى حية ويرميها قرب باب الدار، وهذا أمر غريب لم يحدث أو يسمعوا عنه من قبل، حتى اعتقد الفقيه أن القط شيطان أو عدو مبين، وقامت أمه “سعادة” ـ رحمها الله ـ بإقفال فتحات النوافذ والكوات في بيت النار، ورغم ذلك لم يتوقف العبث بطعامهم وأوانيهم، وأمست المرأة المسكينة في حيرة من أمرها، وأخذت تفحص الأرضية والسقف علها تجد ثقبًا أو فتحة يتسلل منها القط الخبيث، لكنها لم تجد أي ضوء يتسرب إلى الداخل، وفي ذلك اليوم نفقت بقرتهم، وغضب والده بشدة، وأهدر دم القط، وقال إن الدين يجيز قتل الكائنات الضارة، والتفت إلى ابنه الشاب العشريني القوي الذي يرفع أكياس الحبوب الممتلئة بيد واحدة، وخاطبه قائلاً بسخط:
“حسن، اقتل هذا القط الملعون الذي يجلب الهوام؟ أنت معفي من أعمال الحقول، هلا تفعل ذلك قبل أن يتسبب بالمزيد من الأضرار للعجول؟”
رد بتملق نافخًا صدره العريض: “طوع أمرك، استطيع أن أقتل أسدًا إن شئت”.
في حقيقة الأمر، كان سعيدًا بسبب إعفائه من العمل، واعتزم أن يناور القط يومًا أو يومين، ثم يقضي عليه في الحال، وفي اليوم التالي، كان والداه وشقيقاته وهو كذلك يراقبون قدوم القط الأسود، وحين ظهر قرب السياج لم يستطع أن يناور، بل انتزع حجرًا من الأرض، وقذفه باتجاه القط بقوة، فزاغ الحجر، وتفتت على السياج، وطارده مليًا وأمطره بالأحجار دون جدوى، وارتد خائبًا محرجًا، ورأى الخيبة تظهر في وجوه أهل الدار، واعترف أن صيد هذا القط ليس يسيراً كما كان يظن لأن الأحجار كانت تزوغ عنه بشكل غريب، وظل طوال الليل يصنع فخًا، ولم ينم حتى نصب صندوقًا عتيقًا مفتوحًا، وثبت في مقدمته لوحًا يسقط حين يدخل الحيوان إليه، وترك فيه دجاجة ميتة طعما، وفي الصباح قبض على القط، وحاول أن يكسر عنقه، ولكنه كان صلبًا مثل الصخر، فضحك أمام والديه وشقيقاته الذين يعرفون مدى قوته، ومن ثم أخفى عجزه، مدعيًا أن قلبه لم يطاوعه على قتله بتلك الطريقة الوحشية، وصعد إلى سطح الدار الذي يطل على الهاوية، وهم خلفه يراقبون بحرص، وهناك قذف القط إلى الهاوية، ومسح يديه مخليًا مسئوليته، فتنفسوا الصعداء، وسمع والده يقول لتبرئة الذمة: “أليس هذه الطريقة أكثر وحشية من كسر عنقه؟” فرد عليه باطمئنان: “بل يستحق الموت بألف طريقة”
وذهب إلى الحقول بعد زوال الخطر، وحين عاد سمع والده يصرخ في وجهه باضطراب:
“القط حي يا حسن، لقد رأيته بأم عيني خلف السياج”
رد بذهول: “غير معقول، لعلك رأيت قطًا آخر”
ونزل يبحث عن جثة القط، ولم يجد شيئاً، وما لبث أن رآه حول السياج وعرفه، وارتجفت أعماقه، كيف نجا من الموت؟! ارتفاع الهاوية مائتين متر وأكثر، ومع ذلك، لم يتوقف أذى القط الأسود، وصاروا يرونه في كل مكان، وصار والده الفقيه المؤمن يقرأ آيات القرآن ويبخر الدار مستعيذًا بالله من الشياطين والشرور، ولكن ذلك لم ينفع أيضًا، فقد نفقت عجولهم، وصاروا يرون القط في كل مكان، حتى صار يهاجمهم في أحلامهم، وظنوا أن هناك أكثر من قط، فانتقلوا إلى منزلهم القديم في القرية، وما إن فتحت أمه “سعادة” الدار حتى قفز القط الأسود من أمامها، فصرخت بصوت عالٍ: “القط في الدار”.. وذعر والده وامتدت يده إلى وجهها وصفعها بقسوة، فهربت إلى بيت أهلها، ورفض والده أن يسترجعها، بل خطب أرملة من جيرانهم، وتزوج، وعادت أمه بعد شهور لتقطن في دار الجبل، وظلت الأيام تسير قدمًا، متآلفين مع قدرهم حتى رزق والده بطفل ذكر أطلق عليه اسم عبدالله، فظهر ضاحكاً، ولم يره أحد يضحك منذ زمن، وأمره بذبح خروف لأجل المناسبة، ووضع حرزا على عنق المولود وزوده بالرقى الحامية من الشر، وطلب من امرأته الجديدة ألا تفارق الصغير لحظة واحدة، فكانت تعد الطعام وتدخل الحمام وهو في صدرها، وصار والده يمشي بزهو، وفي يوم، ذهبت امرأته مهرولة إلى جارتها لتستعير شيئًا من الطحين، تاركة الرضيع نائمًا على كيسٍ متدلٍ في الهواء مربوط إلى السقف، وأخذت الوعاء بسرعة من جارتها، وأثناء ذلك تناهى إليها بكاء الصبي، فهرولت ناثرة الطحين على الأرض، ولما وصلت قفز القط هاربًا، ورأت غشاء خصيتي ولدها مخلوعتين وعضوه متضررًا، وهو لا يتوقف عن البكاء، فصرخت بملء الصوت، وأغمي عليها، وأقبل والده محتدًا، ليقتل امرأته المهملة، لكنه وجدها منهارة شبه ميتة، فأرسله ليجلب طبيبًا شعبيًا بأي ثمن ليداوي جروح ابنه، وسافر حسن للتو، ووجد رجلًا في يريم، وحين وصلا بعد يومين من السير بالأقدام كانت جروح الصبي على وشك الشفاء من تلقاء نفسها، وقام الطبيب بشيء ما ليبرر أخذه ريالين ماريا تريزا، ثم انصرف في حال سبيله، واقترب حسن من والده المكتئب وقال بتملق:
“الطبيب يقول إن الأضرار ليست بالغة”
رد والده بصوت حاد:
“وهل تظن أخاك يستطيع أن ينجب أطفالًا أسوياء، لقد عبث القط بأعضائه”
ضحكت غصبا، وقلت حابسا ضحكي:
“لحسن الحظ أنها لم تؤكل”
صرخ في وجهه بانفعال:
“لا تهزأ أيها القوي، اجلب القط إلي حيًا أو ميتًا لاقتلع خصيتيه”
وأمسك عصاه الخيزران، فهرول حسن خارجًا، ونصب فخًا وقع فيه القط، وجلبه إلى والده الذي استعاد بعض هدوئه وإيمانه، ومع ذلك تفرس في القط بغضب وجعل يحاكمه:
“ماذا فعلت بك حتى تعاملني وكأني ضرتك؟ من أرسلك ورائي؟ هاه، أخبرني.. هل أنت شيطان؟”
حبس ضحكته بكل ما يستطيع، وهو يرى والده الفقيه يحملق في القط مردفا:
“بوسعي أن آكل خصيتيك، لكني رجل مؤمن، والله ينهانا عن إيذاء الأسير”
وأمسك حسن أعصابه عن الضحك خاشيًا أن يفلت القط من قبضته، كان الحيوان يموء هازا رأسه بشكل يدعو للشفقة، لم تعد عينان تلمعان بتحدٍ كما يحدث حين يكون طليقًا، ونظر أبوه إليه قائلًا بسخط:
“هل تخدعني يا حسن؟ هذا ليس القط الملعون”
أجاب بصوت مستميت:
” بل هو القط الخبيث”
“سنرى ذلك”
وقذف إليه ريالين، وطلب منه بانفعال أن يقذفه في البحر، ولم يكن حسن يومئذٍ يعرف ما هو البحر، ولا أين يوجد هذا المكان، ولكنه فهم من كلام والده أن عليه أن يحمل الحيوان إلى مكان بعيد جدًا، ينفيه هناك، وسافر للتو، حاملاً القط داخل كيس مقفل يحوي ثقوباً صغيراً تسمح له بالتنفس، وسار أسبوعين حتى تصلبت عضلات قدميه، وجلس ليرتاح في سوق شعبي على ضواحي مدينة جبلة، وهناك قابل أناسا يرتدون ملابس غريبة ويتكلمون بلهجة شاقة الفهم، فظن للوهلة الأولى أنه تجاوز البحر، وحين سألهم عنه ضحكوا، وقالوا إن البحر ليس أرضا من اليابسة كما يظن، بل هو حوض مائي عملاق، ويعوزه شهر للوصول إليه، لكنه كان خائرًا للغاية، ولم يعد هناك سوى القليل من الريالين، ولا ريب أن والده بالغ في طلبه، وفي كل الأحوال لا يظن القط يستطيع العودة إلى القرية، لأنه هو نفسه لا يستطيع أن يعود في حال توقف عن السؤال عن الأماكن والطرقات، وهكذا اطمأن، وعرج إلى بائع جص ونورة، وطلب منها القليل، وضحك الرجل وهو يراه يطلي قدمي القط، ولم يكترث أو يبرر فعله للبائع، وانصرف إلى قرب دكان جزار ورمى الحيوان البغيض هناك، وقفل راجعا وهو يشعر بخفة عجيبة وكأنه تخلص من جبل يثقل عاتقه، حتى وصل إلى مشارف القرية بعد أسبوع من السير الجاد، واقترب من منزلهم مترنحًا بسبب تورم قدميه، ولكن زهوه وسروره كانا ظاهرين على محياه، وفجأة قفز قط أسود عليه وخمش بمخالبه وجهه حتى نز الدم من عارضيه، واختفى في طرفة عين، وأغمي عليه حين رأى آثار طلاء النورة البيضاء عالمة في وجهه.